جلسة 4 يناير سنة 1992
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة، وحضور السادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف ومحمد على عبد الواحد – أعضاء، وحضور السيد المستشار/ السيد عبد الحميد عمار – المفوض، وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد – أمين السر.
قاعدة رقم (14)
القضية رقم 22 لسنة 8 قضائية “دستورية”
1 – دعوى دستورية “المصلحة فيها”.
مناط المصلحة الشخصية والمباشرة فى الدعوى الدستورية، وهى شرط لقبولها، أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية، بأن يكون الفصل فى المسألة الدستورية لازما للفصل فى الطلبات الموضوعية.
2 – دعوى دستورية “المصلحة فيها” – تشريع “إلغاؤه”.
الغاء النص المطعون عليه، لا يحول دون الفصل فى الطعن بعدم دستوريته ممن طبق عليهم خلال فترة نفاذه وترتبت بمقتضاه آثار قانونية بالنسبة إليهم، طالما لم يسقط التشريع اللاحق تلك الآثار.
3 – عقوبة انضباطية “تكييفها”.
العقوبات الإنضباطية التى قررتها المادة 113 مكررا المضافة بالقرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 إلى القانون رقم 232 لسنة 1959 والتى يجوز للقادة توقيعها بغية إحكام سيطرتهم على مرؤوسيهم وتقويم إعوجاجهم عند مخالفتهم القوانين أو الأوامر أو التقاليد العسكرية أو خروجهم على موجباتها وعدم التقيد الصارم بها، هى فى تكييفها الصحيح جزاء عن جرائم تأديبية قوامها إخلال المرؤوسين بواجباتهم التى تمليها قواعد الانضباط ومقتضيات النظام العسكرى – بروز طبيعتها التأديبية بوجه خاص أثناء خدمة الميدان، حيث يعتبر القادة ملتزمين بمراعاة القواعد الانضباطية وتطبيقها بكل حزم ودعمها بين أفراد وحداتهم ضمانا لطاعتهم المطلقة لأوامر رؤسائهم وصونا لوحداتهم بالتالى خصائصها القتالية العالية.
4 – عقوبة انضباطية “تكييفها – استقلال عن العقوبة الجنائية” – عقوبة جنائية.
الطبيعة التأديبية للعقوبات الانضباطية، لا ينال منها أن يكون توقيعها حال مقارفة أحد الضباط لإحدى الجرائم المقررة لها عقوبات جنائية والمنصوص عليها فى قانون الأحكام العسكرية – أساس ذلك، استقلال العقوبة الانضباطية عن العقوبة الجنائية – باعتبار أن الفعل الواحد قد يكون جريمة مسلكية وجريمة جنائية فى آن واحد، وأن توقيع العقوبة التأديبية فى شأن واقعة بعينها لا يحول دون رفع الدعوى الجنائية عن الواقعة ذاتها، وأن العقوبة الجنائية إنما تكون فى الأصل عن جريمة يعين القانون أركانها فى صلبه ولا يتخلى كلية عن تحديدها إلى أداة أدنى، خلافا للخطأ الانضباطى الذى قد يعهد المشرع بتحديد إلى سلطة لائحية – توكيد ذلك إناطة المادة 24 من قانون الأحكام العسكرية أمر تحديد الجرائم والعقوبات الانضباطية إلى قرار يصدر عن السلطات العسكريه المختصة طبقا للقانون، خلاف للنهج الذى احتذاه هذا القانون فى شأن الجرائم العسكرية والعقوبات المقررة لها إذ بين فى صلبة كافة أحكامها.
5 – عقوبة إنضباطية “ضوابطها”.
عدم إحاطة الجزاء الانضباطى فى توقيعه بالضمانات ذاتها التى توفرها المحاكم الجنائية، واقتضائه لضرورة سيطرة القادة والرؤساء على وحداتهم وإقرار النظام الدقيق بين أفرادها – أثره، وجوب ألا يطول أمد توقيعه وأن يكون مؤثرا وفعالا.
6 – دستور “تفسير نصوصه”.
الأصل فى النصوص الدستورية أنها تؤخذ باعتبارها متكاملة، وأن المعانى التى تتولد عنها يتعين أن تكون مترابطة بما يرد عنها التنافر أو التعارض، وأن لكل من النصوص الدستورية مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص استقلالا لا يعزلها عن بعضها البعض، وإنما يقوم منها فى مجموعها ذلك البنيان الذى يعكس ما ارتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
7 – دستور “تفسير نصوصه”.
