جلسة 2 فبراير سنة 1992
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين/ الدكتور محمد ابراهيم ابو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف ومحمد على عبد الواحد وماهر البحيرى – أعضاء، وحضور السيد المستشار/ السيد عبد الحيمد عماره – المفوض، وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد – أمين السر.
قاعدة رقم (21)
القضية رقم 13 لسنة 12 قضائية “دستورية”
ا – دستور “ماهيته – سموه”
الدستور هو القانون الأساسى الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم ويقرر الحريات والحقوق العامة وضماناتها، ويحدد لكل من السلطات اتشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحيتها والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أى منها فى أعمال السلطة الأخرى أو مزاحمتها فى ممارسة اختصاصاتها التى ناطها الدستور بها.
2 – دستور – مبدأ الفصل بين السلطات.
اختص الدستور السلطة التشريعية بسن القوانين وفقا لأحكامه، والسلطة القضائية بالفصل فى المنازعات والخصومات – اختصاص أولاهما بسن القوانين لا يخولها التدخل فى أعمال أسندها الدستور إلى الثانية وقصرها عليها، والا كان هذا إخلالا بمبدأ الفصل بين السلطات.
3 – دستور – الاعلان العالمى لحقوق الانسان – حق الدفاع “الحق فى المحاكمة المنصفة – افتراض البراءة”
الحق فى المحاكمة المنصفة – حق كفله الدستور بما نص عليه فى مادته السابعة والستين من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه، ويستمد هذا الحق أصله من الاعلان العالمى لحقوق الانسان الذى يقرر أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره فى محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة المادة 10 ولكل متهم الحق فى أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه المادة/ 11 فقرة أولى، وليس ذلك إلا ترديدا لقاعدة استقر العمل على تطبيقها فى الدول الديمقراطية وتقع فى اطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها وطبيعة القواعد الاجرائية المعمول بها أمامها وكيفية تطبيقها من الناحية العملية.
4 – حق الدفاع “الحق فى المحاكمة المنصفة”.
قاعدة الحق فى المحاكمة المنصفة، تعتبر فى نطاق الاتهام الجنائى وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى قضى الدستور فى المادة 41 منه بأنها من الحقوق الطبيعية التى لا يجوز الاخلال بها أو تقيدها بالمخالفة لأحكامه، ولا يجوز بالتالى تفسيرها تفسيرا ضيقا، إذ هى ضمان مبدئى لرد العدوان على حقوق المواطن وحرياته الأساسية وهى التى تكفل تمتعه بها فى اطار من الفرص المتكافئة – إنطباقها بالنسبة لكافة الجرائم أيا كانت طبيعتها أو درجة خطورتها.
5 – حق الدفاع “الحق فى المحاكمة المنصفة – إفتراض البراءة”.
إدانة المتهم بالجريمة تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه فى الحياة، مما لا سبيل إلى توقيه إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد فى الحرية من ناحية، وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى – كفالة الدستور فى المادتين 67، 69، منه الضمانات الجوهرية التى لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها ومنها ضمانتى افتراض البراءة وحق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة.
6 – دستور – الحرية الشخصية – حق الدفاع.
كفالة الدستور للحقوق التى نص عليها فى صلبه الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية – استيثاق المحكمة من مراعاة الضمانات الجوهرية للدفاع، حتى فى أكثر الجرائم خطورة، لا يعدو أن يكون ضمانه أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية، التى كفلها الدستور لكل مواطن، بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامة.
7 – حق الدفاع “افتراض البراءة” – دعوى جنائية.
إفتراض براءة المتهم أصل ثابت يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وليس بنوع العقوبة المقرره لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية فى جميع مراحلها – حتمية ترتيب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة – لازم ذلك طرح هذه الأدلة عليها وأن تقول وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أى جهة أخرى مفهوما محددا لدليل بعينه.
8 – دستور – الاعلان العالمى لحقوق الانسان – الاتفاقية الأوربية لحقوق الانسان – حق الدفاع “الحق فى المحاكمة المنصفة – إفتراض البراءة”.
قواعد ضوابط المحاكمة المنصفة، نظام متكامل يتوخى بأسسه صون كرامة الانسان وحماية حقوقه الأساسية ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، إنطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياه الخاصة وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية، ولضمان تقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها فى مجال فرض العقوبة بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته – وجوب التزام هذه القواعد مجموعة من القيم تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها، ويندرج تحتها أصل البراءة التى حرص الدستور على إبرازها فى المادة 67 منه مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة 11 من الاعلان العالمى لحقوق الإنسان والمادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان.
9 – حق الدفاع “افتراض البراءة: الشرائع – علتها – دحضها”.
