جلسة 2 يناير سنة 1993
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة، وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامى فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين – أعضاء، وحضور السيد المستشار/ محمد خيرى طه عبد المطلب – المفوض، وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد – أمين السر.
قاعدة رقم (10)
القضية رقم 3 لسنة 10 قضائية “دستورية”
1 – جزاء جنائى “أثره – الغرض منه: تطوره” اتجاه دستورى معاصر “قيود التجريم: أساسها – ماهيتها”.
لكل جزاء جنائى أثر متمثل فى حرمان الشخص من حقه فى الحياة أو من حريته أو ملكه – الجزاء عبر أطوار قاتمة فى التاريخ كان هدفه تحقيق أطماع السلطة المستبدة – ضمان ألا تكون العقوبة – حاليا – أداة قامعة للحرية – القيود الدستورية المعاصره على سلطان المشرع فى التجريم أساسها عدم التضحية بحقوق الإنسان فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية – تحقق هذه القيود بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة لتحديد ماهية الأفعال المنهى عن ارتكابها.
2 – دستور “تقيد بالمنهج التقدمى – قانونية الجريمة والعقاب وتجريم الأفعال اللاحقة – دلالة ذلك: الفعل ذاته هو مناط التأثيم. تقدير القصد الجنائى من خلال الواقعة محل الاتهام – لا جريمة دون ركن مادى”.
اتجاه الدستور الحالى إلى ترسم النظرة المعاصرة والتقيد بمناهجها التقدمية – النص على مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون – دلالة ذلك: لكل جريمة ركن مادى لا قوام لها بغيره متمثل أساسا فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي. العلائق التى ينظمها القانون الجنائى فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه محورها الأفعال ذاتها فى علاماتها الخارجية ومظاهرها الواقعية وخصائصها المادية، إذ هى مناط التأثيم وعلته. كذلك فإنه فى مجال تقدير توافر القصد الجنائى تجيل محكمة الموضوع بصرها فى الواقعة محل الاتهام من خلال عناصرها عما قصد إليه الجانى حقيقة من وراء ارتكابها. ومن غير المتصور وفقا لأحكام الدستور وجود جريمة فى غيبة ركنها المادى ودون إقامة الدليل على علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التى أحدثتها – فلا جريمة إذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها وتم التعبير عنها فى صورة مادية.
3 – دستور “قانونية العقوبة – اليقين فى القوانين الجزائية – أساسه: قيودها على الحرية الشخصية – ضمان هذه الحرية: عدم التجهيل بالأفعال – غموض النص العقابي: مؤداه – الصياغة غير المتميعة – الغرض منها: عدم ابتداع جرائم – التقيد بحدود الدستور – الالتزام بضوابط المحاكمة المنصفة”.
لكل جريمة عقوبة محددة منصوص عليها فى القانون أو مقررة وفق الحدود المبينة فيه – من القواعد المبدئية التى يتطلبها الدستور فى القوانين الجزائية أن تكون درجة اليقين التى تنتظم أحكامها فى أعلى مستوياتها. أساسه هو ما تفرضه هذه القوانين من قيود خطيرة على الحرية الشخصية – من المتعين ضمانا لهذه الحرية أن تكون الأفعال التى تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة غير مجهلة، فالتجهيل بها أو انبهامها فى بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين على بينة من الأفعال المنهى عنها – مؤدى غموض النص العقابى الحيلولة بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد محددة لاركان الجريمة وعقوبتها دون خفاء – اتجاه المشرع إلى مناهج جديدة فى الصياغة غير منزلقة إلى تعبيرات مرنة أو متميعة محملة بأكثر من معنى تنداح معها دائرة التجريم – الغرض من ذلك عدم وقوع محكمة الموضوع فى محاذير قد تنتهى بها إلى ابتداع جرائم لم يقصدها المشرع، ومجاوزة الحدود الدستورية لمباشرة الحقوق والحريات التى كفلها، وكذلك عدم الإخلال بالضوابط الجوهرية للمحاكمة المنصفة وفقا للمادة 67 من الدستور.
4 – قانون جزائى “خاصية الوضوح واليقين – غايتها: ضمان الحرية الفردية – انتفاء الغموض: موقعه”.
الغاية من خاصية الوضوح واليقين فى القوانين الجزائية ضمان الحرية الفردية فى مواجهة التحكم انطلاقا من الإيمان بحرمة الحياة الخاصة وبوطأة النيل من الحرية الشخصية، انتفاء الغموض فى هذه القوانين يقع فى نطاق القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية.
5 – دعوى جنائية “المحاكمة المنصفة – قواعدها المبدئية – أصل البراءة – عموميته – قيامه قبل واثناء المحاكمة: مؤدى ذلك”.
القواعد المبدئية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة تؤثر بالضرورة فى محصلتها النهائية – منها أصل البراءة وهو قاعدة أولية توجبها الفطرة وتفرضها حقائق الأشياء – هذا الأصل يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم كان متهما باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامى لتدرأ عنه العقوبة إذا كانت التهمة الموجهة إليه أحاطتها الشبهات – أصل البراءة يلازم الفرد دوما ولا يزايله سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها وعلى امتداد حلقاتها – مؤدى ذلك امتناع دحض أصل البراءة بغير أدلة جازمة لإثبات التهمة واستقرار حقيقتها بحكم صار باتا.
6 – تشريع – المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم “الاشتباه للاشتهار – قوامه – التدليل عليه – دستور “مخالفة الدستور: مجرد حالة غير مقترنة بفعل بعينه – تجهيل بماهية الفعل – افتقار خاصية اليقين – مناقضة افتراض البراءة”.