فى تفسير النصوص الدستورية لا يجوز النظر إليها بما يبتعد بها عن غايتها النهائية ولا بوصفها هائمة فى الفراغ أو باعتبارها قيما مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعى، وإنما يتعين دوما أن تحمل مقاصدها بمراعاة أن الدستور وثيقة تقدمية لا ترتد مفاهيمها إلى حقبة ماضيه وإنما تمثل القواعد التى يقوم عليها والتى صاغتها الإرادة الشعبية، انطلاقة إلى تغيير لا تصد عن التطور آفاقه الرحبة.
8 – الدولة القانونية “ماهيتها”.
الدولة القانونية هى التى تتقيد فى كافة مظاهر نشاطها وأيا كانت طبيعة سلطاتها بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطا لأعمالها وتصرفاتها فى أشكالها المختلفة، وتتوافر فيها لكل مواطن الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته.
9 – مبدأ مشروعية السلطة – مبدأ خضوع الدولة للقانون.
عدم مشروعية السلطة ما لم تكن وليدة الإرادة الشعبية وتعبيرا عنها – إنبثاق هذه السلطة عن تلك الإرادة لا يفيد بالضرورة أن من يمارسها مقيد بقواعد قانونية تكون عاصما من جموحها وضمانا لردها على أعقابها إن هى جاوزتها – حتمية قيام الدولة فى مفهومها المعاصر، وخاصة فى مجال توجهها نحو الحرية، على مبدأ مشروعية السلطة مقترنا ومعززا بمبدأ الخضوع للقانون باعتبارهما مبدآن متكاملان لا تقوم بدونهما المشروعية فى أكثر جوانبها أهمية ولأن الدولة القانونية هى التى يتوافر فيها لكل مواطن الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته وتنظيم السلطة وممارستها فى إطار من المشروعية
10 – دستور – مبدأ خضوع الدولة للقانون – مبدأ مشروعية السلطة – مبدأ مشروعية استقلال القضاء وحصانته.
النص فى المادة 65 من الدستور على خضوع الدولة للقانون وأن استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، دلالته: نظام الدولة القانونية – ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا لأحد ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها – قيام الدولة على مبدأ مشروعية السلطة مقترنا ومعززا بمبدأ الخضوع للقانون – القضاء دعامة الدولة القانونية من خلال استقلاله وحصانته لتكون القاعدة القانونية محوراً لكل تنظيم، وحدّا لكل سلطة، ورادعا ضد العدوان.
11 – دستور “ديمقراطية – مبدأ خضوع الدولة للقانون” – عقوبة تأديبية “الأثر الرجعى” – حريات وحقوق عامة.
خضوع الدولة للقانون محدد على ضوء مفهوم الديمقراطية، طبقا للمواد 1، 3، 4، 65 من الدستور مرتبطة، مؤداه، ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية وضمانه أساسية لصون حقوق الإنسان وحرياته وكرامته وشخصيته المتكاملة – يندرج تحتها طائفة من الحقوق تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى كفلها الدستور فى المادة 41 منه واعتبرها من الحقوق الطبيعية التى لا تمس، من بينها الا تكون العقوبة الجنائية التى توقعها الدولة بتشريعاتها مهنية فى ذاتها أو ممعنة فى قسوتها أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الرسائل القانونية السليمة أو متضمنة معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد – مما ينافى الدولة القانونية سريان العقوبة التأديبية بأثر رجعى بتطبيقها على أفعال لم تكن حين اتيانها تشكل ذنبا إداريا مؤاخذا عليه بها.
12 – عقوبة إنضباطية “الأثر الرجعى”.
النص فى المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 على إعمال حكم المادة 113 مكررا من القانون رقم 232 لسنة 1959، بأثر رجعى، غطاء لفترة زمنية لم تكن فيها العقوبات الانضباطية التى عددتها قائمة فى تاريخ وقوع الأفعال محل المؤاخذة التأديبية، مخالف للمواد 1، 3، 4، 65 من الدستور.