أصل البراءة يمتد إلى كل فرد مشتبها فيه أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامى اقرتها الشرائع جميعا، لا لحماية المذنبين وإنما درءا للعقوبة عن الفرد اذا ما أحاطت الشبهات بالتهمة – الاتهام الجنائى لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد دوما ولا يزايله سواء فى مرحلة المحاكمة أو أثنائها، ولا سبيل لدحضه بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الاقناعية مبلغ الجزم واليقين وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائى استنفذ طرق الطعن.
10 – حق الدفاع “افتراض البراءة” – قرائن قانونية.
افتراض البراءة لا تمحض عن قرينة قانونية ولا هو من صورها – علة ذلك، أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للاثبات من محله الأصلى ممثلا فى الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة هى التى يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل أخرى واقامها بديلا عنها، وانما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الانسان عليها، اذ ولد حرا مبرءا من الخطيئة أو المعصية ومفترضا على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لا زال كامنا فيه، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة قبل المتهم فى كل ركن من أركانها.
11 – حق الدفاع “الحق فى المحاكمة المنصفة – افتراض البراءة” – قرائن قانونية.
أصل البراءة من الركائز التى يستند اليها مفهوم المحاكمة المنصفة ويعكس قاعدة مستعصية على الجدل تقتضيها الشرعية الاجرائية ويعتبر انفاذها مفترضا أوليا لادارة العدالة الجنائية ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن فى مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية تحكمية ينشئها.
12 – جمارك – قرائن قانونية – نيابة عامة.
افتراض النص التشريعى العلم بالتهريب الجمركى اذا لم يقدم حائز البضائع الاجنبية بقصد الاتجار المستندات الدالة على الوفاء بالضريبة – مؤداه احلال المشرع واقعة عدم تقديم الحائز لتلك المستندات محل واقعة علمه بالتهريب، منشئا قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها دليلا على ثبوت واقعة العلم بالتهريب، التى كان ينبغى أن تتولى النيابة مسئولية اثباتها فى اطار التزامها الأصيل باقامة الادلة المؤيدة لقيام كل ركن يتصل ببنيان الجريمة ويعتبر من عناصرها، بما فى ذلك القصد الجنائى العام ممثلا فى ارادة الفعل مع العلم بالوقائع التى تعطيه دلالته الاجرامية.
13 – جمارك – قرائن قانونية “نوعاها” – نيابة عامة.
الأصل فى القرائن القانونية كونها غير قاطعة جائز اثبات عكسها – القرينة القاطعة لا تكون الا بنص خاص يقرر عدم جواز هدمها – التزام القانون الجمركى الأصل العام فى القرينة القانونية بما تضمنته مذكرته الإيضاحية من أن الأثر الذى رتبه القانون على افتراض علم الحائز بتهريب البضائع، أن النيابة العامة أصبحت غير مكلفة باقامة الدليل على هذا العلم، وأن نفيه غدا التزاما قانونيا ألقاه المشرع على عاتق الحائز.
14 – جمارك – قرائن قانونية “حكمتها”.
الأصل فى القرائن القانونية قاطعة أو غير قاطعة أنها من عمل المشرع ولا يقيمها تحكما أو املاء، وإنما على ضوء ما يقع غالبا فى الحياة العملية – تفتقد هذه الاعتبارات القرينة القانونية التى تضمنها نص الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك بافتراضها علم حائز البضائع الأجنبية بتهريبها اذا لم يقدم المستندات الدالة على سداد الضريبة الجمركية المقررة عليها – علة ذلك، تعلقها ببضائع يجرى التعامل فيها بعد خروجها من الدائرة الجمركية، وهو تعامل لا ينحصر فيمن قام باستيرادها ابتداء وانما تتداولها ايد عديدة شراء وبيعا انتهاء بحائزها الأخير، وفى كل ذلك يتم التعامل بافتراض سبق الوفاء بضريبتها الجمركية ترتيبا على تجاوزها الدائرة الجمركية التى ترصد فى محيطها البضائع الواردة وتقدر ضرائبها باعتبار أن ذلك هو الأصل وان تهريبها لا يكون الا بدليل تقدمه الادارة الجمركية.
15 – حق الدفاع “الحق فى المحاكمة المنصفة – افتراض البراءة” – جمارك – قرائن قانونية.
عدم تقديم حائز البضائع الأجنبية للمستندات الدالة على الوفاء بالضريبة الجمركية المقررة عليها، لا يفيد بالضرورة علمه بتهريبها، والواقعة البديلة التى اختارها المشرع وهى عدم تقديم المستندات لا ترشح فى الأعم الأغلب من الأحوال لاعتبار واقعة العلم بالتهريب ثابتة بحكم القانون ولا تربطها علاقة منطقية بها – مؤداه، غدو قرينة العلم بالتهريب غير مرتكزة على أسس موضوعية ومقحمة لإهدار افتراض البراءة ومجاوزة لضوابط المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور فى صلبه.
16 – مبدأ الفصل بين السلطات – قرائن قانونية.