الاشتهار أحد صورتى الاشتباه وفق نص المادة 5 من المرسوم بقانون المشار إليه – اعتبار كل من تزيد سنه على 18 سنة مشتبها فيه إذا اشتهر عنه اعتياده ارتكاب بعض الجرائم والأفعال المحددة حصرا فى المادة المذكورة – قوامه حالة خطرة كامنة فى الجانى دون ارتباطه بفعل ملموس أو واقعة مادية محددة ارتكابها – إجازة المشرع التدليل عليه بالأقوال أو السوابق أو التقارير الأمنية – قيام النص على افتراض لا محل له. مخالفته الدستور: الاشتهار مجرد حالة لا يعاصرها فعل بعينه إزاء اعتداد الدستور بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم وعلته وأن الأقوال أو السوابق أو التقارير أيا كان وزنها لا تعتبر أفعالا ولا هى قاطعة فى اتجاه إرادة الجانى إلى ارتكابها – تجهيل الاشتهار بمعناه المقصود فى النص بماهية الأفعال التى يلتزم المخاطبون بالقوانين الجزائية بتوقيها، وافتقاره بالتالى إلى خاصية اليقين فى القوانين الجزائية – إدانة الشخص على أساس الاشتهار بمفهومه المذكور يناقض افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه إلى أن تثبت إدانته بدليل قاطع.
7 – تشريع – المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم ” – الاشتباه على أساس أحكام إدانة سابقة – جريمة بدون فعل محدد – مناهضة السياسة الجنائية القويمة – مناقضة افتراض البراءة – التدابير المنصوص عليها لها صفة العقوبة – ازدواج العقوبة عن فعل واحد – مراعاة الماضى الإجرامى فى تقدير العقوبة”.
اعتبار كل من تزيد سنه على 18 سنة مشتبها فيه إذا كان قد حكم عليه أكثر من مرة فى إحدى الجرائم التى عينتها المادة 5 من المرسوم بقانون المشار إليه – الاشتباه فى هذه الحالة جريمة دون فعل محدد إيجابيا كان أم سلبيا، وبالتالى فمرده إلى الخطورة الناجمة عن جرائم سابقة ارتكبها شخص معين بغية التحوط منه – اعتبار الشخص مشتبها فيه بناء على جرائمه السابقة يناهض السياسة الجنائية القومية إذ هو أدعى إلى انتباذه الجماعة التى يعيش فيها وشقه عصا الطاعة عليها – مما يناقض افتراض البراءة إدانة الشخص لا عن جريمة بذاتها أتاها، بل بناء على محض احتمال عودته إلى الاجرام – اعتبار التدابير المنصوص عليها فى هذا القانون سالبة للحرية ولها وطأة العقوبة وخصائصها، ومماثلة لعقوبة الحبس فى تطبيق أحكام قانون العقوبات أو أى قانون آخر – توقيعها فى ذاته ينطوى على معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد، فجميع جرائمه السابقة حوكم عنها واستوفى عقوبة كل منها، وليس ثمة جريمة أخرى قوامها فعل أو امتناع قارفها، ولمحكمة الموضوع معاقبته بالجزاء الملائم عن جريمته الأخيرة مراعية فى ذلك ماضيه الإجرامى.
8 – جريمة – عقوبة “مبدأ عدم ازدواج العقوبة عن فعل واحد” دستور “خضوع الدولة للقانون – مؤداه: عدم اخلال تشريعاتها بالحقوق المسلم بها فى الدول الديمقراطية – كفالة الحرية الشخصية فى المادة 41 منه” دستور – تشريع “قانون التشرد والاشتباه – الاشتباه فى صورتيه مخالف للدستور: تجرده من فعل ملموس – مناقضته افتراض البراءة”.
مبدأ عدم جواز معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد رددته النظم القانونية المختلفة – خضوع الدولة للقانون مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية وضمانه أساسية لصون حقوق الانسان – منها طائفة من الحقوق وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى كفلها الدستور فى المادة 41 منه، ومن بينها ألا تكون العقوبة الجنائية مهينة فى ذاتها أو مقيدة للحرية الشخصية دون انتهاج الوسائل القانونية السليمة أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة على فعل واحد – الاشتباه فى صورتيه المشار إليهما لا يعتبر فعلا، وهو مقيد للحرية الشخصية دون مراعاة الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكام الدستور، ويناقض افتراض البراءة – الاشتباه فى الصورة التى يقوم فيها على أحكام الادانة السابقة يتمحض عن معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد.
9 – تشريع – قانون التشرد والاشتباه “بطلان مادته الخامسة – مؤداه”.
إبطال المحكمة نص المادة 5 من المرسوم بقانون المذكور، مؤداه زوال النصوص الأخرى المرتبطة بها ولا قوام لها بدونها – وبالتالى سقوط أحكام المواد 6، 13، 15 منه.
10 – تشريع “بطلان العمل التشريعى بتمامه – اتصال نصوصه – قصور النصوص الباقية”
بطلان العمل التشريعى بتمامه فى إحدى حالتين: تعذر فصل النصوص التى أبطلتها المحكمة عما سواها – قصور النصوص المتبقية عن الوفاء بمقاصد التشريع وغاياته.
1 – لكل جزاء جنائى أثر مباشر يرتد إلى طبيعته، ويتمثل فى حرمان الشخص من حقه فى الحياة أو من حريته أو ملكه، ولقد كان هذا الجزاء عبر أطوار قاتمة فى التاريخ أداء طيعة للقهر والطغيان، محققا للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعدا بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية، وكان منطقيا وضروريا أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة فى جوانبها الموضوعية والإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التى تؤمن بها الجماعة فى تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها، وكان لازما – فى مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته – أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التى ارتأتها على سلطان المشرع فى مجال التجريم تعبيرا عن إيمانها بأن حقوق الانسان وحرياته لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافا منها بأن الحرية فى أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التى عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاما متكاملا يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون – فى اطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها. وقد تحقق ذلك بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة، ومقاييس أكثر إحكاما لتحديد ماهية الأفعال المنهى عن ارتكابها، بما يزيل غموضها، وعلى نحو يجرد محكمة الموضوع من السلطة التقديرية التى تقرر بها قيام جريمة أو فرض عقوبة بغير نص، كى تظل المصلحة الاجتماعية – فى مدارجها العليا – قيدا على السلطة التشريعية تحريا للشرعية فى حقيقة محتواها، واستشرافا للعدالة فى أعماق منابتها.