1 – 2 – لما كان القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963، قد نشر فى الجريدة الرسمية فى 11 مارس سنة 1963، وعمل به – وفقا لنص المادة الثانية منه (المطعون عليها) – بأثر رجعى اعتبارا من أول يناير سنة 1963، وكان هذا القرار بقانون قد صدر مضيفا إلى القانون رقم 232 لسنة 1959 فى شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة، مادة جديدة برقم 113 مكررا تحول نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، عندما تكون هذه القوات فى خدمة الميدان، أن يوقع على الضباط الذين يرتكبون إحدى الجرائم المنصوص عليها فى المواد 133، 134، 135 من قانون الاحكام العسكرية العقوبات الانضباطية التى حددتها، ويندرج تحتها تنزيل الضابط إلى رتبة ضابط صف أو عسكرى. متى كان ذلك، وكان القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 المشار إليه قد ألغى بالقرار بقانون رقم 18 لسنة 1967، الا أن هذا الإلغاء لا يحول بين هذه المحكمة وبين الفصل فى دستورية المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 المطعون عليها فى الدعوى الماثلة. ذلك أن أحكام هذا القرار بقانون، هى التى جرى تطبيقها خلال فترة نفاذها فى حق مورث المدعين، وترتبت بمقتضاها آثار قانونية بالنسبة إليه تتمثل فى تجريده من رتبته وإنهاء خدمته، وهى آثار لم يسقطها القرار بقانون رقم 18 لسنة 1967، إذ عمل به بأثر مباشر اعتبارا من تاريخ نشره فى 6 يوليه سنة 1967 وبالتالى ظل الأثر الرجعى لنص المادة الثانية المطعون عليها قائما، وظل باقيا كذلك ما رتبته من آثار العقوبة الانضباطية التى وقعتها السلطة القيادية، وهى عقوبة نازع مورث المدعين فى مشروعيتها بالنسبة إليه، بمقولة تعلقها بأفعال لم تكن النصوص القانونية المعمول بها عند ارتكابها تقرر فى شأنها هذه العقوبة المجحفة بما يعدم أساس فرضها. إذ كان ذلك، وكان مناط المصلحة الشخصية والمباشرة فى الدعوى الدستورية – وهى شرط لقبولها ـ أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية وذلك بأن يكون الفصل فى المسألة الدستورية لازما للفصل فى الطلبات المرتبطة بها المطروحة أمام محكمة الموضوع، فإن مصلحة المدعين فى الطعن على الأثر الرجعى الذى تضمنته المادة الثانية من القرار بقانون رقم 132 لسنة 1963 المشار إليه – والذى تعلق به المركز القانونى لمورثهم – تكون قائمة.
3 – البين من المادة 113 مكررا التى أضافها القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 إلى أحكام القانون رقم 232 لسنة 1959 فى شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة، إن العقوبات الانضباطية التى قررتها والتى يجوز للقادة توقيعها بغية أحكام سيطرتهم على مرؤوسيهم، ولتقويم اعوجاجهم عند مخالفتهم القوانين أو الأوامر أو التقاليد العسكرية، أو خروجهم على موجباتها وعدم التقيد الصارم بها، هى فى تكييفها الصحيح جزاء عن جرائم تأديبية قوامها إخلال المرؤوسين بواجباتهم التى تمليها قواعد الانضباط ومقتضيات النظام العسكرى. ومن ثم تعتبر هذه العقوبات الانضباطية وثيقة الصلة بضمان الطاعة الواعية للأوامر، والعمل بموجبها دون إبطاء أو كلل. وتبرز طبيعتها التأديبية بوجه خاص أثناء خدمة الميدان، إذ يعتبر القادة ملتزمين بمراعاة القواعد الانضباطية وتطبيقها بكل حزم ودعمها بين أفراد وحداتهم بالقوة والصلابة اللازمين، وذلك لضمان طاعتهم المطلقة لاوامر رؤسائهم وعدم التردد فى تنفيذها، أو تنفيذها فى غير توقيتاتها المحددة، وبما يحول دوما دون معارضتها، ويصون لوحداتهم بالتالى خصائصها القتالية العالية.
4، 5 – الطبيعة التأديبية للعقوبات الانضباطية المنصوص عليها فى المادة 113 مكررا، لا ينال منها أن يكون توقيعها حال مقارفة أحد الضباط لإحدى الجرائم المنصوص عليها فى المواد 133، 134، 135، من قانون الأحكام العسكرية، ذلك أن تقرير عقوبات جنائية عن تلك الجرائم قد تصل إلى الإعدام وانعقاد الاختصاص فى شأن المحاكمة عنها لقضاة عسكريين، لا يحول دون تقرير مساءلة تأديبية عن هذه الفعال ذاتها، وانعقاد الاختصاص فى شأن تقدير الجزاء على ارتكابها للقادة والرؤساء فى وحداتهم بوصفهم مسئولين عن الانضباط فيها، ومن ثم تستقل العقوبة الانضباطية فى مجال تطبيقها وإجراءاتها والسلطة المختصة بتوقيعها عن العقوبة الجنائية، باعتبار أن الفعل الواحد قد يكون جريمة مسلكية وجريمة جنائية فى آن واحد، وأن توقيع العقوبة التأديبية فى شأن واقعة بعينها لا يحول دون رفع الدعوى الجنائية عن هذه الواقعة ذاتها، وإنه وإن صح القول بأن الجزاء الانضباطى لا يكون محاطا فى توقيعه بالضمانات ذاتها التى توفرها المحكمة الجنائية، إلا أن هذا الجزاء تقتضيه ضرورة سيطرة القادة والرؤساء على وحداتهم وإقرار النظام الدقيق بين أفرادها، ويتعين بالتالى ألا يطول أمد توقيعه، وأن يكون مؤثرا وفعالا. وليس أدل على استقلال الجزاء الانضباطى عن العقوبة الجنائية من أن هذه العقوبة إنما تكون فى الأصل عن جريمة يعين القانون أركانها فى صلبه، ولا يتخلى كلية عن تحديدها إلى أداة أدنى، وذلك خلافا للخطأ الانضباطى، ذلك أن المشرع قد يعهد بأمر تحديده إلى سلطة لائحيه، وغلبا ما تقرر أكثر من جزاء للخطأ الواحد كى تقدر السلطة المختصة بتوقيعه ما يكون مناسبا – من بينها – لكل حالة على حدة، وهو ما أكدته المادة 24 من قانون الأحكام العسكرية الصادر بالقانون رقم 25 لسنة 1966 حين ناطت أمر تحديد الجرائم والعقوبات الانضباطية إلى قرار يصدر عن السلطات العسكرية المختصة طبقا للقانون، وذلك خلافا للنهج الذى احتذاه هذا القانون فى شأن الجرائم العسكرية والعقوبات المقررة لها، إذ بين فى صلبه كافة أحكامها.