الأصل أن تتحقق المحكمة بنفسها وعلى ضوء تقديرها للأدلة من علم المتهم بحقيقة الأمر فى شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة، وأن يكون هذا العلم يقينا لا ظنيا أو افتراضيا – الاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية فى مجال إنشاء الجرائم وتقدير عقوباتها، لا يخولها التدخل بالقرائن التى تنشئها لغل يد المحكمة عن القيام بمهمتها الأصيلة فى مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التى عينها المشرع اعمالا لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية.
17 – مبدأ الفصل بين السلطات – حق الدفاع “افتراض البراءة” – جمارك قرائن قانونية.
إعفاء المشرع النيابة العامة من التزامها، فى مجال اثبات الجرائم، بالنسبة إلى واقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائى وتعتبر من عناصره، هى واقعة علم المتهم بتهريب البضائع الأجنبية التى يحوزها بقصد الاتجار فيها، حاجبا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها، التى لا سلطان لسواها عليه، وأن تقول كلمتها بشأنها، بعد إفتراض هذا العلم بقرينة تحكمية، هى عدم تقديمه المستندات الدالة على سداد الضريبة الجمركية المقررة عليها ونقل عبء نفيه إلى المتهم – يعد انتحالا لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية وإخلالا بموجبات الفصل بينها وبين السلطة التشريعية ومناقضا لافتراض البراءة.
18 – مبدأ الفصل بين السلطات – الحرية الشخصية – حق الدفاع” الحق فى المحاكمة المنصفة – افتراض البراءة” – جمارك – قرائن قانونية.
إقتران إقتران براءة المتهم بوسائل إجراءية إلزامية تعتبر وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع، تتمثل فى حق المتهم فى مواجهة الأدلة التى قدمتها النيابة العامة والحق فى نفيها – افتراض نص الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك علم حائز البضائع الأجنبية بتهربها من واقعة عدم تقديمه المستندات الدالة على الوفاء بالضريبة، يعد إخلال بهذه الوسائل الاجرائية، اذ جعل المتهم مواجها بواقعة أثبتتها القرينة فى حقه بغير دليل ومكلفا بنفيها خلافا لأصل البراءة ومسقطا عملا كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل، نيلا من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية ومن الحرية الشخصية وبالناقضة لافتراض البراءة، واخلالا بضوابط المحاكمة المنصفة وما تشتمل عليه من ضمان الحق فى الدفاع بالمخالفة للمواد 41، 67، 69، 86، 165 من الدستور.
1 – الدستور هو القانون الأساسى الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحيتها ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أى منها فى أعمال السلطة الأخرى أو مزاحمتها فى ممارسة اختصاصاتها التى ناطها الدستور بها.
2 – إن الدستور إذ اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقا لأحكام المادة 86 منه، كما أختص السلطة القضائية بالفصل فى المنازعات والخصومات على النحو المبين فى الدستور – المادة 165 منه – فإن لازم ذلك أن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين لا يخولها التدخل فى أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، والا كان هذا افتئاتا على عملها وإخلالا بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية.
3، 4 – إن الدستور قد كفل فى مادته السابعة والستين الحق فى المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيه ضمانات الدفاع عن نفسه، هو حق نص عليه الاعلان العالمى لحقوق الانسان فى مادتيه العاشرة والحادية عشرة التى تقرر أولاهما أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره فى محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى الفصل فى حقوقه والتزاماته المدنية، أو فى التهمة الجنائية الموجهة اليه، وتردد ثانيتهما فى فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت اليه تهمة جنائية فى أن تفترض براءته إلى أن تثبت ادانته فى محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. والفقرة السابقة هى التى تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها، وهى تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها فى الدول الديمقراطية، وتقع فى اطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها فى الدول المتحضرة وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الاجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية، كما أنها تعتبر فى نطاق الاتهام الجنائى وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى قضى الدستور فى المادة 41 منه بأنها من الحقوق الطبيعية التى لا يجوز الاخلال بها، أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه، ولا يجوز بالتالى تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً، اذ هى ضمان مبدئى لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الاساسية، وهى التى تكفل تمتعه بها فى اطار من الفرص المتكافئة، ولأن نطاقها وان كان لا يقتصر على الاتهام الجنائى، وانما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، الا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما فى الدعوى الجنائية، وذلك أيا كانت طبيعة الجريمة وبغض النظر عن درجة خطورتها.
5 – إن إدانة المتهم بالجريمة انما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه فى الحياة، وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيها الا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد فى الحرية من ناحية، وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى، ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائى معرفا بالتهمة، مبينا طبيعتها، مفصلا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل فى هذا التهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة، ينشئها القانون، وان تجرى المحاكمة علانية، وخلال مدة معقولة، وأن تستند المحكمة فى قرارها بالادانة – اذا خلصت اليها – الى موضوعية التحقيق الذى تجريه، وإلى عرض متجرد للحقائق، والى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة، وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التى لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها، ومن ثم كفلها الدستور فى المادة 67 منه، وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها وتندرجان تحت مفهومها، هما افتراض البراءة من ناحية، حق الدفاع لدحض الاتهام الجنائى من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة 69 من الدستور وذلك بنصها على أن حق الدفاع بالإصالة أو بالوكالة مكفول.