2 – عمد الدستور – فى اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة ومتابعة خطاها، والتقيد بمناهجها التقدمية – إلى النص فى المادة 66 منه على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها الدستور، دالاً بذلك على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره يتمثل أساسا فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه فى مجال تقدير توافر القصد الجنائى، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التى قام الدليل عليها قاطعا واضحا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجانى حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرا خارجيا وماديا عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالى وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التى أحدثها بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعماق ذاته – تعتبر واقعة فى منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا فى صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
3 – الأصل وفقا لنص المادة 66 من الدستور هو أن يكون لكل جريمة عقوبة محددة ينص القانون عليها فى صلبه، أو تتقرر – على الأقل – وفقا للحدود التى يبينها. كذلك فإن من القواعد المبدئية التى يتطلبها الدستور فى القوانين الجزائية، أن تكون درجة اليقين التى تنتظم أحكامها فى أعلى مستوياتها، وأظهر فى هذه القوانين منها فى أية تشريعات أخرى، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثرا، ويتعين بالتالى – ضمانا لهذه الحرية – أن تكون الأفعال التى تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وبمراعاة أن تكون دوما جلية واضحة فى بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها فى بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التى يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابى مؤداه أن يحال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد منضبطة تعين لكل جريمة اركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه. وهى قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطارا لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التى يتوخاها الدستور هى أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته فى إطار من الضوابط التى قيدها بها. ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التى تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الأمتثال لها لكى يدفعوا عن حقهم فى الحياة وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة. ولقد كان غموض القوانين الجزائية مرتبطا من الناحية التاريخية بإساءة استخدام السلطة، وكان أمرا مقضيا أن يركن المشرع إلى مناهج جديدة فى الصياغة لا تنزلق إلى تلك التعبيرات المرنة أو الغامضة أو المتميعة المحملة بأكثر من معنى والتى تنداح معها دائرة التجريم بما يوقع محكمة الموضوع فى محاذير واضحة قد تنتهى بها – فى مجال تطبيقها للنصوص العقابية – ابتداع جرائم لا يكون المشرع قد قصد حقيقة إلى إنشائها، وإلى مجاوزة الحدود التى اعتبرها الدستور مجالا حيويا لمباشرة الحقوق والحريات التى كفلها، وهو ما يخل فى النهاية بالضوابط الجوهرية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقا لنص المادة 67 من الدستور.
4 – خاصية الوضوح واليقين فى القوانين الجزائية، غايتها ضمان الحرية الفردية فى مواجهة التحكم، انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية، لضمان أن تباشر كل دولة – فى مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعى – السلطة المخولة لها بمراعاة الأغراض النهائية للقوانين العقابية التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصوداً لذاته. متى كان ذلك، فإن انتفاء الغموض فى هذه القوانين يقع فى نطاق مجموعة القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها.
55 – جرى قضاء هذه المحكمة على أن القواعد المبدئية التى تقوم عليها المحكمة المنصفة – وإن كانت اجرائية فى الأصل – إلا أن تطبيقها فى مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد حلقاتها – يؤثر بالضرورة فى محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية توجبها الفطرة وتفرضها حقائق الأشياء. متى كان ذلك، وكان افتراض البراءة يمثل أصلا ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وكان هذا الأصل يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم كان متهما باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامى أقرتها الشرائع جميعها – لا لتكفل بموجبها الحماية للمذنبين – وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن كل فرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام الجنائى. متى كان ذلك، وكان الاتهام الجنائى – فى ذاته – لا يزحزح أصل البراءة، بل يلازم الفرد دوما، ولا يزايله سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها – فقد غدا دحض أصل البراءة ممتنعا بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقناعية – فى مجال ثبوت التهمة – مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفائها، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا.
6 – طبقا للمادة 5 من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم، يعتبر مشتبها فيه كل من تزيد سنه على ثمانى عشرة سنة إذا اشتهر عنه أنه اعتاد ارتكاب بعض الجرائم أو الأفعال التى حددتها هذه المادة حصرا، وكان الاشتباه بهذا المعنى – وطبقا لما جرى عليه القضاء فى مجال تطبيقه – ليس وصفا دائما أو مؤبدا، ولا يعتبر فى مبناه مرتبطا بفعل يحس به فى الخارج، ولا هو واقعة مادية تمثل سلوكا محددا أتاه الجانى، ودفعها إلى الوجود، لتقام عليه الدعوى الجنائية من أجل ارتكابها، وإنما قوامه حالة خطرة كامنة فيه مرجعها إلى شيوع أمره بين الناس باعتباره من الذين اعتادوا مقارفة جرائم وأفعال مما عينتها المادة 5 المطعون عليها، وهى حالة رتب المشرع على تحققها بالنسبة إليه محاسبته وعقابه، وأجاز التدليل عليها بالأقوال أو السوابق أو التقارير الأمنية بعد أن قدر أن جميعها تعتبر كاشفة عن الصلة بين حاضره وماضيه، وقاطعة فى توكيد خطورته. متى كان ذلك، وكان هذا الاتجاه التشريعى يقوم على افتراض لا محل له، ويناهض نصوص الدستور التى تعتد بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم وعلته، ولأنها دون غيرها هى التى يجوز إثباتها ونفيها، وهى التى يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، وأن تكون عقيدتها بالبناء عليها، وكان لا شبهة فى أن الأقوال التى تتردد فى شأن شخص معين، وكذلك السوابق أو التقارير أيا كان وزنها، لا تنزل منزلة الأفعال التى يجوز إسنادها إلى مقارفها، ولا هى قاطعة فى اتجاه إرادته وانصرافه إلى ارتكابها، وقد تنقصها الدقة أو تفتقر إلى الموضوعية، وكان من المقرر أنه لا يجوز – فى أية حال – أن تكون مصائر الناس معلقة على غير أفعالهم، أما أقوال الآخرين فى حقهم فلا يملكون لها دفعا، ولا سبيل لهم عليها، لتعلقها بما شاع عنهم، وقد تحيط بهم زورا وبهتانا، وكان الاشتهار بالمعنى الذى يقصد إليه النص المطعون فيه يعتبر – فى ذاته – مكونا لجريمة لا يعاصرها فعل أو أفعال بعينها، وهو فوق هذا يجهل بماهية الأفعال التى يتعين على المخاطبين بالقوانين الجزائية توقيها وتجنبها، والتى يوقعهم ارتكابها فى حومة المخالفة لنواهيها، فإن الاشتهار – وفقا لما جرى به النص المطعون فيه – يكون بالتالى مفتقرا إلى خاصية اليقين التى لا يجوز أن تتحلل القوانين الجزائية منها، ومنصرفا كذلك إلى حالة خطرة تستمد عناصرها من السوابق أو الأقوال أو غيرها، وجميعها لا ترقى إلى مرتبة الفعل ولا يقوم هو بها، ومن ثم يقصر الاشتهار عن أن يكون من الأفعال التى يجوز تجريمها وفقا لضوابط الدستور وضماناته التى يؤدى الإخلال بها إلى اقتحام الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية، وإلى الانتقاص من الحقوق التى كفلها الدستور فى مواجهة التسلط أو التحامل. كذلك فإنه مما يناقض إدانة الشخص على أساس الاشتهار بالمعنى السابق، افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه إلى أن تخلص المحكمة إلى إدانته بصفة باتة بعد اقتناعها بالادلة الكافية على ثبوتها بما لا يدع مجالا لشبهة انتفائها، وهى أدلة لا تدور إلا على الأفعال التى نسبتها النيابة العامة إليه باعتبارها ركنا ماديا فى الجريمة. ولا كذلك الاشتهار، إذ لا يؤول إلى فعل محدد يكون مادة الجريمة أو موضوعها، وإنما يقوم على مجرد حالة لا تنشئها أو تتصل بها أفعال مادية قام الدليل عليها، يعبر بها الجانى عن إرادته الواعية الجازمة، متوسلا بها إلى بلوغ النتيجة الإجرامية التى يبتغيها.