6، 7 – الأصل فى النصوص الدستورية أنها تؤخذ باعتبارها متكاملة، وان المعانى التى تتولد عنها يتعين أن تكون مترابطة فيما بينها بما يرد عنها التنافر أو التعارض. هذا بالإضافة إلى أن هذه النصوص إنما تعمل فى إطار وحدة عضوية تجعل من أحكامها نسيجا متآلفا متماسكا بما مؤداه أن يكون لكل نص منها مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص استقلالا لا يعزلها عن بعضها البعض، وإنما يقيم منها فى مجموعها ذلك البنيان الذى يعكس ما ارتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يجوز بالتالى أن تفسر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة فى الفراغ، أو باعتبارها قيما مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعى، وإنما يتعين دوما أن تحملا مقاصدها بمراعاة أن الدستور وثيقة تقدمية لا ترتد مفاهيمها إلى حقبة ماضية وإنما تمثل القواعد التى يقوم عليها، والتى صاغتها الإرادة الشعبية، انطلاقة إلى تغيير لا تصد عن التطور آفاقه الرحبة.
8، 9 – إن الدستور إذ نص فى المادة 65 منه على خضوع الدولة للقانون وإن استقلال القضاء وحصانته ضمانا أساسيان لحماية الحقوق والحريات، فقد دل بذلك على أن الدولة القانونية هى التى تتقيد فى كافة مظاهر نشاطها – وأيا كانت طبيعة سلطاتها – بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطا لأعمالها وتصرفاتها فى أشكالها المختلفة، ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا لأحد، ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها. ولئن صح القول بأن السلطة لا تعتبر مشروعة ما لم تكن وليدة الإرادة الشعبية وتعبيرا عنها، إلا أن إنبثاق هذه السلطة عن تلك الارادة وارتكازها عليها لا يفيد بالضرورة إن من يمارسها مقيد بقواعد قانونية تكون عاصما من جموحها وضمانا لردها على أعقابها إن هى جاوزتها متخطية حدودها، وكان حتما بالتالى أن تقوم الدولة فى مفهومها المعاصر – وخاصة فى مجال توجهها نحو الحرية – على مبدأ مشروعية السلطة مقترنا ومعززا بمبدأ الخضوع للقانون باعتبارهما مبدآن متكاملان لا تقوم بدونهما المشروعية فى أكثر جوانبها أهمية، ولأن الدولة القانونية هى التى تتوافر لكل مواطن فى كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته، ولتنظيم السلطة وممارستها فى إطار من المشروعية، وهى ضمانة يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل تنظيم، وحدّا لكل سلطة ورادعا ضد العدوان.