6 – يكفل الدستور للحقوق التى نص عليها فى صلبه الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، واستيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة عند فصلها فى الاتهام الجنائى وهيمنتها على إجراءات الدعوى الجنائية تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى فى أكثر الجرائم خطورة، لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التى كفلها الدستور لكل مواطن – بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه.
7 – إن افتراض براءة المتهم يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية فى جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، ومن ثم كان من المحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها، ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هى وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أى جهة أخرى مفهوما محدد لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائما إلى ما استخلصته هى من وقائع الدعوى وحصلته من أوراقها غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
8 – إن ضوابط المحاكمة المنصفة تتمثل فى مجموعة من القواعد المبدئية التى تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح، يتوخى بالأسس التى يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية، ولضمان أن تتقيد الدولة – عند مباشرتها لسلطاتها فى مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعى – بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التى تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التى لا يجوز النزول عنها أو الانتفاص منها. وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية فى الأصل – إلا أن تطبيقها فى مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهى بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها فى المادة 67 منه، مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة 11 من الاعلان العالمى لحقوق الإنسان والمادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
9 – إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أو متهما باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامى أقرتها الشرائع جميعها – لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين – وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة الإجرامية، ذلك أن الإتهام الجنائى فى ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد دوما ولا يزايله، سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها وأياً كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها، ولا سبيل بالتالى لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائى استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا.
10، 11 – إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلى ممثلا فى الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة هى التى يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلا عنها، وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الإنسان عليه، فقد ولد حرا مبرءا من الخطيئة أو المعصية، ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لا زال كامنا فيه، مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال، وإلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعة فيه، هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التى نسبتها إليه فى كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها بما فى ذلك القصد الجنائى بنوعيه إذا كان متطلبا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذا هو من الركائز التى يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية التى تعتبر فى ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضا أوليا لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية، وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن فى مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية تحكمية ينشئها.
12 – إن نص الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك بعد أن قرر أن حيازة البضائع الأجنبية بقصد الإتجار فيها مع العلم بأنها مهربة يعتبر فى حكم التهريب الجمركى، نص على أن هذا العلم يفترض إذا لم يقدم حائز البضائع الأجنبية بقصد الإتجار، المستندات الدالة على سبق الوفاء بالضريبة المستحقة عنها، وبذلك أحل المشرع واقعة عدم تقديم الحائز المذكور لتلك المستندات، محل واقعة علمه بتهريب البضائع التى يحوزها بقصد الإتجار فيها، منشئا بذلك قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها دليلا على ثبوت واقعة العلم بالتهريب التى كان ينبغى أن تتولى النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباتها فى إطار التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لقيام كل ركن يتصل ببنيان الجريمة، ويعتبر من عناصرها، بما فى ذلك القصد الجنائى العام ممثلا فى إرادة الفعل مع العلم بالوقائع التى تعطيه دلالته الإجرامية.
13 – إن القرينة القانونية التى تضمنها نص الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك، لا تعتبر من القرائن القاطعة، إذ الأصل فى القرائن القانونية بوجه عام هو جواز إثبات عكسها، ولا تكون القرينة قاطعة إلا بنص خاص يقرر عدم جواز هدمها، وقد التزم القانون الجمركى الأصل العام فى القرائن القانونية بما تضمنته مذكرته الإيضاحية من أن الأثر الذى رتبه هذا القانون على افتراض علم الحائز بحقيقة أن البضائع الأجنبية التى يحوزها للإتجار فيها مهربة، هو أن النيابة العامة أضحت غير مكلفة بإقامة الدليل على هذا العلم، وأن نفيه غدا التزاما قانونيا ألقاه المشرع على عاتق الحائز، مثلما هو الشأن فى القرائن القانونية، ذلك أن المشرع هو الذى تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية وأعفى النيابة العامة بالتالى من تقديم الدليل عليها.
14، 15 – الأصل فى القرائن القانونية قاطعة كانت أو غير قاطعة – هى أنها من عمل المشرع، وهو لا يقيمها تحكما أو إملاء، وإنما يجب أن تصاغ القرينة وأن يتحدد مضمونها على ضوء ما يقع غالبا فى الحياة العملية. لما كان ذلك وكانت القرينة القانونية التى تضمنها نص الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك لا تعتبر كذلك، ذلك أنها تتعلق ببضائع أجنبية يجرى التعامل فيها بعد خروجها من الدائرة الجمركية، وهو تعامل لا ينحصر فيمن قام باستيرادها ابتداء، وأنما تتداولها أيد عديدة شراء وبيعا إلى أن تصل إلى حائزها الأخير، وفى كل ذلك يتم التعامل فيها بافتراض سبق الوفاء بالضريبة الجمركية المستحقة عنها ترتيبها على تجاوزها الدائرة الجمركية التى ترصد فى محيطها البضائع الواردة، وتقدر ضرائبها وتتم إجراءتها، باعتبار أن ذلك هو الأصل فيها وأن تهريبها لا يكون إلا بدليل تقدمة الإدارة الجمركية ذاتها وهو ما أكدته الفقرة الثالثة من المادة 5 من القانون الجمركى بما نصت عليه من أن الضريبة الجمركية إنما تستحق بمناسبة ورود البضاعة أو تصديرها وفقا للقوانين والقرارات المنظمة لها، وأنه لا يجوز الإفراج عن أية بضاعة قبل إتمام الإجراءات الجمركية، وأداء الضرائب والرسوم المستحقة عنها ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. ولازم ما تقدم، أن عدم تقديم حائز البضائع الأجنبية بقصد الاتجار فيها للمستندات الدالة على الوفاء بالضرائب الجمركية المستحقة عنها، لا يفيد بالضرورة علمه بتهريبها، إذ كان ذلك، فإن الواقعة البديلة التى اختارها النص المطعون فيه لا ترشح فى الأعم الأغلب من الأحوال لاعتبار واقعة العلم بالتهريب ثابتة بحكم القانون ولا تربطها بالتالى علاقة منطقية بها. وتغدو القرينة بالتالى غير مرتكزة على أسس موضوعية ومقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومجاوزة من ثم لضوابط المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور فى صلبه.
16، 17 – لما كانت جريمة التهريب الجمركى من الجرائم العمدية التى يعتبر القصد الجنائى ركنا فيها، وكان الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها وعلى ضوء تقديرها للأدلة التى تطرح عليها من علم المتهم بحقيقة الأمر فى شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة وأن يكون هذا العلم يقينيا لا ظنيا أو افتراضيا، وكان الاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية فى مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل بالقرائن التى تنشئها لغل يد المحكمة عن القيام بمهمتها الأصلية فى مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التى عينها المشرع إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية، وكان نص الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك المطعون فيه قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر، دالا بطريق غير مباشر على العلم بالواقعة الإجرامية مقحما بذلك وجهة النظر التى ارتآها فى مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع لاتصالها بالتحقيق الذى تجربه بنفسها تقصيا للحقيقة الموضوعية عند الفصل فى الإتهام الجنائى، وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التى تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها. إذ كان ذلك، فإن المشرع إذ أعفى النيابة العامة – بالنص التشريعى المطعون عليه – من التزاماتها بالنسلة إلى واقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائى وتعتبر من عناصره، هى واقعة علم المتهم بتهريب البضائع الأجنبية التى يحوزها بقصد الاتجار فيها، حاجبا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها، وأن تقول كلمتها بشأنها، بعد أن افترض النص المطعون عليه هذا العلم بقرينة تحكمية، ونقل عبء نفيه إلى المتهم، فإن عمله يعد انتحالا لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالا بموجبات الفصل بينها وبين السلطة التشريعية، ومناقضا كذلك لافتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه فى كل وقائعها وعناصرها، ومخالفا بالتالى لنص المادة 67 من الدستور.
18 – إن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه يقترن دائما من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر كذلك – ومن ناحية أخرى – وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع وتتمثل فى حق المتهم فى مواجهة الأدلة التى قدمتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق فى دحضها بأدلة النفى التى يقدمها، وكان نص الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك المطعون عليه – وعن طريق القرينة القانونية التى افترض بها ثبوت القصد الجنائى – قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية بأن جعل المتهم مواجها بواقعة أثبتتها القرينة فى حقه بغير دليل، ومكلفا بنفيها خلافا لأصل البراءة، ومسقطا عملا كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل، وكان هذا النص ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية، ومن الحرية الشخصية، ويناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة وما تشتمل عليه من ضمان الحق فى الدفاع، فإنه بذلك يكون مخالفا لحكام المواد 41، 67، 86، 165 من الدستور.
الإجراءات
بتاريخ 19 مارس 1990 أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك الصادرة بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980 فيما تضمنته من إقامة قرينة قانونية افترضت بها العلم بالتهريب فى حق الحائز للبضائع والسلع الأجنبية بقصد الإتجار إذ لم يقدم المستندات الدالة على سداد الضرائب الجمركية المقررة عليها.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة اصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الإطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن النيابة العامة كانت قد اتهمت المدعى فى القضية رقم 142 لسنة 1986 جنح قسم قنا بأنه فى يوم 3 يناير سنة 1983 بدائرة قسم قنا “حاز بقصد الإتجار بضائع أجنبية مهربة من الرسوم الجمركية مع العلم بذلك”. وطلبت عقابه بالمواد 121 و122 و124و124 مكررا من قانون الجمارك الصادرة بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المعدل بالقانون رقم 75 لسنة 1980، وبتاريخ 8 فبراير سنة 1988 قضت محكمة جنح قسم قنا حضوريا بحبس المدعى سنتين مع الشغل وكفالة عشرين جنيها لإيقاف التنفيذ، وغرامة ألف جنيه والمصادرة والمصاريف الجنائية، والزامه بأن يؤدى للمدعية بالحق المدنى بصفتها (وزارة المالية) تعويضا قدرة 390 مليما و222جنيه، فطعن المدعى فى هذا الحكم بطريق الاستئناف، وقيد استئنافه برقم 1188 لسنة 1988 جنح مستأنفة قنا، وبجلسة 21 ديسمبر سنة 1989 دفع الحاضر عن المدعى بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980، فقررت المحكمة التأجيل لجلسة 19 أبريل سنة 1990 كطلب الحاضر مع المتهم لإقامة الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 121 من قانون الجمارك رقم 66 لسنة 1963 المضافة بالقانون رقم 75 لسنة 1980 والمعدل بالقرار بقانون رقم 187 لسنة 1986 تنص على أن “يعتبر فى حكم التهريب حيازة البضائع الأجنبية بقصد الإتجار مع العلم بأنها مهربة، ويفترض العلم إذا لم يقدم من وجدت فى حيازته هذه البضائع بقصد الإتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت عنها الضرائب الجمركية…..”.
وحيث إن المدعى ينعى على النص المطعون عليه أنه إذ أقام قرينة قانونية افترض بمقتضاها علم الحائز للبضائع الأجنبية بقصد الإتجار فيه بتهريبها، إذا لم يقدم المستندات الدالة على سداد الضرائب الجمركية عليها فإنه يكون قد خالف قرينة البراءة التى تضمنتها المادة 67 من الدستور التى تنص على أن “المتهم برئ حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه”.
وحيث إن الدستور هو القانون الأساسى الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخل أى منها فى أعمال السلطة الأخرى أو مزاحمتها فى ممارسة اختصاصاتها التى ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقا لأحكامه، فنص فى المادة 86 منه على أن “يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع، ويقر السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وذلك كله على الوجه المبين فى الدستور”. كما اختص السلطة القضائية بالفصل فى المنازعات والخصومات على النحو المبين فى الدستور فنص فى المادة 165 منه على أن “السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون”.
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين لا يخول لها التدخل فى أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتا على عملها وإخلالا بمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية.
وحيث إن الدستور كفل فى مادته السابعة والستين الحق فى المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برىء حتى تثبت ادانته فى محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه، هو حق نص عليه الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى مادتيه العاشرة والحادية عشرة التى تقرر أولاهما أن لكل شخص حقا مكتملا ومتكافئا مع غيره فى محاكمة علنية ومنصفة تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة، تتولى الفصل فى حقوقه والتزاماته المدنية، أو فى التهمة الجنائية الموجهة إليه، وتردد ثانيتهما فى فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية فى أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته فى محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة السابقة هى التى تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها، وهى تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها فى الدول الديمقراطية، وتقع فى اطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها فى الدول المتحضرة، وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها وطبيعة القواعد الاجرائية المعمول بها أمامها وكيفية تطبيقها من الناحية العملية، كما أنها تعتبر فى نطاق الاتهام الجنائى وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى قضى الدستور فى المادة 41 منها بأنها من الحقوق الطبيعية التى لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه، ولا يجوز بالتالى تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً، إذ هى ضمان مبدئى لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وهى التى تكفل تمتعه بها فى إطار من الفرص المتكافئة، ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الإتهام الجنائى وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، الا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوما فى الدعوى الجنائية وذلك أياً كانت طبيعة الجريمة وبغض النظر عن درجة خطورتها، وعلة ذلك إن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه فى الحياة، وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد فى الحرية من ناحية، وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى، ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائى معرفا بالتهمة مبينا طبيعتها مفصلا أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل فى هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون، وأن تجرى المحاكمة علانية وخلال مدة معقولة، وأن تستند المحكمة فى قرارها بالإدانة – إذا خلصت إليها – إلى موضوعية التحقيق الذى تجريه، وإلى عرض متجرد الحقائق، وإلى تقدير سائغ للمصلحة المتنازعة، وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التى لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها، ومن ثم كفلها الدستور فى المادة 67 منه وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها وتتدرجان تحت مفهومها، هما افتراض البراءة من ناحية، حق الدفاع لدحض الاتهام الجنائى من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة 69 من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالإصالة أو بالوكالة مكفول.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التى نص عليها فى صلبه الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية، وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة سالفة الذكر عند فصلها فى الاتهام الجنائى وهيمنتها على إجراءاتها تحقيقا لمفاهيم العدالة حتى فى أكثر الجرائم خطورة لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التى كفلها الدستور لكل مواطن – بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه، وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلا ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية فى جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من المحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها، ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هى وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أى جهة أخرى مفهوماً محدداً لدليل بعينه، وأن يكون مرد الأمر دائماً إلى ما استخلصته هى من وقائع الدعوى وحصلته من أوراقها غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة فى مجموعة من القواعد المبدئية التى تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح يتوخى بالأسس التى يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية، ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها فى مجال فرض العقوبة صونا للنظام الاجتماعى بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته، أو أن تكون القواعد التى تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية فى الأصل – إلا أن تطبيقها فى مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهى بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها فى المادة 67 منه مؤكدا بمضمونها ما قررته المادة 11 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على ما سلف بيانه، والمادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أو متهما باعتباره قاعدة أساسية فى النظام الاتهامى أقرتها الشرائع جميعها لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين، وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد أذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة الإجرامية، ذلك أن الإتهام الجنائى فى ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد دوما ولا يزايله سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها وأياً كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها، ولا سبيل بالتالى لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائى استنفد طرق الطعن فيه.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلى ممثلا فى الواقعة مصدر الحق المدعى به، إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة هى التى يعتبر اثباتها إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلا عنها، وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الإنسان عليها، فقد ولد حرا مبرءا من الخطيئة أو المعصية، ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لا زال كامنا فيه، مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء حازم لا رجعة فيه هذا الافتراض على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة منها الجريمة التى نسبتها إليه فى كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها بما فى ذلك القصد الجنائى بنوعيه إذا كان متطلبا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذا هو من الركائز التى يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر فى ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضا أولياً لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن فى مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية تحكمية ينشؤها.
وحيث إن النص التشريعى المطعون فيه بعد أن قرر أن قرر أن حيازة البضائع الأجنبية بقصد الإتجار فيها مع العلم بأنها مهربة يعتبر فى حكم التهريب الجمركى، نص على أن هذا العلم يفترض إذا لم يقدم حائز البضائع الأجنبية بقصد الإتجار المستندات الدالة على سبق الوفاء بالضريبة المستحقة عنها، وبذلك أحل المشرع واقعة عدم تقديم الحائز المذكور لتلك المستندات محل واقعة علمه بتهريب البضائع التى يحوزها بقصد الإتجار فيها، منشئا بذلك قرينة قانونية يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها دليلا على ثبوت واقعة العلم بالتهريب التى كان ينبغى أن تتولى النيابة العامة بنفسها مسئولية إثباتها فى إطار التزامها الأصيل بإقامة الأدلة المؤيدة لقيام كل ركن يتصل ببنيان الجريمة، ويعتبر من عناصرها، بما فى ذلك القصد الجنائى العام ممثلا فى إرادة الفعل مع العلم بالوقائع التى تعطيه دلالته الإجرامية.
وحيث إن القرينة القانونية التى تضمنها النص التشريعى المطعون فيه والسالف بيانها، لا تعتبر من القرائن القاطعة، إذ الأصل فى القرائن القانونية بوجه عام هو جواز إثبات عكسها، ولا تكون القرينة قاطعة إلا بنص خاص يقرر عدم هدمها، وقد التزم القانون الجمركى الأصل العام فى القرائن القانونية بما تضمنته مذكرته الإيضاحية من أن الأثر الذى رتبه هذا القانون على افتراض علم الحائز بحقيقة أن البضائع الأجنبية التى يحوزها للإتجار فيها مهربة، هو أن النيابة العامة أضحت غير مكلفة بإقامة الدليل على هذا العلم، وإن نفيه غدا التزاما قانونيا ألقاه المشرع على عاتق الحائز، مثلما هو الشأن فى القرائن القانونية، ذلك أن المشرع هو الذى تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية وأعفى النيابة العامة بالتالى من تقديم الدليل عليها. إذ كان ذلك، وكان الأصل فى القرائن القانونية قاطعة كانت أو غير قاطعة – هى أنها من عمل المشرع وهو لا يقمها تحكما أو إملاء، وإنما يجب أن تصاغ القرينة وأن يتحدد مضمونها على ضوء ما يقع غالبا فى الحياة العملية، وكانت القرينة القانونية التى تضمنها النص التشريعى المطعون عليه لا تعتبر كذلك، ذلك أنها تتعلق ببضائع أجنبية يجرى التعامل فيها بعد خروجها من الدائرة الجمركية، وهو تعامل لا ينحصر فيمن قام باستيرادها ابتداء، وإنما تتداولها ايد عديدة شراء وبيعا إلى أن تصل إلى حائزها الأخيرة، وفى كل ذلك يتم التعامل فيها بافتراض سبق الوفاء بالضريبة الجمركية المستحقة عنها ترتيبها على تجاوزها الدائرة الجمركية التى ترصد فى محيطها البضائع الواردة وتقدر ضرائبها وتتم اجراءتها باعتبار أن ذلك هو الأصل فيها وأن تهريبها لا يكون إلا بدليل تقدمه الإدارة الجمركية ذاتها وهو ما أكدته الفقرة الثالثة من المادة 5 من القانون الجمركى بما نصت عليه من أن الضريبة الجمركية إنما تستحق بمناسبة ورود البضاعة أو تصديرها وفقا للقوانين والقرارات المنظمة لها، وأنه لا يجوز الإفراج عن أية بضاعة قبل إتمام الإجراءات الجمركية، وأداء الضرائب والرسوم المستحقة عنها ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. ولا زم ما تقدم، أن عدم تقديم حائز البضائع الأجنبية بقصد الإتجار فيها للمستندات الدالة على الوفاء بالضرئب الجمركية المستحقة عليها، لا يفيد بالضرورة علمه بتهريبها، إذ كان ذلك، فإن الواقعة البديلة التى اختارها النص المطعون فيه لا ترشح فى الأعم الأغلب من الأحوال لاعتبار واقعة العلم بالتهريب ثابتة بحكم القانون ولا تربطها بالتالى علاقة منطقية بها. وتغدو القرينة بالتالى غير مرتكزة على أسس موضوعية ومقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومجاوزة من ثم لضوابط المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور فى صلبه.
وحيث إن جريمة التهريب الجمركى من الجرائم العمدية التى يعتبر القصد الجنائى ركنا فيها، وكان الأصل هو أن تتحقق المحكمة بنفسها وعلى ضوء تقديرها للأدلة التى تطرح عليها من علم المتهم بحقيقة الأمر فى شأن كل واقعة تقوم عليها الجريمة وأن يكون هذا العلم يقينيا لا ظنيا أو افتراضيا، وكان الاختصاص المقرر دستوريا للسلطة التشريعية فى مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها لا يخولها التدخل بالقرائن التى تنشئها لغل يد المحكمة عن القيام بمهمتها الأصلية فى مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التى عينها المشرع إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية، وكان النص التشريعى المطعون فيه قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر، دالا بطريق غير مباشر على العلم بالواقعة الإجرامية مقحما بذلك وجهة النظر التى ارتآها فى مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع لاتصالها بالتحقيق الذى تجربه بنفسها تقصيا للحقيقة الموضوعية عند الفصل فى الاتهام الجنائى، وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التى تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها، إذ كان ذلك، فإن المشرع إذ أعفى النيابة العامة – بالنص التشريعى المطعون عليه – من التزاماتها بالنسبة إلى واقعة بذاتها تتصل بالقصد الجنائى وتعتبر من عناصره، هى واقعة علم المتهم بتهريب البضائع الأجنبية التى يحوزها بقصد الاتجار فيها، حاجبا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها، وأن تقول كلمتها بشأنها، بعد أن افترض النص المطعون عليه هذا العلم بقرينة تحكمية، ونقل عبء نفيه إلى المتهم، فإن عمله يعد انتحالا لإختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالا بموجبات الفصل بينها وبين السلطة التشريعية، ومناقضا كذلك لافتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه فى كل وقائعها وعناصرها، ومخالفا بالتالى لنص المادة 67 من الدستور.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه يقترن دائما من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر كذلك – ومن ناحية أخرى – وثيقة الصلة بالحق فى الدفاع وتتمثل فى حق المتهم فى مواجهة الادلة التى قدمتها النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق فى دحضها بأدلة النفى التى يقدمها، وكان النص التشريعى المطعون عليه – وعن طريق القرينة القانونية التى افترض بها ثبوت القصد الجنائى – قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية بأن جعل المتهم مواجها بواقعة أثبتتها القرينة فى حقه بغير دليل، ومكلفا بنفيها خلافا لأصل البراءة، ومسقطا عملا كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل، وكان هذا النص – وعلى ضوء ما تقدم جميعه – ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية، ومن الحرية الشخصية ويناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة وما تشتمل عليه من ضمان الحق فى الدفاع، فإنه بذلك يكون مخالفا لأحكام المواد 41 و67 و69 و86 و165 من الدستور.
فلهذه الأسباب:
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963 وذلك فيما تضمنته فقرتها الثانية من افتراض العلم بالتهريب إذا لم يقدم من وجدت فى حيازته البضائع بقصد الإتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت عنها الضرائب الجمركية المقررة، مع الزام الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
صدر هذا الحكم من الهيئة المبينة بصدره، أما السيد المستشار سامى فرج يوسف الذى سمع المرافعة وحضر المداولة ووقع مسوده الحكم فقد جلس بدلة عنه عند تلاوته السيد المستشار الدكتور عبد المجيد فياض.
أصدرت المحكمة بجلسة 7 مارس سنة 1992 حكمين مماثلين فى الدعويين رقمى 20 لسنة 10 قضائية دستورية، 14 لسنة 12 قضائية دستورية.