7 – الصورة الأخرى للاشتباه، والتى تقوم فى جوهرها على أحكام إدانة سابقة، فصلتها المادة 5 المطعون عليها، وذلك فيما قررته من أن كل من تزيد سنه على ثمانى عشرة سنة، يعد مشتبها فيه إذا كان قد حكم عليه أكثر من مرة فى إحدى الجرائم التى عينتها هذه المادة، بما مؤداه أنه حتى فى الأحوال التى يكون فيها الاشتباه مستندا – فى مصدره – إلى تعدد الأحكام الصادرة فى الجرائم التى حددها القانون، فإن الاشتباه يظل جريمة بلا سلوك، إذ ليس شرطا لقيامها أن يكون قد عاصرها أو اتصل بها فعل محدد، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا. ومن ثم يكون مرد الاشتباه فى هذه الصورة إلى الخطورة الناجمة عن جرائم سابقة ارتكبها شخص معين، وليغدو الاشتباه صفة ينشئها المشرع فى نفس قابلة لها بغية التحوط لأمن الجماعة وصون نظامها. ولا مرية فى أن اعتبار الشخص مشتبها فيه بناء على جرائمه السابقة إنما يناهض السياسة الجنائية القومية، إذ هو أدعى إلى انتباذه الجماعة التى يعيش فيها، وشقه عصا الطاعن عليها. وآية ذلك أن الخطورة الناجمة عن جرائمه السابقة، والتى يراد التحوط منها صونا لمصالح الجماعة، لا تزيد عن كونها من العوامل التى تومئ إلى احتمال ارتكابه فى المستقبل لجريمة غير معينة، وهى بذلك ترشح لمقارفتها، ولا تقطع بالانزلاق فيها، ولا يجوز بالتالى أن يتعلق التجريم بها، إذ ليس ثمة علاقة حتمية بين انغماس الشخص فى جرائم سابقة، وبين ترديه فى حمأتها والعودة إليها مرة أخرى. كذلك فإنه مما يناقض افتراض البراءة أن يدان الشخص – لا عن جريمة بذاتها أتاها وتتحدد عقوبتها بالنظر إلى ماهيتها وظروفها – بل بناء على محض احتمال عودته إلى الإجرام، بما مؤداه أن الخطورة الإجرامية التى يعتبر الشخص بموجبها مشتبها فيه، قوامها عناصر مستمدة من ماضيه، ودليلها جرائمه السابقة، إذ تعتبر كاشفة عن خطورته هذه وقاطعة بها. ومن ثم تكون سوابقه دامغة لحاضره، وملطخة لمستقبله، بل ومحددة لمجراه، ومدخلا إلى إدانته عن جريمة قوامها الحالة الخطرة فى ذاتها، وهى حالة تنشئها الجرائم السابقة التى ارتكبها، والتى تم تنفيذ عقوباتها كاملة بالنسبة إليه. وهى بعد جريمة نص القانون على أن تتخذ فى شأنها التدابير المنصوص عليها فى مادته السادسة، وجميعها تدابير سالبة للحرية لها وطأة العقوبة وخصائصها، وقد اعتبرتها مادته العاشرة مماثلة لعقوبة الحبس فى تطبيق أحكام قانون العقوبات أو أى قانون آخر. هذا بالإضافة إلى أن توقيعها فى ذاته ينطوى على معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد، فقد حوكم عن جرائمه السابقة جميعها، وتم استيفاء عقوبة كل منها، وليس ثمة جريمة أخرى قارفها – قوامها فعل أو امتناع – حتى تقام الدعوى الجنائية عنها، وإنما تحركها حالته الخطرة التى افترض المشرع ارتكازها على سوابقه، ورتبها عليها.
ولا ينال مما تقدم، قالة أن مواجهة النزعة الإجرامية الكامنة فيمن تتعدد سوابقه وكبحها، لازمها اعتباره مشتبها فيه توقيا لخطورته، ذلك أن محكمة الموضوع يكفيها أن تقدر بمناسبة الجريمة الأخيرة التى ارتكبها الجزاء الملائم لها مراعية فى ذلك ماضيه الإجرامى.