10، 11 – إن الدستور إذ نص فى مادته الأولى على أن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى اشتراكى، وفى مادته الثالثة على أن السيادة للشعب….. وهو يمارسها ويحميها على الوجه المبين فى الدستور، وفى مادته الرابعة على أن الأساس الاقتصادى لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكى الديمقراطى. فإن مؤدى هذه النصوص – مرتبطة بالمادة 65 من الدستور – أنه فى مجال حقوق المواطن وحرياته الأساسية. فإن مضمون القاعدة القانونية التى تسمو فى الدولة القانونية عليها، وتتقيد هى بها. إنما يتحدد على ضوء مستوياتها التى التزمتها الدول الديمقراطية بإطراد فى مجتمعاتها، واستقر العمل بالتالى على انتهاجها فى مظاهر سلوكها المختلفة. وفى هذا الإطار، والتزاما بأبعاده، لا يجوز للدولة القانونية فى تنظيماتها المختلفة أن تنزل بالحماية التى توفرها لحقوق مواطنيها وحرياتهم عن الحدود الدنيا لمتطلباتها المقبولة بوجه عام فى الدول الديمقراطية، على أن تفرض على تمتعهم بها أو مباشرتهم لها قيودا تكون فى جوهرها أو مداها مجافية لتلك التى درج العمل فى النظم الديمقراطية على تطبيقها. بل أن خضوع الدولة للقانون محددا على ضوء مفهوم ديمقراطى مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى تعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطيه مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الانسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة من الحقوق تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى كفلها الدستور فى المادة 41 منه واعتبرها من الحقوق الطبيعية التى لا تمس، من بينها ألا تكون العقوبة الجنائية التى توقعها الدولة بتشريعاتها مهينة فى ذاتها، أو ممعنة فى قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد. كذلك فإنه مما ينافى مفهوم الدولة القانونية على النحو السالف بيانه أنه تقرر الدولة سريان عقوبة تأديبية بأثر رجعى، وذلك بتطبيقها على أفعال لم تكن حين إتيانها تشكل ذنبا إداريا مؤاخذا عليه بها مثلما هو الحال فى الدعوى الراهنة.
12 – إن أعمال حكم المادة 113 مكررا من القانون رقم 232 لسنة 1959 المضافة بالقرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 – الذى نشر فى الجريدة الرسمية فى 11 مارس سنة 1963 – بأثر رجعى يرتد إلى أول يناير سنة 1963، مؤداه أن العقوبات الانضباطية المقررة بها لم تكن قائمة فى تاريخ وقوع الفعل محل المؤاخذة التأديبية فى الدعوى الماثلة، ومن ثم يكون نص المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 – الذى أعمل هذه الرجعية – مخالفا فى هذا النطاق لأحكام المواد 1، 3، 4، 65 من الدستور.
الإجراءات
بتاريخ 25 سبتمبر سنة 1986 ورد إلى قلم كتاب المحكمة أورق الدعوى رقم 133 لسنة 1979 برية، بعد أن قررت اللجنة القضائيه لضبط القوات البرية بجلسة 27 أغسطس سنة 1986 وقف الدعوى وإحالة الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العليا، للفصل فى دستورية المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 فيما نصت عليه من العمل بأحكامه اعتبارا من أول يناير سنة 1963.
وقدمت هيئة قضايا الدولة، مذكرة طلبت فيها رفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
وونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة اصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الإطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من قرار الإحالة وسائر الأوراق – تتحصل فى أن مورث المدعين كان قد أقام الدعوى رقم 1169 لسنة 26 قضائية أمام محكمة القضاء الإدارى ضد وزير الحربية طالبا فيها الحكم بإلغاء قرار نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بعزله إلى رتبة عسكرى وما يترتب على ذلك من آثار. وإذ أحيلت الدعوى إلى المحكمة الإدارية للعاملين بوزارة الحربية التى انتهت فى 27 مارس سنة 1973 إلى عدم اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إدارى بنظرها، فقد طعن المدعى على حكمها أمام الدائرة الإستئنافية بمحكمة القضاء الإدارى، إلا أن هذه المحكمة احالتها إلى اللجنة المختصة بها – وهى – اللجنة القضائية لضباط القوات البرية – حيث قيدت أمامها برقم 133 لسنة 1979 برية. وإذ تبين لهذه اللجنة أن مورث المدعين كان نقيبا حين أصدر نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة قرارا بمعاقبته انضباطيا وذلك بتنزيله إلى درجة عسكرى لعدم قيامه بواجبه فى الميدان، وكان هذا الجزاء يفتقر – فى تقدير اللجنة – إلى نص قانونى يستند إليه إذ وقعته سلطة قيادية أعمالا للمادة 113 مكررا من القانون رقم 232 لسنة 1959 فى شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة المضافة إليه بالقرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 الذى تنص مادته الثانية على العمل بحكم المادة 113 مكررا بأثر رجعى اعتبارا من أول يناير سنة 1963، مستهدفة بهذه الرجعية تغطية الفترة التى قام فيها نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بتوقيع عقوبات عن أفعال لم تكن القوانين المعمول بها آنئذ تقرر جزاء انضباطيا على ارتكابها، فقد أحالت اللجنة المشار إليها نص المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 إلى هذه المحكمة للفصل فى دستورية ما قررته من العمل بأحكام المادة 113 مكررا سالفة البيان اعتبارا من أول يناير سنة 1963 قولا منها بأن حكمها يتضمن مخلفة لنص المادة 66 من الدستور لفرضها عقوبات عن أفعال سابقة على صدور هذا القرار بقانون، وهى أفعال يتطلب قانون الأحكام العسكرية ألا توقع فى شأنها عقوبة إلا بحكم قضائى بوصفها منطوية على تهم لا تجوز مواجهتها بعقوبة انضباطية تفتقر إلى ضمانات المحكمة الجنائية العسكرية.
وحيث إن القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 قد نشر فى الجريدة الرسمية فى 11 مارس سنة 1963، وعمل به اعتبارا من أول يناير سنة 1963 قد نص فى مادته الأولى على إضافة مادة جديدة برقم 113 مكررا إلى القانون رقم 232 لسنة 1959 فى شأن شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة تخول نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة عندما تكون القوات فى خدمة الميدان، أن يوقع على الضباط الذين يرتكبون إحدى الجرائم المنصوص عليها فى المواد 133، 134، 135 من قانون الأحكام العسكرية: العقوبات الانضباطية الآتى بيانها: 1 – حرمان الضابط من أقدميته فى الرتبة 2 – تنزيله من رتبته إلى رتبة أدنى منها 3 – تنزيله إلى درجة ضابط صف أو عسكرى. كما نص هذا القرار بقانون – فى مادته الثانية ـ على أن ينشر فى الجريدة الرسمية ويعمل به اعتبارا من أول يناير سنة 1963.
وحيث إنه وإن كان القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 المشار إليه قد ألغى بالقرار بقانون رقم 18 لسنة 1967، إلا أن هذا الإلغاء لا يحول بين هذه المحكمة ـ وعلى ما جرى عليه قضاؤها – وبين الفصل فى دستورية المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 المطعون عليها فى الدعوى الماثلة. ذلك أن أحكام هذا القرار بقانون هى التى جرى تطبيقها خلال فترة نفاذها فى حق مورث المدعين، وترتبت بمقتضاها آثار قانونية بالنسبة إليه تتمثل فى تجريده من رتبته وإنهاء خدمته، وهى آثار لم يسقطها القرار بقانون رقم 18 لسنة 1967، إذ عمل به بأثر مباشر اعتبارا من تاريخ نشره فى 6 يوليه سنة 1967، وبالتالى ظل الأثر الرجعى لنص المادة الثانية المطعون عليها قائما، وظل باقيا كذلك ما رتبته من آثار العقوبة الانضباطية التى وقعتها السلطة القيادية، وهى عقوبة نازع مورث المدعين فى مشروعيتها بالنسبة إليه، بمقولة تعلقها بأفعال لم تكن النصوص القانونية المعمول بها عند ارتكابها تقرر فى شأنها هذه العقوبة المجحفة بما يعدم أساس فرضها. إذ كان ذلك، وكان مناط المصلحة الشخصية والمباشره فى الدعوى الدستورية – وهى شرط لقبولها ـ أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية وذلك بأن يكون الفصل فى المسألة الدستورية لازما للفصل فى الطلبات المرتبطة بها المطروحة أمام محكمة الموضوع، فإن مصلحة المدعين فى الطعن على الأثر الرجعى الذى تضمنته المادة الثانية من القرار بقانون رقم 132 لسنة 1963 المشار إليه – والذى تعلق به المركز القانونى لمورثهم – تكون قائمة.
وحيث إن المبين من المادة 113 مكررا التى أضافها القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 إلى أحكام القانون رقم 232 لسنة 1959 المشار إليه، أن العقوبات الانضباطية التى قررتها والتى يجوز للقادة توقيعها بغية إحكام سيطرتهم على مرؤوسيهم، ولتقويم اعوجاجهم عند مخالفتهم القوانين أو الأوامر أو التقاليد العسكرية، أو خروجهم على موجباتها وعدم التقيد الصارم بها، هى فى تكييفها الصحيح جزاء عن جرائم تأديبية قوامها إخلال المرؤوسين بواجباتهم التى تمليها قواعد الانضباط ومقتضيات النظام العسكرى، ومن ثم تعتبر هذه العقوبات الانضباطية وثيقة الصلة بضمان الطاعة الواعية للأوامر، والعمل بموجبها دون إبطاء أو كلل. وتبرز طبيعتها التأديبية بوجه خاض أثناء خدمة الميدان، إذ يعتبر القادة ملتزمين بمراعاة القواعد الانضباطية وتطبيقها بكل حزم ودعمها بين أفراد وحداتهم بالقوة والصلابة اللازمين، وذلك لضمان طاعتهم المطلقة لأوامر رؤسائهم وعدم التردد فى تنفيذها، أو تنفيذها فى غير توقيتاتها المحددة، وبما يحول دوما دون معارضتها، ويصون لوحداتهم بالتالى خصائصها القتالية العالية.
وحيث إنه لا ينال من الطبيعة التأديبية للعقوبات الانضباطية المنصوص عليها فى المادة 113 مكررا المشار إليها، أن يكون توقيعها حال مقارفة أحد الضباط لإحدى الجرائم المنصوص عليها فى المواد 133، 134، 135، من قانون الأحكام العسكرية، ذلك أن تقرير عقوبات جنائية عن تلك الجرائم قد تصل إلى الاعدام وانعقاد الاختصاص فى شأن المحاكمة عنها لقضاة عسكريين، لا يحول دون تقرير مساءلة تأديبية عن هذه الأفعال ذاتها، وانعقاد الاختصاص فى شأن تقدير الجزاء على ارتكابها للقادة والرؤساء فى وحداتهم بوصفهم مسئولين عن الانضباط فيها، ومن ثم تستقل العقوبة الانضباطية فى مجال تطبيقها وإجراءاتها والسلطة المختصة بتوقيعها عن العقوبة الجنائية، باعتبار أن الفعل الواحد قد يكون جريمة مسلكية وجريمة جنائية فى آن واحد، وأن توقيع العقوبة التأديبية فى شأن واقعة بعينها لا يحول دون رفع الدعوى الجنائية عن هذه الواقعة ذاتها، وإنه وإن صح القول بأن الجزاء الانضباطى لا يكون محاطا فى توقيعه بالضمانات ذاتها التى توفرها المحكمة الجنائية، إلا أن هذا الجزاء تقتضيه ضرورة سيطرة القادة والرؤساء على وحداتهم وإقرار النظام الدقيق بين أفرادها، ويتعين بالتالى ألا يطول أمد توقيعه، وأن يكون مؤثرا وفعالا. وليس أدل على استقلال الجزاء الانضباطى عن العقوبة الجنائية من أن هذه العقوبة إنما تكون فى الأصل عن جريمة يعين القانون أركانها فى صلبه، ولا يتخلى كلية عن تحديدها إلى أداة أدنى، وذلك خلافا للخطأ الانضباطى، ذلك أن المشرع قد يعهد بأمر تحديده إلى سلطة لائحية، وغالبا ما تقرر أكثر من جزاء للخطأ الواحد كى تقدر السلطة المختصة بتوقيعه ما يكون مناسبا – من بينها – لكل حالة على حدة، وهو ما أكدته المادة 24 من قانون الأحكام العسكرية الصادر بالقانون رقم 25 لسنة 1966 حين ناطت أمر تحديد الجرائم والعقوبات الانضباطية إلى قرار يصدر عن السلطات العسكرية المختصة طبقا للقانون، وذلك خلافا للنهج الذى احتذاه هذا القانون فى شأن الجرائم العسكرية والعقوبات المقررة لها إذ بين فى صلبه كافة أحكامها.
وحيث إنه إذ كان ذلك، تعين القول بأن العقوبة الانضباطية التى وقعتها السلطة الرئاسية فى حق مورث المدعين، هى عقوبة من طبيعة تأديبية، ولا شأن لها بالمجال الجنائى، وإن ما قررته المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 من سريان أحكامه بأثر رجعى، إنما توخى تغطية فترة زمنية لم تكن فيها هذه العقوبة قائمة، الأمر الذى يحتم اخضاع حكمها لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية.
وحيث إن الأصل فى النصوص الدستورية أنها تؤخذ باعتبارها متكاملة، وأن المعانى التى تتولد عنها يتعين أن تكون مترابطة فيما بينها بما يرد عنها التنافر أو التعارض. هذا بالإضافة إلى أن هذه النصوص إنما تعمل فى إطار وحدة عضوية تجعل من أحكامها نسيجا متآلفا متماسكا بما مؤداه أن يكون لكل نص منها مضمون محدد يستقل به عن غيره من النصوص استقلالا لا يعزلها عن بعضها البعض، وإنما يقيم منها فى مجموعها ذلك البنيان الذى يعكس ما ارتأته الإرادة الشعبية أقوم لدعم مصالحها فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يجوز بالتالى أن تفسر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها، ولا أن ينظر إليها بوصفها هائمة فى الفراغ، أو باعتبارها قيما مثالية منفصلة عن محيطها الاجتماعى، وإنما يتعين دوما أن تحملا مقاصدها بمراعاة أن الدستور وثيقة تقدمية لا ترتد مفاهيمها إلى حقبة ماضية وإنما تمثل القواعد التى يقوم عليها، والتى صاغتها الإرادة الشعبية، انطلاقة إلى تغيير لا يصد عن التطور آفاقه الرحبة.
وحيث إن الدستور إذ نص فى المادة 65 منه على خضوع الدولة للقانون وإن استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات، فقد دل بذلك على أن الدولة القانونية هى التى تتقيد فى كافة مظاهر نشاطها – وأيا كانت طبيعة سلطاتها – بقواعد قانونية تعلو عليها وتكون بذاتها ضابطا لأعمالها وتصرفاتها فى أشكالها المختلفة، ذلك أن ممارسة السلطة لم تعد امتيازا شخصيا لأحد، ولكنها تباشر نيابة عن الجماعة ولصالحها. ولئن صح القول بأن السلطة لا تعتبر مشروعة ما لم تكن وليدة الإرادة الشعبية وتعبيرا عنها، إلا أن انبثاق هذه السلطة عن تلك الإرادة وارتكازها عليها لا يفيد بالضرورة أن من يمارسها مقيد بقواعد قانونية تكون عاصما من جموحها وضمانا لردها على أعقابها إن هى جاوزتها متخطية حدودها، وكان حتما بالتالى أن تقوم الدولة فى مفهومها المعاصر – وخاصة فى مجال توجهها نحو الحرية – على مبدأ مشروعية السلطة مقترنا ومعززا بمبدأ الخضوع للقانون باعتبارهما مبدآن متكاملان لا تقوم بدونهما المشروعية فى أكثر جوانبها أهمية، ولأن الدولة القانونية هى التى تتوافر لكل مواطن فى كنفها الضمانة الأولية لحماية حقوقه وحرياته، ولتنظيم السلطة وممارستها فى إطار من المشروعية، وهى ضمانة يدعمها القضاء من خلال استقلاله وحصانته لتصبح القاعدة القانونية محورا لكل تنظيم، وحدا لكل سلطة، ورادعا ضد العدوان.
وحيث إن الدستور ينص فى مادته الأولى على أن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطى اشتراكى، وفى مادته الثالثة على أن السيادة للشعب….. وهو يمارسها ويحيها على الوجه المبين فى الدستور، وفى مادته الرابعة على أن الأساس الاقتصادى لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكى الديمقراطى.
وحيث إن مؤدى هذه النصوص – مرتبطة بالمادة 65 من الدستور – أنه فى مجال حقوق المواطن وحرياته الأساسية، فإن مضمون القاعدة القانونية التى تسمو فى الدولة القانونية عليها، وتتقيد هى بها، إنما يتحدد على ضوء مستوياتها التى التزمتها الدول الديمقراطية باطراد فى مجتمعاتها، واستقر العمل بالتالى على انتهاجها فى مظاهر سلوكها المختلفة. وفى هذا الإطار، والتزاما بأبعاده، لا يجوز للدولة القانونية فى تنظيماتها المختلفة أن تنزل بالحماية التى توفرها لحقوق مواطنيها وحرياتهم عن الحدود الدنيا لمتطلباتها المقبولة بوجه عام فى الدول الديمقراطية، ولا أن تفرض على تمتعهم بها أو مباشرتهم لها قيودا تكون فى جوهرها أو مداها مجافية لتلك التى درج العمل فى النظم الديمقراطية على تطبيقها. بل ان خضوع الدولة للقانون محددا على ضوء مفهوم ديمقراطى مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة من الحقوق تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى كفلها الدستور فى المادة 41 منه واعتبرها من الحقوق الطبيعية التى لا تمس، من بينها ألا تكون العقوبة الجنائية التى توقعها الدولة بتشريعاتها مهينة فى ذاتها، أو ممعنة فى قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية تغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد. كذلك فإنه مما ينافى مفهوم الدولة القانونية على النحو السالف بيانه أنه تقرر الدولة سريان عقوبة تأديبية بأثر رجعى، وذلك بتطبيقها على أفعال لم تكن حين إتيانها تشكل ذنبا إداريا مؤاخذا عليه بها مثلما هو الحال فى الدعوى الراهنة.
وحيث إنه لما كان ذلك، وكان إعمال حكم المادة 113 مكررا المضافة بالقرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 بأثر رجعى يرتد إلى أول يناير سنة 1963، مؤداه أن العقوبات المقررة بها لم تكن قائمة فى تاريخ وقوع الفعل محل المؤاخذة التأديبية فى الدعوى الماثلة، فإن نص المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 يكون مخالفا فى هذا النطاق لأحكام المواد 1، 3، 4، 65 من الدستور.
وحيث إنه لما تقدم، يتعين الحكم بعدم دستورية المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963 فيما تضمنته من سريان العقوبات الانضباطية المقررة بمادته الأولى بأثر رجعى يرتد إلى أول يناير سنة 1963.
فلهذه الأسباب:
حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة الثانية من القرار بقانون رقم 32 لسنة 1963، وذلك فيما تضمنته من سريان العقوبات الانضباطية المقررة بمادته الاولى بأثر رجعى يرتد إلى أول يناير سنة 1963، والزمت الحكومة المصروفات، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماه.