جلسة 4 يناير سنة 1992
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة، وحضور السادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف ومحمد على عبد الواحد وماهر البحيرى – أعضاء، وحضور السيد المستشار/ السيد عبد الحميد عماره – المفوض، والسيد/ رأفت محمد عبد الواحد – أمين السر.
قاعدة رقم (15)
القضية رقم 27 لسنة 8 قضائية “دستورية”
1 – دعوى دستورية “نطاقها”.
نطاق الدعوى الدستورية يتحدد بنطاق الدفع بعدم الدستورية المثار أمام محكمة الموضوع وفى الحدود التى تقدر فيها جديته.
2 – قانون “سريانه – الأثر الرجعى”.
الأصل عدم سريان أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها وأن السلطة التشريعية تتخذ قراراتها بالأغلبية المطلقة للحاضرين من أعضائها – الاستثناء، جواز النص فى القانون، فى غير المواد الجنائية، على رجعية الآثار التى يرتبها، وشرطه، موافقة الاغلبية الخاصة التى فرضها الدستور، وهى أغلبية أعضاء السلطة التشريعية فى مجموعهم، كضمانة أساسية للحد من آثار الرجعية وتوكيدا لخطورتها فى الأعم الأغلب من الأحوال باعتبار ما قد تؤول إليه من مساس بالحقوق وإخلال بالاستقرار.
3 – قانون “سريانه – الأثر الرجعى” – القانون رقم 57 لسنة 1970 “بسريان أحكام القانون رقم 77 لسنة 1962 بعدم جواز الجمع بين مرتب الوظيفة فى الشركات التى تساهم فيها الدولة وبين المعاش المستحق قبل التعيين فيها، على العاملين بالمنشات وبالجمعيات التعاونية التى تملكها أو تساهم فيها الدولة، وبالتجاوز عن استرداد ما سبق صرفه بالمخالفة لأحكامه” – إثبات.
القانون رقم 57 لسنة 1970 – تشريع فى غير المواد الجنائية تضمن إفصاحا عن رجعية آثاره – تبيان مضبطة مجلس الشعب إن الاقتراع النهائى على مشروعه قد تم نداء بالاسم وموافقة أغلبية أعضاء المجلس فى مجموعهم عليه – استيفاؤه الشكلية التى تطلبها الدستور لإقرار القوانين رجعية الأثر.
4 – تشريع “عيوب الدستورية: العيوب الشكلية والموضوعية – مفهومهما”.
العيوب الدستورية التى تلحق التشريع ـ العيوب الشكلية وقوامها مخالفة التشريع الأوضاع الاجرائية التى يتطلبها الدستور – العيوب الموضوعية ومبناها مخالفته للقواعد الموضوعية فى الدستور التى تعكس مضامينها القيم والمثل التى بلورتها الإرادة الشعبية والأسس التى تنتظم الجماعة وضوابط حركتها.
5 – دستور “سموه” – تشريع “عيوب الدستورية” – الرقابة القضائية الدستورية.
استيفاء النص المطعون عليه للشكلية التى تطلبها الدستور، لا يعصمه من الخضوع للرقابة التى تباشرها المحكمة الدستورية العليا على دستورية القوانين كلما كان حكمها منطويا على إهدار لحق من الحقوق التى كفلها الدستور أو يفرض قيودا عليه تؤدى إلى الانتقاص منه – أساس ذلك، تميز الدستور بالسيادة والسمو بحسبانه كفيل الحريات وموئلها وعماد الحياة الدستورية وأساس نظامها، وبالتالى حق لقواعده أن تستوى على القمة من البنيان القانونى للدولة وأن تتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى تلتزم الدولة بالخضوع لها فى تشريعها وقضائها وفى مجال مباشرتها لسلطتها التنفيذية، وفى إطار هذا الالتزام تكون موافقة النصوص التشريعية لأحكام الدستور رهنا ببراءتها مما قد يشوبها من مثالب دستورية شكلية كانت أم موضوعية.
6 – دستور “سموه” – تشريع.
الأصل أن سلطة المشرع فى مجال تنظيم الحقوق تقديرية ما لم يقيدها المشرع بضوابط معينة تحدد من اطلاقها وترسم حدودا لممارستها – الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية بتنظيم موضوع معين، فإن تشريعاتها فى هذا الإطار لا يجوز أن تنال من الحق محل الحماية الدستورية باقتحامها بالنقض أو الانتقاص المنطقة التى اعتبرها الدستور مجالا حيويا لهذا الحق لضمان فعاليته.
7 – حق العمل “خصائصه الدستورية”.
كفالة الدستور فى مجال حق العمل أمرين (أولهما) أن العمل ليس ترفا ولا منحة من الدولة وإنما هو حق وواجب وشرف تكفله الدولة “مادة 13/ 1 من الدستور”، وهو باعتبارها كذلك ولأهميته فى تقدم الجماعة واشباع احتياجاتها توليه الدولة تقديرها إذا امتاز العامل فى النهوض بتبعاته (وثانيهما) أن الأصل فيه أن يكون إراديا، إلا أن يكون ذلك وفق قانون وبوصفه تدبيرا استثنائيا لآداء خدمة عامة وبمقابل عادل “مادة 13/ 2 من الدستور”، مما مؤداه، تقييد سلطة المشرع مجال تنظيمه حتى لا يتحول إلى نوع من السخرة المناقضة للدستور.
8 – حق العمل “الأجر العادل”.
الأجر العادل مقابل للعمل: اشترطته المادة 13 فقرة ثانية من الدستور لأداء العمل الذى تقتضيه الدولة قسرا من مواطنيها – كذلك تشمله الحماية الدستورية كلما كان مقابلا لعمل تم فى إطار رابطة عقدية أو علاقة تنظيمية ارتبط طرفاها بها وتقرر أجر العمل من خلالها، وذلك، انطلافا من ضرورة التمكين للقيم الأصيلة الخلقية والاجتماعية التى يلتزم المجتمع بالتحلى بها والعمل فى سبيلها طبقا للمادة 12 من الدستور، ونزولا على حقيقة أن الأجر وفرص العمل وربطهما معا بالإنتاجية تمثل جميعها ملامح أساسية لخطة التنمية الشاملة التى تنظم اقتصاد الدولة وتتوخى زيادة الدخل القومى وضمان عدالة توزيعه وفقا للمادة 23 من الدستور.
9 – حق التأمين الاجتماعى “الحق فى المعاش”.
اسناد الدستور فى المادة 122 منه للمشرع تنظيم قواعد منح المرتبات والمعاشات والتعويضات والإعانات والمكافآت التى تتقرر على خزانة الدولة وحالات الاستثناء منها والجهات التى تتولى تطبيقها، مؤداه مجانبة التنظيم التشريعى لأحكام الدستور ومقاصده إذا تعرض لتلك الحقوق بما يؤدى إلى إهدارها أو افراغها من مضمونها – الحق فى المعاش، إذا توافر أصل استحقاقه ينهض التزاما على الجهة التى تقرر عليها، أساس ذلك، دلالة قوانين التأمين الاجتماعى المتعاقبة على أن المعاش الذى تتوافر شروط اقتضائه عند انتهاء خدمة المؤمن عليه ببلوغه سن التقاعد يعتبر التزاما مترتبا بنص القانون فى ذمة الجهة المدنية، ومسلك الدستور إذ خطا خطوة أبعد فى اتجاه دعم التأمين الاجتماعى حين ناط بالدولة فى المادة 17 منه تقرير معاش البطالة أو العجز عن العمل أو الشيخوخة، باعتبار أن مظلة التأمين الاجتماعى التى يحدد المشرع نطاقها هى التى تفرض بمداها واقعا أفضل يؤمن المواطن فى غده وينهض بموجبات التضامن الاجتماعى التى يقوم عليها المجتمع وفقا للمادة 7 من الدستور.
10 – قانون “الأثر الرجعى” – حق العمل “الحق فى الأجر” – – حق التأمين الاجتماعى “الحق فى المعاش” – حق الملكية “الملكية الخاصة”.
تعيين المدعين بعد انتهاء خدمتهم بالقوات المسلحة التى استحقوا عنها معاش التقاعد العسكرى، بإحدى الجمعيات التعاونية الاستهلاكية التى حصلوا منها على رواتب عن عملهم بها واستمروا يجمعون بينها وبين معاشاتهم – النص فى المادة الثالثة من القانون رقم 57 لسنة 1970 على حرمان المدعين من الحق فى المعاش المقرر لهم قبل عملهم فى الجمعية وبأثر رجعى بتطبيقه على الماضى، مخالف للدستور – اساس ذلك، اختلاف الحق فى المعاش عن الحق فى الراتب مصدرا وسببا، فبينما يعتبر نص القانون مصدرا مباشرا للحق فى المعاش فإن رابطة العمل التعاقدية هى المصدر المباشر للحق فى الراتب، كذلك يعتبر المعاش مستحقا عن مدة خدمتهم السابقة بالقوات المسلحة خلافا للحق فى رواتبهم إذ يقوم مقابلا لعمل قاموا بأدائه للجمعية بعد احالتهم إلى التقاعد، والعدوان التشريعى على أحد هذين الحقين يعتبر إنكارا لوجوده وحرمانا من الحق فى اقتضائه بعد صيرورته دينا فى ذمة الجهة الملتزمة بأدائه، وليس ذلك إلا إنكار للحق فى الملكية الخاصة الذى تنصرف الحماية الدستورية بالنسبة له إلى الحقوق العينية والشخصية على السواء وتتسع للأموال بوجه عام، انطلاقا من أن الملكية الخاصة فضلا عن كونها من مصادر الثروة القومية التى يتعين تنميتها والحفاظ عليها، فإنها تعد ثمرة مباشرة لنشاط الفرد ونتاجا لعمله فى الأغلب من الأحوال وحافزه دوما على التطور والتقدم.
11 – دستور “سموه” – قانون “الأثر الرجعى” – الحقوق العامة – حق التأمين الاجتماعى “الحق فى المعاش”.
الرجعية التى أجازها الدستور، فى غير المواد الجنائية – لا محاجة للقول بأنها تفترض لزوما وفى أغلب الأحوال، المساس بالحقوق المكتسبة ومنها الحق فى المعاش، باعتبار أن القيود التى يفرضها المشرع على التمتع بالحقوق التى كفل الدستور أصلها، لا يجوز أن يصل مداها إلى حد اهدارها كلية أو تقليصها ولا تعدو سلطته فى نطاقها مجرد تنظميها دون مساس بجوهرها وإلا وقع التشريع فى حومة المخالفة الدستورية سواء عمل به بأثر مباشر أو بأثر رجعى.
12 – دعوى دستورية “الحكم فيها – ارتباط”.
عدم دستورية أحد نصوص القانون – ارتباط نص آخر فيه بذلك النص ارتباطا لا يقبل التجزئة، يستلزم الحكم بعدم دستوريته هو الآخر.
13 – قانون “أثر رجعى” – دعوى دستورية “الحكم فيها – ارتباط” – حق التأمين الاجتماعى “الحق فى المعاش”.
عدم دستورية نص المادة الثالثة من القانون رقم 57 لسنة 1970 فيما نصت عليه من رجعية حرمان بعض العاملين بالجمعيات التعاونية الاستهلاكية من معاش التقاعد العسكرى المستحق لهم عن مدة خدمتهم السابقة بالقوات المسلحة – النص فى المادة الثانية من القانون ذاته على تجاوز الدولة عن استرداد ما سبق صرفه من معاشات، يفترض عدم استحقاقهم أصلا لها خلال الفترة التى امتد إليها الأثر الرجعى لنص المادة الثالثة – سقوط الأثر الرجعى للمادة الثالثة فى محتواه الموضوعى لعدم دستوريه، يستلزم الحكم ببطلان المادة الثانية لارتباطها معا ارتباطا لا يقبل التجزئة.
1 – نطاق الدعوى الدستورية التى أتاح المشرع للخصوم إقامتها يتحدد بنطاق الدفع بعدم الدستورية الذى أثير أمام محكمة الموضوع وفى الحدود التى تقدر فيها جديته.
2، 3 – الأصل المقرر دستوريا هو عدم سريان أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها فلا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها، وإن السلطة التشريعية تتخذ قراراتها بالأغلبية المطلقة للحاضرين من أعضائها، وانه استثناء من هاتين القاعدتين أجاز الدستور – فى غير المواد الجنائية – النص فى القانون على رجعية الآثار التى يرتبها، على أن تكون ذلك بموافقة أغلبية أعضاء السلطة التشريعية فى مجموعهم، وهى أغلبية خاصة فرضها الدستور كضمانة أساسية للحد من الآثار التى تحدثها الرجعية فى محيط العلاقات القانونية وتوكيدا لخطورتها فى الأعم الأغلب من الأحوال، باعتبار ما قد تؤول إليه من مساس بالحقوق وإخلال بالاستقرار. إذ كان ذلك، وكان البين من مضبطتى مجلس الأمة فى جلستيه الحادية والأربعين والسادسة والاربعين المنعقدين على التوالى فى 22، 30 يونية سنة 1970 أن الاقتراع النهائى على مشروع القانون رقم 57 لسنة 1970 قد تم نداء بالاسم باعتباره متضمنا أثرا رجعيا، وكانت رجعية هذا الأثر حقيقة قانونية دار حولها النقاش فى المجلس التشريعى، وقد أسفر الاقتراع عن الموافقة على هذا المشروع فى مجموع مواده بأغلبية 287 عضوا من مجموع أعضاء المجلس البالغ عددهم وقتئذ ثلاثمائة وستين عضوا، فإن قالة انتفاء الأغلبية الخاصة التى استلزمها الدستور لإقرار القوانين رجعية الأثر، تكون فاقدة لأساسها حرية بالرفض.
4، 5 – استيفاء المادة الثالثة من القانون رقم 57 لسنة 1970 المطعون عليها للشكلية التى تطلبها الدستور لاقرار القوانين رجعية الأثر، لا يعصمها من الخضوع للرقابة التى تباشرها هذه المحكمة على دستورية القوانين، وذلك كلما كان حكمها منطويا على إهدار لحق من الحقوق التى كفلها الدستور، أو يفرض قيودا عليه تؤدى إلى الانتقاص منه، ذلك أن الدستور يتميز بطبيعة خاصة تضفى عليه السيادة والسمو بحسبانه كفيل الحريات وموئلها، وعماد الحياة الدستورية وأساس نظامها، فحق لقواعده – بالتالى – أن تستوى على القمة من البنيان القانونى للدولة وأن تتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام، اعتبارا بأن أحكام الدستور هى أسمى القواعد الآمرة التى تلتزم الدولة بالخضوع لها فى تشريعها وقضائها، وفى مجال مباشرتها لسلطتها التنفيذية، وفى إطار هذا الالتزام، وبمراعاة حدوده، تكون موافقة النصوص التشريعية لأحكام الدستور رهنا ببراءتها مما قد يشوبها من مثالب دستورية، سواء فى ذلك تلك التى تقوم على مخالفة شكلية للأوضاع الاجرائية التى يتطلبها الدستور، أم تلك التى يكون مبناها مخالفة لقواعده الموضوعية التى تعكس مضامينها القيم والمثل التى بلورتها الارادة الشعبية، وكذلك الأسس التى تنتظم الجماعة، وضوابط حركتها.
6 – الأصل فى سلطة المشرع فى مجال تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها المشرع بضوابط معينة تحد من إطلاقها وترسم بالتالى حدودا لممارستها لا يجوز تخطيها، وكان الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية تنظيم موضوع معين، فإن تشريعاتها فى هذا الإطار لا يجوز أن تنال من الحق محل الحماية الدستورية، وذلك باقتحامها – بالنقص أن الانتقاص – المنطقة التى اعتبرها الدستور مجالا حيويا لهذا الحق لضمان فعاليته.
7 – البين من استقراء أحكام الدستور وربطها ببعض فى إطار من الوحدة العضوية التى تجمعها، وبما يقتضيه تحقيق الاتساق والتكامل بينها، أنه فى مجال حق العمل والتأمين الاجتماعى، كفل الدستور أمرين، أولهما أن العمل ليس ترفا ولا هو منحة من الدولة تبسطها أو تقبضها تحكما أو اعناتا، ذلك أن الفقرة الأولى من المادة 13 من الدستور نظمته بوصفة حقا لكل مواطن، وواجبا يلتزم بأدائه، وشرفا يرنو إليه، وهو باعتباره كذلك، ولأهميته فى تقدم الجماعة واشباع احتياجاتها، توليه الدولة تقديرها إذا امتاز العامل فى النهوض بتبعاته. أما فقرتها الثانية فتؤكد أن الأصل فى العمل أن يكون إراديا قائما على الاختيار الحر، فلا يحمل عليه المواطن حملا إلا أن يكون ذلك وفق قانون وبوصفه تدبيرا استثنائيا لأداء خدمة عامة، وبمقابل عادل. وهى شروط تطلبها الدستور فى العمل الإلزامى، وألزم المشرع بمراعاتها مقيدا سلطته فى مجال تنظيمه حتى لا يتحول العمل إلى نوع من السخرة المجافية فى مضمونها للحق فى العمل بوصفه شرفا والمناقضة للمادة 13 من الدستور بفقرتيها.
8 – لئن كان الأجر العادل مشروطا بالفقرة الثانية من المادة 13 من الدستور، لأداء العمل الذى تقتضيه الدولة قسرا من مواطنيها نزولا على دواعى الخدمة العامة ووفاء بمتطلباتها، فإن الوفاء بهذا الأجر يكون بالضرورة التزاما أحق بالحماية الدستورية كلما كان مقابلا لعمل تم أداؤه فى إطار رابطة عقدية أو فى نطاق علاقة تنظيمية ارتبط طرفاها بها، وتقرر أجر العامل من خلالها، وذلك انطلاقا من ضرورة التمكين للقيم الأصيلة الخلقية والاجتماعية التى يلتزم المجتمع بالتحلى بها والعمل فى سبيلها، على ما تنص عليه المادة 12 من الدستور، ونزولا على حقيقة أن الأجر وفرص العمل وربطها معا بالانتاجية تمثل جميعها ملامح أساسية لخطة التنمية الشاملة التى تنظم اقتصاد الدولة، والتى تتوخى زيادة الدخل القومى وضمان عدالة توزيعه وفقا لحكم المادة 23 من الدستور.
9 – الدستور، إذ عهد فى المادة 123 منه إلى المشرع تنظيم قواعد منح المرتبات والمعاشات والتعويضات والإعانات والمكافآت التى تتقرر على خزانة الدولة وحالات الاستثناء منها، والجهات التى تتولى تطبيقها، فإن هذا التنظيم التشريعى يكون مجانبا أحكام الدستور، منافيا لمقاصده، إذا تعرض للحقوق التى يتناولها بما يؤدى إلى اهدارها أو افراغها من مضمونها، ذلك أن الحق فى المعاش – إذا توافر أصل استحقاقه – ينهض التزاما على الجهة التى تقرر عليها. وتدل قوانين التأمين الاجتماعى المتعاقبة على أن المعاش الذى تتوافر شروط اقتضائه عند انتهاء خدمة المؤمن عليه ببلوغه سن التقاعد المنصوص عليه بنظام التوظف المعامل به، إنما يعتبر التزاما مترتبا بنص القانون فى ذمة الجهة المدينة. وإذا كان الدستور قد خطا خطوة أبعد فى اتجاه دعم التأمين الاجتماعى حين ناط بالدولة فى المادة 17 منه، تقرير معاش يواجه به المواطنون بطالتهم أو عجزهم عن العمل أن شيخوختهم فى الحدود التى يبينها القانون، فذلك، لأن مظلة التأمين الاجتماعى – التى يحدد المشرع نطاقها – هى التى تفرض بمداها واقعا أفضل يؤمن المواطن فى غده، وينهض بموجبات التضامن الاجتماعى التى يقوم عليها المجتمع وفقا لنص المادة 7 من الدستور.
10 – لما كان الثابت من الأوراق، إن المدعين بعد انتهاء خدمتهم بالقوات المسلحة التى استحقوا عنها معاش التقاعد العسكرى، وفقا للقوانين المنظمة له، قد عينوا بإحدى الجمعيات التعاونية الاستهلاكية واستمروا يجمعون بين معاشاتهم هذه ورواتبهم عن عملهم فى الجمعية حتى فبراير سنة 1965، إلى أن تقرر حرمانهم من هذا المعاش، فأقاموا الدعوى الموضوعية لاقتضائه، وإذ نظم القانون رقم 57 لسنة 1970 بعض أوضاع العاملين فى هذه الجمعيات، وكان مؤدى نص المادة الثالثة من هذا القانون المطعون عليها، أن يسرى الحظر الذى تقرر بالقانون رقم 77 لسنة 1962 – واعتبارا من تاريخ نفاذه – على العاملين بالجمعيات التعاونية التى تملكها الدولة أو تساهم فيها، وكان هذا الحظر ينطوى على إهدار حقهم فى المعاش المقرر لهم قبل عملهم بتلك الجمعية، وكان قيام الحق فى معاشاتهم تلك منفصلا عن الحق فى رواتبهم التى استحقوها بعد التعيين فيها، مرده إن هذين الحقين يختلفان مصدرا وسببا، ذلك أنه بينما يعتبر نص القانون مصدرا مباشرا للحق فى معاشاتهم، فإن رابطة العمل التعاقدية هى المصدر المباشر للحق فى مرتباتهم، ومن جهة أخرى يعتبر المعاش مستحقا عن مدد خدمتهم السابقة بالقوات المسلحة وفقا للقواعد التى قررها المشرع فى هذا الصدد، وذلك خلافا للحق فى رواتبهم إذ يقوم مقابلا لعمل قاموا بأدائه للجمعية المشار إليها بعد إحالتهم إلى التقاعد، والعدوان التشريعى على أحد هذين الحقين، لا يعدو أن يكون إنكارا لوجوده وحرمانا لهم من الحق فى اقتضائه جبرا عند المنازعة فيه، بعد أن أصبح دينا فى ذمة الجهة الملتزمة بأدائه وليس ذلك إلا إهدارا للحق فى الملكية الخاصة الذى كفل الدستور أصله، وأحاطه – فى المادة 34 منه – بالحماية اللازمة لصونه، تلك الحماية التى جرى قضاء هذه المحكمة على انصرافها إلى الحقوق العينية والشخصية على السواء، وعلى اتساعها بالتالى للأموال بوجه عام، وذلك انطلاقا من أن الملكية الخاصة فضلا عن كونها من مصادر الثروة القومية التى يتعين تنميتها والحفاظ عليها لتؤدى وظيفتها الاجتماعية فى خدمة الاقتصاد القومى، فإنها تعد ثمرة مباشرة لنشاط الفرد ونتاجا لعمله فى الأغلب من الأحوال، وحافزه دوما إلى التطور والتقدم، وبالبناء على ما تقدم تكون الرجعية التى تضمنها النص المطعون عليه مناقضة فى محتواها الموضوعى للمادة 34 من الدستور، ويتعين – من ثم – الحكم بعدم دستوريتها.
11 – لا محاجة للقول بأن الرجعية التى أجازها الدستور – فى غير المواد الجنائية – تفترض لزوما أو على الأقل فى أغلب الأحوال وأعمها المساس بالحقوق المكتسبة، ويندرج تحتها الحق فى المعاش محل النزاع الراهن، ذلك أن القيود التى يفرضها المشرع على التمتع بالحقوق التى كفل الدستور أصلها، لا يجوز أن يصل مداها إلى حد اهدارها كلية أو تقليصها، ولا تعدو سلطته فى نطاقها مجرد تنظيمها وفق أسس موضوعية لا تؤثر فى جوهرها، فإذا جاوز المشرع نطاق سلطته فى محال تنظيم الحقوق التى أحاطها الدستور بالحماية، وقع التشريع الصادر عنه فى حومة المخالفة الدستورية، سواء عمل به بأثر مباشر أو بأثر رجعى.
12، 13 – لما كانت المادة الثانية من القانون المطعون عليه تقضى بالتجاوز عن استرداد ما سبق صرفه من معاشات بالمخالفة لأحكامه، وكان ترخص الدولة فى النزول من جانبها عما صرفته منها لبعض العاملين بالمنشآت والجمعيات التعاونية التى تملكها أو تساهم فيه، يفترض عدم استحقاقهم أصلا لها خلال الفترة التى امتد إليها الأثر الرجعى لنص المادة الثالثة من القانون رقم 57 لسنة 1970 المطعون عليها، فإن سقوط هذا الأثر الرجعى فى محتواه الموضوعى لعدم دستوريته، يستلزم الحكم بسقوط المادة الثانية وذلك لارتباطهما معا ارتباطا لا يقبل التجزئة إذا لا يتصور قيام المادة الثانية منفصلة عن الأثر الرجعى للحظر الذى حال دون حصول المدعين خلال فترة عملهم بالجمعية على معاشاتهم المستحقة قبل التعيين فيها.
الإجراءات
فى الأول من ديسمبر سنة 1986 أودع المدعون قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالبين الحكم بعدم دستورية القانون رقم 57 لسنة 1970 “بسريان أحكام القانون رقم 77 لسنة 1962 – بعدم جواز الجمع بين مرتب الوظيفة فى الشركات التى تساهم فيها الدولة وبين المعاش المستحق قبل التعيين فيها – على العاملين بالمنشآت وبالجمعيات التعاونية التى تملكها أو تساهم فيها الدولة، وبالتجاوز عن استرداد ما سبق صرفة بالمخالفة لأحكام هذا القانون”.
وقدمت هيئة قضايا الدولة، مذكرة طلبت فيها أصليا الحكم بعدم قبول الدعوى بالنسبة للمادتين الأولى والثانية من القانون رقم 57 لسنة 1970، واحتياطيا برفض الدعوى برمتها.
وبعد تحضير الدعوى، قدمت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة اصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعين بعد أن أحيلوا إلى التقاعد من خدمة القوات المسلحة عينوا بالجمعية التعاونية الاستهلاكية إلى أن انتهت خدمة بعضهم فيها فى غضون سنة 1967 وبالنسبة إلى آخرين منهم خلال سنة 1968، وقد ظلوا يجمعون بين معاشاتهم العسكرية ومرتباتهم من هذه الجمعية حتى سنة 1965 إذ تقرر حرمانهم من الحق فى الجمع بينهما، فأقاموا لاقتضاء هذا الحق الدعوى رقم 1252 لسنة 22 قضائية أمام محكمة القضاء الإدارى التى انتهت إلى رفضها، فطعنوا فى حكمها أمام المحكمة الإدارية العليا بالطعن رقم 1208 لسنة 19 قضائية، فقضى بقبوله شكلا، وفى الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبعدم اختصاص محاكم مجلس الدولة بنظر الدعوى وبإحالتها إلى اللجنة القضائية لضباط القوات المسلحة، وأمام هذه اللجنة دفع المدعون بعدم دستورية المادة الثالثة من القانون رقم 57 لسنة 1970 فيما نصت عليه من العمل بأحكامه اعتبارا من تاريخ العمل بالقانون رقم 77 لسنة 1962 بعدم جواز الجمع بين مرتب الوظيفة فى الشركات التى تساهم فيها الدولة وبين المعاش المستحق قبل التعيين فيها. وإذ قدرت اللجنة جدية هذا الدفع وحددت للمدعين موعدا غايته ثلاثة أشهر لرفع الدعوى الدستورية، فقد أقاموا الدعوى الماثلة.
وحيث إن القانون رقم 77 لسنة 1962 كان ينص على حظر الجمع بين مرتب الوظيفة فى الشركات التى تساهم فيها الدولة وبين المعاش المستحق قبل التعيين فيها، وإذ ارتأت وزارة الخزانة أن روح هذا القانون وأهدافه يقتضيان سريان الحظر المشار إليه على العاملين بالمنشآت والجمعيات التى تملكها أو تساهم فيها الدولة، فقد صدر القانون رقم 57 لسنة 1970 الذى نص فى مادته الأولى على أن “تسرى أحكام القانون رقم 77 لسنة 1962 بعدم جواز الجمع بين مرتب الوظيفة فى الشركات التى تساهم فيها الدولة وبين المعاش المستحق قبل التعيين فيها، على العاملين بالمنشآت وبالجمعيات التعاونية التى تملكها أو تساهم فيها الدولة، كما نص فى مادته الثانية على أن “يتجاوز عن استرداد ما سبق صرفة من معاشات بالمخالفة لأحكام هذا القانون، وفى مادته الثالثة على أن “يعمل بهذا القانون من تاريخ العمل بالقانون رقم 77 لسنة 1962 المشار إليه”.
وحيث إن المدعين ينعون على القانون رقم 57 لسنة 1970 سالف البيان مخالفته مبدأ الفصل بين السلطات وانطوائه على تحصين أعمال إدارية من رقابة القضاء وخروجه على مبدأ عدم رجعية القوانين فضلا عن إخلاله بمبدأ المساواة أمام القانون، وذلك بمقولة أن هذا القانون صدر كتشريع مفسر لأحكام القانون رقم 77 لسنة 1962 منتهكا بذلك السلطة الأصيلة للقضاء فى مجال تفسير النصوص التشريعية، وأن القانون المطعون فيه ليس عملا تشريعيا فى حقيقة الأمر إذ لا يعدو أن يكون قرارا إداريا ألبس شكل القانون توقيا لمخاصمة هذا القرار الذى صدر فى شأن أشخاص محصورين بذواتهم بما يتعارض ومبدأ تجرد القاعدة القانونية، ومن جهة أخرى فقد كان يتعين على السلطة التشريعية أن تقر المادة الثالثة من القانون المطعون فيه والمتضمنة أثرا رجعيا بالأغلبية الخاصة المنصوص عليها فى المادة 163 من دستور سنة 1964 – الذى صدر فى ظله ذلك القانون – وهى أغلبية أعضاء المجلس التشريعى، فلا تكفى بشأنها أغلبية الحاضرين منهم، وقد خلت مضابط مجلس الأمة مما يفيد توافر هذه الأغلبية الخاصة عند إقراره للمادة المشار إليها، الامر الذى يصمها بعدم الدستورية لعدم استيفائها الشكل الذى تطلبه الدستور لإقراره، هذا بالإضافة إلى أن تقرير الأثر الرجعى قد أخل بمبدأ المساواة أمام القانون بين فئتين تماثل أفرادهما فى مراكزهم القانونية هما فئة المدعين الذين حرمهم القانون المطعون فيه من حقوقهم المكتسبة، وفئة أخرى من نظرائهم الذين تجاوز المشروع عن استرداد ما سبق صرفة لهم من معاش بالمخالفة لأحكام القانون المطعون فيه، وترتيبا على ذلك ينعى المدعون على القانون المطعون فيه مخالفته لأحكام المواد 40، 68، 165 من الدستور القائم والمادة 163 من دستور سنة 1964.
وحيث إن ولاية هذه المحكمة فى الدعاوى الدستورية – وعلى ما جرى به قضاؤها – لا تقوم إلا باتصالها بالدعوى اتصالا مطابقا للأوضاع المقررة فى قانونها، وكان نطاق الدعوى الدستورية التى أتاح المشرع للخصوم إقامتها يتحدد بنطاق الدفع بعدم الدستورية الذى أثير أمام محكمة الموضوع وفى الحدود التى تقدر فيها جديته، وكان المدعون فى الدعوى الماثلة قد دفعوا أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية ما قررته المادة الثالثة من القانون رقم 57 لسنة 1970 من العمل بأحكامه اعتبارا من تاريخ العمل بالقانون رقم 77 لسنة 1962، وكان التصريح الصادر عن محكمة الموضوع برفع الدعوى الدستورية منحصراً فى هذا النطاق وحده، فإن الطعن على المادتين الأولى والثانية من القانون رقم 57 لسنة 1970 يكون مجاوزا ذلك النطاق الذى تتحدد به المسألة الدستورية التى تدعى هذه المحكمة للفصل فيها بما مؤداه انتفاء اتصال الدعوى الماثلة – فى خصوص هاتين المادتين – بالمحكمة الدستورية العليا اتصالا مطابقا للأوضاع التى رسمها قانونها والتى لا يجوز الخروج عليها بوصفها ضوابط جوهرية فرضها المشرع للمصلحة العامة كى ينتظم التداعى فى المسائل الدستورية وفقا لها.
وحيث إن المدعين ينعون على نص المادة الثالثة من القانون المطعون فيه انسحابها إلى الماضى دون أن تقرها السلطة التشريعية بالأغلبية الخاصة المنصوص عليها فى المادة 163 من دستور سنة 1964.
وحيث إن هذا النعى مردود بأن الأصل المقرر دستوريا هو عدم سريان أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها فلا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها، وإن السلطة التشريعية تتخذ قراراتها بالأغلبية المطلقة للحاضرين من أعضائها وأنه استثناء من هاتين القاعدتين أجاز الدستور – فى غير المواد الجنائية – النص فى القانون على رجعية الآثار التى يرتبها على أن تكون ذلك بموافقة أغلبية أعضاء السلطة التشريعية فى مجموعهم، وهى أغلبية خاصة فرضها الدستور كضمانة أساسية للحد من الآثار التى تحدثها الرجعية فى محيط العلاقة القانونية وتوكيدا لخطورتها فى الأعم الأغلب من الأحوال باعتبار ما قد تؤول إليه من مساس بالحقوق وإخلال بالاستقرار ، إذ كان ذلك، وكان البين من مضبطتى مجلس الأمة فى جلستيه الحادية والأربعين والسادسة والأربعين المنعقدين على التوالى فى 22، 30 يونيه سنة 1970 أن الاقتراع النهائى على مشروع القانون رقم 57 لسنة 1970 قد تم نداء بالاسم باعتبارها متضمنا أثرا رجعيا وكانت رجعية هذا الأثر حقيقة قانونية دار حولها النقاش فى المجلس التشريعى، وقد أسفر الاقتراع عن الموافقة على هذا المشروع فى مجموعة مواده بأغلبية 287 عضوا من مجموع أعضاء المجلس البالغ عددهم وقتئذ ثلاثمائة وستين عضوا، فإن قالة انتقاء الأغلبية الخاصة التى استلزمها الدستور لإقرار القوانين رجعية الأثر تكون فاقدة لأساسها حرية بالرفض.
وحيث إن استيفاء المادة الثالثة المطعون عليها للشكلية التى تطلبها الدستور لإقرار القوانين رجعية الأثر على ما سلف بيانه، لا يعصمها من الخضوع للرقابة التى تباشرها هذه المحكمة على دستورية القوانين كلما كان حكمها منطويا على إهدار لحق من الحقوق التى كفلها الدستور، أو يفرض قيودا عليه تؤدى إلى الانتقاص منه، ذلك أن الدستور يتميز بطبيعة خاصة تضفى عليه السيادة والسمو بحسبانه كفيل الحريات وموئلها وعماد الحياة الدستورية، وأساس نظامها، فحق لقواعده – بالتالى – أن تستوى على القمة من البنيان القانونى للدولة وأن تتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام، اعتبارا بأن أحكام الدستور هى أسمى القواعد الآمرة التى تلتزم الدولة بالخضوع لها فى تشريعها وقضائها، وفى مجال مباشرتها لسلطتها التنفيذية، وفى إطار هذا الالتزام، وبمراعاة حدوده، تكون موافقة النصوص التشريعية لأحكام الدستور رهنا ببراءتها مما قد يشوبها من مثالب دستورية، سواء فى ذلك تلك التى تقوم على مخالفة شكلية للأوضاع الاجرائية التى يتطلبها الدستور، أم تلك التى يكون مبناها مخالفة لقواعده الموضوعية التى تعكس مضامينها القيم والمثل التى بلورتها الإرادة الشعبية، وكذلك الأسس التى تنتظم الجماعة، وضوابط حركتها.
وحيث إن الأصل فى سلطة المشرع فى مجال تنظيم الحقوق – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها المشرع بضوابط معينة تحد من اطلاقها وترسم بالتالى حدودا لممارستها لا يجوز تخطيها، وكان الدستور إذ يعهد إلى السلطة التشريعية تنظيم موضوع معين، فإن تشريعاتها فى هذا الإطار لا يجوز أن تنال من الحق محل الحماية الدستورية، وذلك باقتحامها – بالنقص أو الانتقاص – المنطقة التى اعتبرها الدستور مجالا حيويا لهذا الحق لضمان فعاليته.
وحيث إن البين من استقرار أحكام الدستور وربطها ببعض فى إطار من الوحدة العضوية التى تجمعها، وبما يقتضيه تحقيق الاتساق والتكامل بينها، أنه فى مجال حق العمل والتأمين الاجتماعى، كفل الدستور أمرين، أولهما أن العمل ليس ترفا ولا هو منحة من الدولة تبسطها أو تقبضها تحكما أو إعناتا، ذلك أن الفقرة الأولى من المادة 13 من الدستور نظمته بوصفة حقا لكل مواطن، وواجبا يلتزم بأدائه، وشرفا يرنو إليه، وهو باعتباره كذلك ولأهميته فى تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها توليه الدولة تقديرها، إذا امتاز العامل فى النهوض بتبعاته ، أما فقرتها الثانية فتؤكد أن الأصل فى العمل أن يكون إراديا قائما على الاختيار الحر، فلا يحمل عليه المواطن حملا إلا أن يكون ذلك وفق قانون وبوصفه تدبيراً استثنائيا لأداء خدمة عامة وبمقابل عادل. وهى شروط تطلبها الدستور فى العمل الإلزامى، وألزم المشرع بمراعاتها مقيدا سلطته فى مجال تنظيمه حتى لا يتحول العمل إلى نوع من السخرة المجافية فى مضمونها للحق فى العمل بوصفه شرفا والمناقضة للمادة 13 من الدستور بفقرتيها إذ كان ذلك، وكان الأجر العادل مشروطا بالفقرة الثانية من المادة 13 آنفة البيان، لأداء العمل الذى تقتضيه الدولة قسرا من مواطنيها نزولا على دواعى الخدمة العامة ووفاء بمتطلباتها، فإن الوفاء بهذا الأجر يكون بالضرورة التزاما أحق بالحماية الدستورية كلما كان مقابلا لعمل تم أداؤه فى إطار رابطة عقدية أو فى نطاق علاقة تنظيمية ارتبط طرفاها بها وتقرر أجر العامل من خلالها، وذلك انطلاقا من ضرورة التمكين للقيم الأصيلة الخلقية والاجتماعية التى يلتزم المجتمع بالتحلى بها والعمل فى سبيلها على ما تنص عليه المادة 12 من الدستور، ونزولا على حقيقة إن الأجر وفرص العمل وربطهما معا بالانتاجية تمثل جميعها ملامح أساسية لخطة التنمية الشاملة التى تنظم اقتصاد الدولة والتى تتوخى زيادة الدخل القومى وضمان عدالة توزيعه وفقا لحكم المادة 23 من الدستور، ثانيهما إن الدستور إذ عهد فى المادة 123 منه إلى المشرع تنظيم قواعد منح المرتبات والمعاشات والتعويضات والاعانات والمكافآت التى تتقرر على خزانة الدولة وحالات الاستثناء منها، والجهات التى تتولى تطبيقها، فإن هذا التنظيم التشريعى يكون مجانبا أحكام الدستور منافيا لمقصده إذا تعرض للحقوق التى يتناولها بما يؤدى إلى اهدارها أو إفراغها من مضمونها، ذلك أن الحق فى المعاش – إذا توافر أصل استحقاقه – ينهض التزاما على الجهة التى تقرر عليها. وتدل قوانين التأمين الاجتماعى المتعاقبة على أن المعاش الذى تتوافر شروط اقتضائه عند انتهاء خدمة المؤمن عليه ببلوغه سن التقاعد المنصوص عليه بنظام التوظف المعامل به إنما يعتبر التزاما مترتبا بنص القانون فى ذمة الجهة المدينة. وإذا كان الدستور قد خطا خطوة أبعد فى اتجاه دعم التأمين الاجتماعى حين ناط بالدولة فى المادة 17 منه، تقرير معاش يواجه به المواطنون بطالتهم أو عجزهم عن العمل أو شيخوختهم فى الحدود التى يبينها القانون، فذلك لأن مظلة التأمين الاجتماعى – التى يحدد المشرع نطاقها – هى التى تفرض بمداها واقعا أفضل يؤمن المواطن فى غده، وينهض بموجبات التضامن الاجتماعى التى يقوم عليها المجتمع وفقا لنص المادة 7 من الدستور.
وحيث إن الثابت من الأوراق، إن المدعين بعد انتهاء خدمتهم بالقوات المسلحة التى استحقوا عنها معاش التقاعد العسكرى، وفقا للقوانين المنظمة له، قد عينوا بإحدى الجمعيات التعاونية الاستهلاكية واستمروا يجمعون بين معاشاتهم هذه ورواتبهم عن عملهم فى الجمعية حتى فبراير سنة 1965، إلى أن تقرر حرمانهم من هذا المعاش، فأقاموا الدعوى الموضوعية لاقتضائه، وإذ نظم القانون رقم 57 لسنة 1970 بعض أوضاع العاملين فى هذه الجمعيات، وكان مؤدى نص المادة الثالثة من هذا القانون أن يسرى الحظر الذى تقرر بالقانون رقم 77 لسنة 1962 – واعتبارا من تاريخ نفاذه – على العاملين بالجمعيات التعاونية التى تملكها الدولة أو تساهم فيها، وكان هذا الحظر ينطوى على إهدار حقهم فى المعاش المقرر لهم قبل عملهم بتلك الجمعية، وكان قيام الحق فى معاشاتهم تلك منفصلا عن الحق فى رواتبهم التى استحقوها بعد التعيين فيها مرده إن هذين الحقين يختلفان مصدرا وسببا، ذلك أنه بينما يعتبر نص القانون مصدرا مباشرا للحق فى معاشاتهم، فإن رابطة العمل التعاقدية هى المصدر المباشر للحق فى مرتباتهم، ومن جهة أخرى يعتبر المعاش مستحقا عن مدد خدمتهم السابقة بالقوات المسلحة وفقا للقواعد التى قررها المشرع فى هذا الصدد، وذلك خلافا للحق فى رواتبهم إذ يقوم مقابلا لعمل قاموا بأدائه للجمعية المشار إليها بعد إحالتهم إلى التقاعد، والعدوان التشريعى على أحد هذين الحقين لا يعدو أن يكون إنكارا لوجوده وحرمانا لهم من الحق فى اقتضائه جبرا عند المنازعة فيه بعد أن أصبح دينا فى ذمة الجهة الملتزمة بأدائه. وليس ذلك إلا إهدارا للحق فى الملكية الخاصة الذى كفل الدستور أصله، وأحاطه – فى المادة 34 منه – بالحماية اللازمة لصونه، تلك الحماية التى جرى قضاء هذه المحكمة على انصرافها إلى الحقوق العينية والشخصية على السواء، وعلى اتساعها بالتالى للاموال بوجه عام، وذلك انطلاقا من أن الملكية الخاصة فضلا عن كونها من مصادر الثروة القومية التى يتعين تنميتها والحفاظ عليها لتؤدى وظيفتها الاجتماعية فى خدمة الاقتصاد القومى، فإنها تعد ثمرة مباشرة لنشاط الفرد ونتاجا لعمله فى الأغلب من الأحوال، وحافزه دوما إلى التطور والتقدم، وبالبناء على ما تقدم تكون الرجعية التى تضمنها النص المطعون عليه مناقضة فى محتواها الموضوعى للمادة 34 من الدستور، ويتعين – من ثم – الحكم بعدم دستوريتها.
وحيث إنه لا محاجة للقول بأن الرجعية التى أجازها الدستور – فى غير المواد الجنائية – تفترض لزوما أو على الأقل فى أغلب الأحوال وأعمها المساس بالحقوق المكتسبة، ويندرج تحتها الحق فى المعاش محل النزاع الراهن، ذلك أن القيود التى يفرضها المشرع على التمتع بالحقوق التى كفل الدستور أصلها لا يجوز أن يصل مداها إلى حد اهدارها كلية أو تقليصها، ولا تعدو سلطته فى نطاقها مجرد تنظيمها وفق أسس موضوعية لا تؤثر فى جوهرها، فإذا جاوز المشرع نطاق سلطته فى مجال تنظيم الحقوق التى أحاطها الدستور بالحماية، وقع التشريع الصادر عنه فى حومة المخالفة الدستورية سواء عمل به بأثر مباشر أو بأثر رجعى.
وحيث إن المادة الثانية من القانون المطعون عليه تقضى بالتجاوز عن استرداد ما سبق صرفه من معاشات بالمخالفة لأحكامه، وإذ كان ترخص الدولة فى النزول من جانبها عما صرفته منها لبعض العاملين بالمنشآت والجمعيات التعاونية التى تملكها أو تساهم فيها، يفترض عدم استحقاقهم أصلا لها خلال الفترة التى امتد إليها الأثر الرجعى لنص المادة الثالثة المطعون عليها، فإن سقوط هذا الأثر الرجعى فى محتواه الموضوعى لعدم دستوريته – على ما سلف بيانه ـ يستلزم الحكم بسقوط المادة الثانية وذلك لارتباطهما معا ارتباطا لا يقبل التجزئة إذ لا يتصور قيام المادة الثانية منفصلة عن الأثر الرجعى للحظر الذى حال دون حصول المدعين خلال فترة عملهم بالجمعية على معاشاتهم المستحقة قبل التعيين فيها.
فلهذه الأسباب:
حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة الثالثة من القانون رقم 57 لسنة 1970 وذلك فيما نصت عليه “ويعمل به من تاريخ العمل بالقانون رقم 77 لسنة 1962 المشار إليه”، والزمت الحكومة المصروفات، ومبلغ ثلاثين جنيها مقابل أتعاب المحاماه.