8 – مبدأ عدم جواز معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد، من المبادئ التى رددتها النظم القانونية على اختلافها، ويعتبر جزءا من الحقوق الأساسية التى تضمنها الاتفاقيات الدولية لكل إنسان، ويخل إهداره بالحرية الشخصية التى يعتبر صونها من العدوان ضمانة جوهرية لآدمية الفرد ولحقه فى الحياة، ذلك أن الجريمة الواحدة لا تزر وزرين. وباستيفاء من ارتكبها للعقوبة المقدرة لها – وهى عقوبة لا يفرضها المشرع جزافا، وإنما يفرد لكل جريمة العقوبة التى يرتئيها مناسبة لها – فإن الحق فى القصاص يكون قد بلغ غاية الأمر فيه. وقد جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن خضوع الدولة للقانون محدد على ضوء مفهوم ديمقراطى، مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة من الحقوق تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى كفلها الدستور فى مادته الحادية والأربعين، واعتبرها من الحقوق الطبيعية التى لا تمس، ومن بينها ألا تكون العقوبة الجنائية التى توقعها الدولة بتشريعاتها مهينة فى ذاتها أو ممعنة فى قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد.
9 – متى كان الاشتباه فى صورتيه المشار إليهما بنص المادة 5 المطعون عليها، لا يعتبر فعلا اتخذ مظهرا خارجيا ملموسا، ولا هو يقيد الحرية الشخصية بمراعاة الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكام الدستور فى جوانبها الموضوعية والإجرائية، أو يلتزم الضوابط التى أرستها هذه المحكمة فى شأن المحاكمة المنصفة، ومن بينها افتراض البراءة كحقيقة مستعصية على الجدل تمليها الشرعيه الجنائية، وكان الاشتباه فى الصورة التى يقوم فيها على أحكام الإدانة السابقة يتمحض عن معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد، فإن المادة 5 المشار إليها تكون مخالفة لأحكام المواد 41، 66، 67 من الدستور. ولازم ذلك بطلانها، وسقوط المواد 6، 13، 15 من ذلك المرسوم بقانون المرتبطة بها باعتبار أنها مترتبة عليها، ولا قوام لها بدونها، ولا يتصور إعمالها فى غيبتها، وما كان المشرع ليقرها بمعزل عنها.
10 – النصوص التى ينتظمها العمل التشريعى لا تعتبر – من زاوية العيوب الموضوعية – مهدرة بتمامها إلا فى إحدى حالتين:
أولاهما: إذا كان فصل النصوص التى أبطلتها المحكمة عما سواها متعذرا، وكان ملحوظا عند إقرار المشرع للنصوص جميعها ما بينها من صلة حتمية تجعل ترابطها معا، واتصال أجزائها ببعض، حقيقة قانونية لا مراء فيها.
ثانيتهما: إذا كان متعذرا بعد إبطال المحكمة للنصوص المخالفة للدستور، أن تكفل النصوص المتبقية الوفاء بمقاصد التشريع، وغاياته.
الإجراءات
بتاريخ 7 من يناير سنة 1988 أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا فى ختامها الحكم بعدم دستورية المادتين الخامسة والسادسة من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فى ختامها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة اصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
وحيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن النيابة العامة كانت قد أقامت الدعوى الجنائية فى القضية رقم 1 لسنة 1987 جنح اشتباه طامية ضد المدعى بوصف أنه عد مشتبها فيه إذ سبق الحكم عليه أكثر من مرة فى جرائم الاتجار بالمواد المخدرة، كما اشتهر عنه أنه اعتاد جرائم الاعتداء على النفس وطلبت النيابة معاقبته بالمواد 5/ 7، 6، 8، 9، 16 من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المشردين والمشتبه فيهم. وأثناء نظر الدعوى أمام محكمة جنح اشتباه طامية، دفع المدعى بعدم دستورية مادتيه الخامسة والسادسة. وإذ قدرت المحكمة المذكورة جدية هذا الدفع فقد صرحت للمدعى بجلسة 6 من ديسمبر سنة 1987 بإقامة دعواه الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة. وبجلسة 10 من يناير سنة 1988 قررت محكمة الموضوع وقف الدعوى الجنائية لحين الفصل فى الطعن بعدم الدستورية.
وحيث إن المادة 5 من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم – تنص على أن “يعد مشتبها فيه كل شخص تزيد سنه على ثمانى عشرة سنة حكم عليه أكثر من مرة فى إحدى الجرائم الآتية أو اشتهر عنه – لأسباب مقبولة – أنه اعتاد ارتكاب بعض الجرائم أو الأفعال الآتية:
1 – الاعتداء على النفس أو المال أو التهديد بذلك.
2 – الوساطة فى إعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة أو المختلسة.
3 – تعطيل وسائل المواصلات أو المخابرات ذات المنفعة العامة.
4 – الاتجار بالمواد السامة أو المخدرات أو تقديمها للغير.
5 – تزييف النقود أو تزوير أوراق النقد الحكومية أو أوراق البنكنوت الجائز تداولها قانونا فى البلاد أو تقليد أو ترويج شئ مما ذكر.
6 – الجرائم المنصوص عليها فى القانون رقم 10 لسنة 1961 فى شأن مكافحة الدعارة.
7 – جرائم هروب المحبوسين وإخفاء الجناة، المنصوص عليها فى الباب الثامن من الكتاب الثانى من قانون العقوبات.
8 – جرائم الاتجار فى الأسلحة أو الذخائر.
9 – إعداد الغير لارتكاب الجرائم أو تدريبهم على ارتكابها ولو لم تقم جريمة نتيجة لهذا الإعداد أو التدريب.
10 – إيواء المشتبه فهم وفقاً لأحكام هذا القانون بقصد تهديد الغير أو فرض السيطرة عليه.
كما تنص المادة 6 من ذات المرسوم بقانون على ما يأتى:
“يعاقب المشتبه فيه بأحد التدابير الآتية:
1 – تحديد الإقامة فى مكان معين.
2 – الوضع تحت مراقبة الشرطة.
3 – الإيداع فى إحدى مؤسسات العمل التى تحدد بقرار من وزير الداخلية، ويكون التدبير لمدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات، وفى حالة العود أو ضبط المشتبه فيه حاملا أسلحة أو آلات أو أدوات أخرى من شأنها احداث جروح أو تسهيل ارتكاب الجرائم، تكون العقوبة الحبس والحكم بأحد التدابير السابقة لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات.
4 – الإبعاد للأجنبى. br> وحيث إن المدعى ينعى على المادتين 5، 6 السالف بيانهما، مخالفتهما لنص المادتين 66 و67 من الدستور من عدة أوجه حاصلها أن الاشتباه ليس إلا حالة غير ظاهرة للحس أو العيان، كما أن الاشتهار يؤسس عادة على تقارير أجهزة الأمن، وكلاهما مرد الأمر فيه إلى حالة تقوم بالشخص منفصلة عن أية فعال يكون قد أتاها. هذا بالاضافة إلى أن الاشتباه إنما يبعث إلى الحياة نظاما قانونيا اختفى منذ أكثر من ثلاثين عاما من القانون المقارن، ومؤداه معاقبة الشخص عن الفعل الواحد أكثر من مرة، وعن حالة قد تتوافر فيه قبل العمل بالنصوص التشريعية المطعون عليها.
ووحيث إنه من المقرر لكل جزاء جنائى أثرا مباشرا يرتد إلى طبيعته، ويتمثل فى حرمان الشخص من حقه فى الحياة أو من حريته أو ملكه. ولقد كان هذا الجزاء عبر أطوار قاتمة فى التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان، محققا للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعداً بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية. وكان منطقيا وضروريا أن تعمل الدولة المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة فى جوانبها الموضوعية والإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها المخالفة للقيم التى تؤمن بها الجماعة فى تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها. وكان لازما – فى مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته – أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التى ارتأتها على سلطان المشرع فى مجال التجريم تعبيرا عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافا منها بأن الحرية فى ابعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التى عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاما متكاملا يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون – فى إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها. وقد تحقق ذلك بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة، ومقاييس أكثر إحكاما لتحديد ماهية الأفعال المنهى عن ارتكابها، بما يزيل غموضها، وعلى نحو يجرد المحكمة من السلطة التقديرية التى تقرر بها قيام جريمة أو فرض عقوبة بغير نص، كى تظل المصلحة الاجتماعية – فى مدارجها العليا – قيدا على السلطة التشريعية تحريا للشرعية فى أبعادها الكاملة، واستشرافا للعدالة فى أعماق منابتها.
وحيث إن الدستور – فى اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة ومتابعة خطاها، والتقيد بمناهجها التقدمية – نص فى المادة 66 منه على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره يتمثل أساسا فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه محورها الأفعال ذاتها، فى علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هى مناط التأثيم وعلته، وهى التى يتصور إثباتها ونفيها، وهى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل إنه فى مجال تقدير توافر القصد الجنائى، فإن المحكمة لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التى قام الدليل عليها قاطعا واضحا، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجانى حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيرا خارجيا وماديا عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالى وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التى أحدثها بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعماق ذاته – تعتبر واقعة فى منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانون، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا فى صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة. br> وحيث إنه فضلا عما تقدم، فإن الأصل وفقا لنص المادة 66 من الدستور هو أن يكون لكل جريمة عقوبة محددة ينص القانون عليها فى صلبه، أو تتقرر – على الأقل – وفقا للحدود التى يبينها. كذلك، فإن من القواعد المبدئية التى يتطلبها الدستور فى القوانين الجزائية، أن تكون درجة اليقين التى تنتظم أحكامها فى أعلى مستوياتها، وأظهر فى هذه القوانين منها فى أية تشريعات أخرى، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثرا، ويتعين بالتالى – ضمانا لهذه الحرية – أن تكون الأفعال التى تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وبمراعاة أن تكون دوما جلية واضحة فى بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها فى بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التى يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابى مؤداه أن يحال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد منضبطة تعين لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه، وهى قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطارا لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التى يتوخاها الدستور هى أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته فى إطار من الضوابط التى قيدها بها. ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التى تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كى يدفعوا عن حقهم فى الحياة، وكذلك عن حرياتهم تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة. ولقد كان غموض القوانين الجزائية مرتبطا من الناحية التاريخية بإساءة استخدام السلطة، وكان أمرا مقضيا أن يركن المشرع إلى مناهج جديدة فى الصياغة لا تنزلق إلى تلك التعبيرات المرنة أو الغامضة أو المتميعة المحملة بأكثر من معنى والتى تنداح معها دائرة التجريم بما يوقع محكمة الموضوع فى محاذير واضحة قد تنتهى بها – فى مجال تطبيقها للنصوص العقابية – ابتداع جرائم لا يكون المشرع قد قصد حقيقة إلى إنشائها، وإلى مجاوزة الحدود التى اعتبرها الدستور مجالا حيويا لمباشرة الحقوق والحريات التى كفلها. وهو ما يخل فى النهاية بالضوابط الجوهرية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقا لنص المادة 67 من الدستور، والتى عرفتها هذه المحكمة بأنها تعكس نظاما متكامل الملامح يتوخى بالأسس التى يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه وحرياته الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها.
وحيث إنه إذ كان ما تقدم، وكانت خاصية الوضوح واليقين فى القوانين الجزائية غايتها ضمان الحرية الفردية فى مواجهة التحكم انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيوم التى تنال من الحرية الشخصية، لضمان أن تباشر كل دولة السلطة المخولة لها – فى مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعى – بمراعاة الأغراض النهائية للقوانين العقابية التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته. متى كان ذلك، فإن انتفاء الغموض فى هذه القوانين يقع فى نطاق مجموعة القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القواعد المبدئية التى تقوم عليها المحكمة المنصفة – وإن كانت إجرائية فى الأصل – إلا أن تطبيقها فى مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد حلقاتها – يؤثر بالضرورة فى محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية توجبها الفطرة وتفرضها حقائق الأشياء. متى كان ذلك، وكان افتراض البراءة يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وكان هذا الأصل يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم كان متهما باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامى أقرتها الشرائع جميعها – لا لتكفل بموجبها الحماية للمذنبين – وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن كل فرد إذ كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام الجنائى. متى كان ذلك، وكان الاتهام الجنائى – فى ذاته – لا يزحزح أصل البراءة، بل يلازم الفرد دوما ولا يزايله سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءه، وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاته، فقد غدا دحض أصل البراءة ممتنعا بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقناعية – فى مجال ثبوت التهمة – مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفائها وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا.
ووحيث إن البين من نص للمادة 5 المطعون عليها أن للاشتباه صورتين يمثل الاشتهار إحداهما وتفصح عن أخراهما سوابق متعددة مردها إلى أحكام إدانة سابقة، أما الصورة الأولى – وهى الاشتهار – فقد نظمتها المادة 5 المشار إليها وذلك بنصها على أن كل من تزيد سنه على ثمانى عشرة سنة يعتبر مشتبها فيه إذا اشتهر عنه أنه اعتاد ارتكاب بعض الجرائم أو الأفعال التى حددتها هذه المادة حصرا، وكان الاشتباه بهذا المعنى – وطبقا لما جرى عليه القضاء فى مجال تطبيقه – ليس وصفا دائما أو مؤبدا، ولا يعتبر فى مبناه مرتبطا بفعل يحس به فى الخارج، ولا هو واقعة مادية تمثل سلوكا محددا أتاه الجانى، ودفعها إلى الوجود، لتقام عليه الدعوى الجنائية من أجل ارتكابها، وإنما قوامه حالة خطرة كامنه فيه مرجعها إلى شيوع أمره بين الناس باعتباره من الذين اعتادوا مقارفة جرائم وأفعال مما عينتها المادة 5 المطعون عليها، وهى حالة رتب المشرع على تحققها بالنسبة إليه محاسبته وعقابه، وأجاز التدليل عليها بالأقوال أو السوابق أو التقارير الأمنية بعد أن قدر أن جميعها تعتبر كاشفة عن الصلة بين حاضره وماضيه، وقاطعة فى توكيد خطورته. متى كان ذلك، وكان هذا الاتجاه التشريعى يقوم على افتراض لا محل له، ويناهض نصوص الدستور التى تعتد بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم وعلته، ولأنها دون غيرها هى التى يجوز إثباتها ونفيها، وهى التى يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، وأن تكون عقيدتها بالبناء عليها، وكان لا شبهة فى أن الأقوال التى تتردد فى شأن شخص معين، وكذلك السوابق أو التقارير أيا كان وزنها، لا تنزل منزلة الأفعال التى يجوز إسنادها إلى مقارفها، ولا هى قاطعة فى اتجاه إرادته وانصرافها إلى ارتكابها، وقد تنقصها الدقة أو تفتقر إلى الموضوعية، وكان من المقرر أنه لا يجوز – فى أية حال – أن تكون مصائر الناس معلقة على غير أفعالهم، أما اقوال الآخرين فى حقهم فلا يملكون لها دفعا، ولا سبيل لهم عليها؛ لتعلقها بما شاع عنهم، وقد تحيط بهم زورا وبهتانا، وكان الاشتهار بالمعنى الذى قصد إليه النص المطعون فيه يعتبر – فى ذاته – مكونا لجريمة لا يعاصرها فعل أو أفعال بعينها، وهو فوق هذا يجهل بماهية الأفعال التى يتعين على المخاطبين بالقوانين الجزائية توقيها وتجنبها، والتى يوقعهم ارتكابها فى حومة المخالفة لنواهيها، فإن الاشتهار – وفقا لما جرى به النص المطعون فيه – لا يكون محددا ماهية الأفعال المنهى عنها بصورة قاطعة، ومفتقرا بالتالى إلى خاصية اليقين التى لا يجوز أن تتحلل القوانين الجزائية منها، ومنصرفا كذلك إلى حالة خطرة تستمد عناصرها من السوابق أو الأقوال أو غيرها، وجميعها لا ترقى إلى مرتبة الفعل ولا يقوم هو بها، ومن ثم يقصر الاشتهار عن أن يكون من الأفعال التى يجوز تجريمها وفقا لضوابط الدستور وضماناته التى يؤدى الإخلال بها إلى اقتحام الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية، وإلى الانتقاص من الحقوق التى كفلها الدستور فى مواجهة التسلط أو التحامل. كذلك فإنه مما يناقض إدانة الشخص على أساس الاشتهار بالمعنى السابق، افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه إلى أن تخلص المحكمة إلى إدانته بصفة باتة بعد اقتناعها بالأدلة الكافية على ثبوتها بما لا يدع مجالا لشبهة انتفائها، وهى أدلة لا تدور إلا على الأفعال التى نسبتها النيابة العامة إليه باعتبارها ركنا ماديا فى الجريمة. ولا كذلك الاشتهار، إذ لا يؤول إلى فعل محدد يكون مادة الجريمة أو موضوعها، وإنما يقوم على مجرد حالة لا تنشئها أو تتصل بها أفعال مادية قام الدليل عليها يعبر بها الجانى عن إرادته الواعية الجازمة، متوسلا بها إلى بلوغ النتيجة الإجرامية التى يبتغيها.
وحيث إنه عن الصورة الأخرى للاشتباه، والتى تقوم فى جوهرها على أحكام إدانة سابقة، فقد فصلتها المادة 5 المطعون عليها وذلك فيما قررته من أن كل من تزيد سنه على ثمانى عشرة سنة، يعد مشتبها فيه إذا كان قد حكم عليه أكثر من مرة فى إحدى الجرائم التى عينتها هذه المادة، بما مؤداه أنه حتى فى الأحوال التى يكون فيها الاشتباه مستندا – فى مصدره – إلى تعدد الأحكام الصادرة فى الجرائم التى حددها القانون، فإن الاشتباه يظل جريمة بلا سلوك، إذ ليس شرطا لقيامها أن يكون قد عاصرها أو اتصل بها فعل محدد إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا. ومن ثم يكون مرد الاشتباه فى هذه الصورة إلى الخطورة الناجمة عن جرائم سابقة ارتكبها شخص معين ليغدو الاشتباه صفة ينشئها المشرع فى نفس قابلة لها بغية التحوط لأمن الجماعه وصون نظامها. ولا مرية فى أن اعتبار الشخص مشتبها فيه بناء على جرائمه السابقة إنما يناهض السياسة الجنائية القويمة، إذ هو أدعى إلى انتباذه الجماعة التى يعيش فيها وشقه عصا الطاعن عليها. وآية ذلك أن الخطورة الناجمة عن جرائمه السابقة والتى يراد التحوط منها صونا لمصالح الجماعة، لا تزيد عن كونها من العوامل التى تومئ إلى “احتمال” ارتكابه فى المستقبل لجريمة غير معينة، وهى بذلك ترشح لمقارفتها، ولا تقطع بالانزلاق فيها، ولا يجوز بالتالى أن يتعلق التجريم بها. إذ ليس ثمة علاقة حتمية بين انغماس الشخص فى جرائم سابقة، وبين ترديه فى حمأتها والعودة إليها مرة أخرى. كذلك فإنه مما يناقض افتراض البراءة أن يدان الشخص لا عن جريمة بذاتها أتاها وتتحدد عقوبتها بالنظر إلى ماهيتها وظروفه، بل بناء على محض احتمال عودته إلى الإجرام. بما مؤداه أن الخطورة الإجرامية التى يعتبر الشخص بموجبها مشتبها فيه قوامها عناصر مستمدة من ماضيه، ودليلها جرائمه السابقة إذ تعتبر كاشفة عن خطورته هذه وقاطعة به، ومن ثم تكون سوابقه دامغة لحاضره، وملطخة لمستقبله، بل ومحددة لمجراه، ومدخلا إلى إدانته عن جريمة قوامها الحالة الخطرة فى ذاتها، وهى حالة تنشئها الجرائم السابقة التى ارتكبها والتى تم تنفيذ عقوباتها كاملة بالنسبة إليه. وهى بعد جريمة نص القانون على أن تتخذ فى شأنها التدابير المنصوص عليها فى مادته السادسة، وجميعها تدابير سالبة للحرية لها وطأة العقوبة وخصائصها، وقد اعتبرتها مادته العاشرة مماثلة لعقوبة الحبس فى تطبيق أحكام قانون العقوبات أو أى قانون آخر. هذا بالإضافة إلى أن توقيعها فى ذاته ينطوى على معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد، فقد حوكم عن جرائمه السابقة جميعها وتم استيفاء عقوبة كل منها، وليس ثمة جريمة أخرى قارفها – قوامها فعل أو امتناع – حتى تقام الدعوى الجنائية عنها، وإنما تحركها حالته الخطرة التى افترض المشرع ارتكازها على سوابقه ورتبها عليها. ولا ينال مما تقدم، قالة أن مواجهة النزعة الإجرامية الكامنة فيمن تتعدد سوابقه وكبحها، لازمها اعتباره مشتبها فيه توقيا لخطورته، ذلك أن محكمة الموضوع يكفيها أن تقدر بمناسبة الجريمة الأخيرة التى ارتكبها الجزاء الملائم لها مراعية فى ذلك ماضيه الإجرامى.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان مبدأ عدم جواز معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد، من المبادئ التى رددتها النظم القانونية على اختلافها، ويعتبر جزءا من الحقوق الأساسية التى تضمنها الاتفاقيات الدولية لكل إنسان، ويخل إهداره بالحرية الشخصية التى يعتبر صونها من العدوان، ضمانة جوهرية لآدمية الفرد ولحقه فى الحياة، ذلك أن الجريمة الواحدة لا تزر وزرين. وباستيفاء من ارتكبها للعقوبة المقدرة لها – وهى عقوبة لا يفرضها المشرع جزافا، وإنما يفرد لكل جريمة العقوبة التى يقدر أنها مناسبة لها – فإن الحق فى القصاص يكون قد بلغ غاية الأمر فيه. وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن خضوع الدولة للقانون محدد على ضوء مفهوم ديموقراطى مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة من الحقوق تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى كفلها الدستور فى مادته الحادية والأربعين واعتبرها من الحقوق الطبيعية التى لا تمس، ومن بينها ألا تكون العقوبة الجنائية التى توقعها الدولة بتشريعاتها مهينة فى ذاتها أو ممعنة فى قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد، وكان الاشتباه فى صورتيه المشار إليهما بنص المادة 5 المطعون عليها لا يعتبر فعلا اتخذ مظهرا خارجيا ملموسا، ولا هو يقيد الحرية الشخصية بمراعاة الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكام الدستور فى جوانبها الموضوعية والإجرائية، أو يلتزم الضوابط التى أرستها هذه المحكمة فى شأن المحاكمة المنصفة، ومن بينها افتراض البراءة كحقيقة مستعصية على الجدل تمليها الشرعية الجنائية، وكان الاشتباه فى الصورة التى يقوم فيها على أحكام الإدانة السابقة، يتمحض عن معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد، فإن المادة 5 المشار إليها تكون مخالفة لأحكام المواد 41، 66، 67 من الدستور. br> وحيث إنه إذ كان ما تقدم، وكانت النصوص التى ينتظمها العمل التشريعى لا تعتبر – من زاوية العيوب الموضوعية – مهدرة بتمامها إلا فى إحدى حالتين:
أأولاهما: إذا كان فصل النصوص التى أبطلتها المحكمة عما سواها متعذرا، وكان ملحوظا عند اقرار المشرع للنصوص جميعها ما بينها من صلة حتمية تجعل ترابطها معا واتصال أجزائها ببعض، حقيقة قانونية لا مراء فيها.
ثانيتهما: إذا كان متعذر بعد إبطال المحكمة للنصوص المخالفة للدستور، أن تكفل النصوص المتبقية الوفاء بمقاصد التشريع، وغاياته.br> ووحيث إنه إذ كان ذلك، وكان إبطال هذه المحكمة نص المادة 5 من القانون المطعون عليه مؤداه زوال النصوص الأخرى المرتبطة بها، باعتبار أنها مترتبة عليها، ولا قوام لها بدونها، ولا يتصور إعمالها فى غيبتها، وما كان المشرع ليقرها بمعزل عن المادة 5 المشار إليها أو استقلالا عنها، فإن أحكام المواد 6، 13، 15 من هذا القانون تكون مع مادته الخامسة كلا لا يتجزأ وتسقط تبعا لها.
فلهذه الأسباب:
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 5 من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم وبسقوط احكام المواد المرتبطة بها، وهى المواد 6، 13، 15 منه، وألزمت الحكومة المصروفات، ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماه.