جلسة 5 أكتوبر 1996
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر -رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم (8)
القضية رقم 26 لسنة 12 قضائية “دستورية”
1- قانون الإجراءات الجنائية “المادة 208 مكرراً: قيودها”
البين من هذه المادة أن القيود التي فرضها المشرع على أموال بعض المتهمين سواء في مجال إدارتهم لها أو تصرفهم فيها مخولة للنائب العام وحده، جواز امتداد هذه القيود من المتهمين إلى أموال زوجاتهم وأولادهم القصر ما لم يقم الدليل على أيلولتها إليهم من غير مال المتهم.
2 – دستور “مبدأ المساواة: مفهومه ونطاقه”.
حرص الدستور على النص على مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون – اتصال المساواة بضمان الحقوق والحريات جميعها، سواء في ذلك تلك التي نص عليها الدستور، أو التي كفلها المشرع – مبدأ المساواة ليس مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية – لا تمايز بين المواطنين إملاء أو عسفاً من جانب الدولة – من الجائز أن تغاير السلطة التشريعية – وفقاً لمقاييس منطقية – بين مراكز تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها – ما يصون مبدأ المساواة هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها بالأغراض المشروعة التي يتوخاها.
3 – أصل البراءة “افتراضه: نقضه”.
أصل البراءة مفترض في كل متهم – عدم نقض هذا الأصل إلا بحكم انقطع الطريق إلى الطعن فيه، فصار باتاً.
4 – أصل البراءة “اتصاله”.
اتصال أصل البراءة بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، كافلاً حماية الفرد سواء في المراحل السابقة على محاكمته جنائياً أو أثناءها وعلى امتداد حلقاتها.
5 – تشريع “المادة 208 مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية: إخلال بمبدأ المساواة”.
احتواء هذا النص على قيود لا سند لها من النصوص الدستورية ذاتها – ممايزته بذلك بين المعاملين به وغيرهم من المواطنين، بل وغيرهم من المتهمين المنسوب إليهم جرائم أخرى غير المحددة فيه – هؤلاء جميعاً يضمهم مركز قانوني واحد هو افتراض كونهم أسوياء لا ينقض الاتهام أصل براءتهم – الدلائل التي جعل منها النص المشار إليه مناطاً لفرض القيود التي تضمنها لا تلتبس بقوة الأمر المقضي – التمييز بين المعاملين به وبين غيرهم مخالف لحكم المادة 40 من الدستور.
6 – دستور “ملكية خاصة: حمايتها – قيود عليها”.
كفل الدستور حماية الملكية الخاصة لكل فرد وطنياً كان أم أجنبياً – عدم جواز نيل المشرع من عناصرها أو يقيد من مباشرة الحقوق المتفرعة عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية.
7 – ملكية خاصة “وظيفتها الاجتماعية”.
من السائغ تحميل الملكية الخاصة بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية والتي تمليها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التي ينبغي رصدها عليها محددة على ضوء واقع اجتماعي معين، في بيئة بذاتها.
8 – ملكية خاصة “توازن المصالح”.
لحق الملكية إطار محدد تتوازن فيه المصالح ولا تتنافر.
9 – تشريع “المادة 208 مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية – حراسة: عدوان على الملكية”.
القيود التي فرضتها هذه المادة على أموال المخاطبين بأحكامها إنما تنال من ملكيتهم، وتقوض أهم خصائصها، لتكون – في مضمونها وأثرها – صورة من صور الحراسة يفرضها المشرع عليها بعيداً عن صدور حكم قضائي بها.
1 – القيود التي فرضها نص المادة 208 مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية على أموال بعض المتهمين، سواء في مجال إدارتهم لها أو تصرفهم فيها، مخولة للنائب العام وحده، إذ هو الذي يأمر بفرضها ضماناً لتحقيق أغراض بذواتها حددها هذا النص حصراً، ولا يصدر النائب العام هذا الأمر، إلا بناءً على تحقيق تقوم بمقتضاه دلائل كافية على جدية الاتهام في الجرائم التي عينها المشرع دون غيرها، بل إن هذه القيود، يجوز أن تمتد من المتهمين إلى أموال زوجاتهم وأولادهم القصر، ما لم يقم الدليل على أيلولتها إليهم من غير مال المتهم.
2 – من المقرر – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن الدساتير المصرية جميعها ترد المواطنين جميعاً إلى قاعدة واحدة، تقيم مساواتهم أمام القانون، باعتبارها مناطاً للعدل، وجوهر الحرية، مفترضاً للسلام الاجتماعي، وعلى تقدير أن الأغراض التي تتوخاها، تتمثل أصلاً في صون حقوق المواطنين وحرياتهم، في مواجهة صور التمييز التي تنال منها هدماً لمحتواها أو تقييداً لممارستها. وغدا أمر هذه المساواة متصلاً بضمان الحقوق والحريات جميعها، سواء في ذلك تلك التي نص عليها الدستور، أو التي كفلتها النظم المعمول بها، ضماناً لمصالح لها اعتبارها.
ولئن نص الدستور في مادته الأربعين، على حظر التمييز بين المواطنين في أحوال بذواتها، هي تلك التي يكون التمييز فيها قائماً على أساس من الأصل أو الجنس أو اللغة أو الدين أو العقيدة، إلا أن إيراد الدستور لصور بذاتها يكون التمييز محظوراً فيها، يبلور شيوعها عملاً، ولا يشي البتة باستناده إليها دون غيرها، وإلا جاز التمييز بين المواطنين فيما عداها مما لا يقل عنها خطراً، كتفضيل بعضهم على بعض بناء على مولدهم، أو على قدر ثرواتهم، أو لعصبيتهم القبلية، أو مراكزهم الاجتماعية، أو على أساس من ميولهم وآرائهم، أو لغير ذلك من صور التمييز التي تفتقر في بنيانها إلى أسس موضوعية تسوغها. ولا يتصور بالتالي أن يكون الدستور قد قصد إلى حمايتها، ولا أن تقرها السلطة التشريعية في مجال تنظيمها للحقوق والحريات على اختلافها، إذ هي تعارضها، ولا تقيمها على ضوء من الحق والعدل.
ولا تتمحض المساواة مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء iron rule تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للدولة أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد أو توقياً لشر تقدر ضرورة رده؛ وكان دفعها الضرر الأكبر بالضرر الأقل لازما؛ إلا أن تطبيقها مبدأ المساواة لا يجوز أن يكون كاشفاً عن نزواتها، ولا منبئاً عن اعتناقها لأوضاع جائرة تثير ضغائن أو أحقاد تنفلت بها ضوابط سلوكها، ولا هشيماً معبراً عن بأس سلطانها، بل يتعين أن يكون موقفها اعتدالاً في مجال تعاملها مع المواطنين، فلا تمايز بينهم إملاءً أو عسفاً. ومن الجائز بالتالي، أن تغاير السلطة التشريعية – ووفقاً لمقاييس منطقية – بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، على أن تكون الفوارق بينها حقيقية لا اصطناع فيها ولا تخيل real and not feigned differencies، ذلك أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها. فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، كان التمييز انفلاتاً لا تبصر فيه. كذلك الأمر إذا كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، إذ يعتبر التمييز عندئذ مستنداً إلى وقائع يتعذر أن يُحْمَل عليها، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
3 – إن أصل البراءة مفترض في كل متهم، فقد ولد الإنسان حراً، مطهراً من الخطيئة ودنس المعصية، لم تنزلق قدماه إلى شر، ولم تتصل يده بجور أو بهتان. ويفترض وقد كان سوياً حين ولد حياً، أنه ظل كذلك متجنباً الآثام على تباينها، نائياً عن الرذائل على اختلافها، ملتزماً طريقاً مستقيماً لا يتبدل اعوجاجاً. وهو افتراض لا يجوز أن يهدم توهماً، بل يتعين أن ينقض بدليل مستنبط من عيون الأوراق وبموازين الحق، وعن بصر وبصيرة. ولا يكون ذلك كذلك إلا إذا أدين بحكم انقطع الطريق إلى الطعن فيه، فصار باتاً.
4 – أصل البراءة يتصل بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، ولا شأن له بطبيعة أو خطورة الجريمة موضوعها، ولا بنوع أو قدر عقوبتها؛ وكان هذا الأصل كامناً في كل فرد، كافلاً حمايته سواء في المراحل المؤثرة السابقة على محاكمته جنائياً، أو أثناءها، وعلى امتداد حلقاتها.
5 – النص المطعون فيه أجاز فرض قيود على أموال الأشخاص – الذين توافرت من خلال التحقيق معهم دلائل كافية على تورطهم في إحدى الجرائم التي عينها – تحول دون إدارتهم لها أو تصرفهم فيها – وهي قيود لا سند لها من النصوص الدستورية ذاتها – ممايزاً بذلك بين هؤلاء وغيرهم من المواطنين، بل بينهم وبين غيرهم من المتهمين المدعي ارتكابهم جرائم أخرى غير التي حددها هذا النص؛ وكان هؤلاء يضمهم جميعاً مركز قانوني واحد، هو افتراض كونهم أسوياء، لا ينقض الاتهام – عند وجوده، ولا مجرد التحقيق من باب أولى – أصل براءتهم، ولا يفرق بينهم في الحقوق التي يتمتعون بها؛ ذلك أن صور التمييز التي تخل بمساواتهم أمام القانون – وإن تعذر حصرها – إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو استبعاد أو تفضيل، يجاوز الحدود المنطقية لتنظيم الحقوق والحريات التي كفلها الدستور والقانون، سواء بإنكار أصل وجودها أو من خلال تقييد آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانوناً للانتفاع بها.
إن مناط فرض القيود التي تضمنها النص المطعون فيه، لا يرتبط حتى بصدور اتهام محدد في شأن شخص بعينه، بل مبناها قيام دلائل كافية من التحقيق على رجحان اتهامه بإحدى الجرائم التي حددها، وكانت هذه الدلائل لا تلتبس بقوة الأمر المقضي، ولا تعتبر بالتالي حكماً لا رجوع فيه يدينهم عنها، فإن التمييز بينهم وبين غيرهم – وعلى غير سند من الدستور – وأصل البراءة يجمعهم – يكون منافياً حكم العقل Unreasonable ظاهر التحكم Palpably arbitrary، ومخالفاً بالتالي لحكم المادة 40 من الدستور.
6، 7، 8، إن الدستور – إعلاء من جهته الدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي – كفل حمايتها لكل فرد – وطنياً كان أم أجنبياً – ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة – في الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها، بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتوصل على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها، مُعبداً بها الطريق إلى التقدم، كافلاً للتنمية أهم أدواتها، محققاً من خلالها إرادة الإقدام، هاجعاً إليها لتوفر ظروفاً أفضل لحرية الاختيار والتقرير، مطمئناً في كنفها إلي يومه وغده، مهيمناً عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها، فلا يرده عنها معتد، ولا يناجز سلطته في شأنها خصيم ليس بيده سند ناقل لها، ليعتصم بها من دون الآخرين، وليلتمس من الدستور وسائل حمايتها التي تُعينها على أداء دورها، وتقيها تعرض الأغيار لها سواء بنقصها أو بانتقاصها من أطرافها. ولم يعد جائزاً بالتالي أن ينال المشرع من عناصرها، ولا أن يُغير من طبيعتها أو يجردها من لوازمها، ولا أن يفصلها عن أجزائها أو يدمر أصلها، أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. ودون ذلك تفقد الملكية ضمانتها الجوهرية، ويكون العدوان عليها غصباً، وافتئاتاً على كيانها أدخل إلى مصادرتها.
ومن المقرر كذلك، أن حق الملكية من الحقوق التي يجوز التعامل فيها، وبقدر اتساع قاعدتها تتعدد روافدها، وتتنوع استخداماتها، لتشكل نهراً يتدفق بمصادر الثروة القومية التي لا يجوز إهدارها أو التفريط فيها أو بعثرتها تبديداً لقيمتها، ولا تنظيمها بما يخل بالتوازن بين نطاق حقوق الملكية المقررة عليها، وضرورة تقييدها نأياً بها عن الانتهاز أو الإضرار بحقوق الآخرين. ذلك أن الملكية في إطار النظم الوضعية التي تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة – لم تعد حقاً مطلقاً، ولا هي عصية على التنظيم التشريعي، وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها. ومن ثم تساغ تحميلها بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية، وهي وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ، ولا تفرض نفسها تحكماً، بل تميلها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التي ينبغي رصدها عليها، محددة على ضوء واقع اجتماعي معين، في بيئة بذاتها، لها مقوماتها وتوجهاتها ومقوماتها. وفي إطار هذه الدائرة، وتقيداً بتخومها، يفاضل المشرع بين البدائل، ويرجع على ضوء الموازنة التي يجريها، ما يراه من المصالح أجدر بالحماية وأولى بالرعاية وفقاً لأحكام الدستور، مستهدياً في ذلك بوجه خاص بالقيم التي تنحاز إليها الجماعة في مرحلة بذاتها من مراحل تطورها. وبمراعاة أن القيود التي يفرضها الدستور على حق الملكية للحد من إطلاقها، لا تعتبر مقصودة لذاتها، بل غايتها خير الفرد والجماعة.
وينبغي من ثم، أن يكون لحق الملكية إطار محدد، تتوازن فيه المصالح ولا تتنافر، ذلك أن الملكية خلافة، وهي باعتبارها كذلك تضبطها وظيفتها الاجتماعية التي تعكس بالقيود التي تفرضها على الملكية، الحدود المشروعة لممارسة سلطاتها، وهي حدود يجب التزامها، لأن العدوان عليها، يخرج الملكية عن دائرة الحماية التي كفلها الدستور لها.
9 – إن القيود التي فرضها النص المطعون فيها على أموال المخاطبين بأحكامه، ليس مدخلها الاتفاق، بل مصدرها نص القانون. وهي بعد لا تقتصر على حرمانهم من إدارة أموالهم، بل تتعداها إلى منعهم من التعامل فيها، وتمتد منهم إلى أولادهم القصر وزوجاتهم بالشروط التي بينها. وفي كل ذلك تنال هذه القيود من ملكيتهم، وتقوض أهم خصائصها لتكون – في مضمونها وأثرها – صورة من صور الحراسة يفرضها المشرع عليها – بعيداً عن صدور حكم قضائي بها – بالمخالفة لنص المادة 34 من الدستور التي تقضي بأن الملكية الخاصة مصونة، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا بحكم قضائي. ذلك إن ما توخاه الدستور بنص المادة 34، هو أن تكون الملكية لأصحابها يباشرون عليها كل الحقوق المتفرعة عنها، لتظل أيديهم متصلة بها، لا تغل عنها، ولا تُرَد عن حفظها وإدارتها، بل يحيط ذووها بها، وبأشكال من التعامل يقدرون ملاءمة الدخول فيها. وإذا جاز استثناء أن تفرض قيود على الأموال موضوعها، فلا يكون ذلك إلا بنص خاص، وعند الضرورة، وفي أحوال بذواتها، من بينها أن يكون فرض هذه القيود في شأن بعض الأموال، متصلاً بوظيفتها الاجتماعية، أو لقيام مخاطر في شأنها تختلف فيما بينها في درجتها وحدتها. ومن ثم كان تقييمها عملاً قضائياً، وكان دفعها كذلك لازماً. وعلى الأخص من خلال تعيين محكمة الموضوع لأمين عليها يتولى حفظها وإدارتها صوناً وإنماءً لها.
ويتعين بالتالي أن تتناول الحراسة – ومن خلال الخصومة القضائية وإجراءاتها – أشياء يتهددها خطر عاجل توقياً لضياعها أو تلفها أو تبديد ريعها، لتكون وديعة عند الأمين عليها يبذل في شأن رعايتها العناية التي يبذلها الشخص المعتاد، ثم يردها – مع غلتها المقبوضة – إلى ذويها بعد استيفاء الحراسة لأغراضها. بما مؤاده أن الحراسة – بالنظر إلى طبيعتها ومداها – لا تعدو أن تكون إجراءً تحفظياً لا تنفيذياً، وأن الخطر العاجل الذي يقتضيها يعتبر شرطاً موضوعياً متطلباً لفرضها، وأن صفتها الوقتية تحول دون استمرارها بعد زوال مبرراتها، وأن الحكم بها لا يمس أصل الحقوق المتنازع عليها، ولا يعتبر قضاء بإثباتها أو نفيها، وأن توقيعها يخول الحارس انتزاع الأموال محلها من حائزها وتسليمها مع توابعها – ولو لم ينص الحكم عليها – ليباشر في شأنها – لا مجرد الأعمال التحفظية – بل كل الأعمال التي تلائم طبيعتها وظروفها، وتقتضيها المحافظة عليها وإدارتها بما في ذلك رد المخاطر عنها وتوقيها قبل وقوعها.
والحراسة – على ضوء مقاصد الدستور، وبمراعاة ما تقدم – تعتبر تسلطاً على الأموال المشمولة بها في مجال صونها وإدارتها فلا يكفي لفرضها مجرد أمر على عريضة يصدر في غيبة الخصوم، بل يكون توقيعها فصلاً في خصومة قضائية تقام وفقاً لإجراءاتها المعتادة، وتباشر علانية في مواجهة الخصوم جميعهم، وعلى ضوء ضماناتها القانونية التي تتكافأ معها مراكزهم وأسلحتهم، لتكون خاتمتها – إذا توافر الدليل على قيام الخطر العاجل في شأن أموال بذاتها – تعيين حارس قضائي عليها، يكون نائباً عن أصحابها، يباشر سلطته عليها في الحدود التي يبينها الحكم الصادر بفرضها، فلا يجاوزها أياً كان نطاقها، وهو ما يعني أن تدخل القاضي لا يكون إلا لضرورة، وبقدرها، وأن فرض قيود على بعض الأموال عن طريق حراستها، لا يكون من خلال الخصومة القضائية فصلاً في جوانبها، وإلا كان تحميل المال بها – في غيبتها – عملاً مخالفاً لنص المادة 34 من الدستور.
الإجراءات
بتاريخ 29 من أبريل سنة 1990، أودع المدعيان صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالبين الحكم بعدم دستورية نص المادة 208 مكرراً ( أ ) من قانون الإجراءات الجنائية.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
وحيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن هيئة الرقابة الإدارية، كانت قد أبلغت النيابة العامة ما ورد إليها من معلومات على قيام المدعي الأول – إبان شغله لمناصبه السابقة وهي: وزير القوى العاملة؛ رئيس الاتحاد العام لعمال نقابات مصر؛ رئيس النقابة العامة للصناعات الغذائية؛ رئيس مجلس إدارة المؤسسة النقابية العمالية – بالتواطؤ مع بعض معاونيه بتلك الجهات، بإسناد مشروعات باهظة التكاليف إلى مكاتب وشركات غير متخصصة، تربطه بأصحابها والمسئولين عنها صلة القربى أو الصداقة الوطيدة، وذلك بالأمر المباشر أو في مناقصة صورية أو بأسعار مغالى فيها، مقابل حصوله منهم على منافع مالية، مما أضر بالمال العام. وإذ أصدر النائب العام – وأثناء تحقيق النيابة العامة مع المدعي الأول فيما هو منسوب إليه من اتهامات – الأمر رقم 4 لسنة 1988 بتاريخ 7 يونيو سنة 1988 – إعمالا للمادة 208 مكرراً ( أ ) من قانون الإجراءات الجنائية – بمنع كل من سعد محمد أحمد، ووجدي محمد أحمد من التصرف في أموالهما العقارية والمنقولة وإدارتها، وسريان هذا المنع على الأموال العقارية والمنقولة التي تمتلكها زوجتاهما وأولادهما القصر – عدا الراتب أو المعاش الحكومي – وتكليف إدارة أمناء الاستثمار بالبنك الأهلي بإدارة هذه الأموال، فقد تظلم المدعيان من هذا الأمر أمام محكمة جنوب القاهرة الابتدائية – دائرة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة – وطلبا الحكم بإلغائه. وأثناء نظر تظلمهما، دفعا بعدم دستورية نص المادة 208 مكرراً ( أ ) من قانون الإجراءات الجنائية. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع بعدم الدستورية، فقد صرحت لهما بإقامة دعواهما الدستورية، فأقاما الدعوى الماثلة.
وحيث إن المدعيين ينعيان على نص الفقرة الأولى من المادة 208 مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية، إخلالها بأحكام المواد 2، 24، 67 من الدستور، تأسيساً على أن ما قرره النص المطعون فيه من جواز منع زوجة المتهم من التصرف في أموالها أو إدارتها، إنما يناقض ما كفلته الشريعة الإسلامية للزوجة من ذمة مالية تستقل بها عن زوجها. كذلك فإن الأصل في الملكية الخاصة، هو صونها من العدوان. فإذا منع المتهم من التصرف في أمواله أو إدارتها بأمر من النائب العام، كان ذلك بمثابة فرض الحراسة عليها بغير حكم قضائي. وقد أهدر النص المطعون فيه – فوق هذا – أصل البراءة المفترض في كل متهم، إذ لم يتطلب سوى وجود دلائل كافية على جدية الاتهام، لإعمال مقتضاه.
وحيث إن المادة 208 مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية تنص على أن:
فقرة أولى: “يجوز للنائب العام إذا قامت من التحقيق دلائل كافية على جدية الاتهام في الجرائم المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات وغيرها من الجرائم التي تقع على الأموال المملوكة للحكومة أو الهيئات والمؤسسات العامة والوحدات التابعة لهما من الأشخاص الاعتبارية العامة، أن يأمر ضماناً لتنفيذ ما عسى أن يقضي به من الغرامة أو رد المبالغ أو قيمة الأشياء محل الجريمة أو تعويض الجهة المجني عليها، بمنع المتهم من التصرف في أمواله أو إدارتها أو غير ذلك من الإجراءات التحفظية.
فقرة ثانية: كما يجوز له أن يأمر بتلك الإجراءات بالنسبة لأموال زوج المتهم وأولاده القصر ضماناً لما عسى أن يقضى به من رد المبالغ أو قيمة الأشياء محل الجريمة أو تعويض الجهة المجني عليها ما لم يثبت أن هذه الأموال إنما آلت إليهم من غير مال المتهم.
فقرة ثالثة: ويجب على النائب العام عند الأمر بالمنع من الإدارة، أن يعين لإدارة الأموال وكيلاً، يصدر ببيان قواعد اختياره، وتحديد واجباته قرار من وزير العدل”.
وحيث إن البين مما تقدم، أن القيود التي فرضها النص المطعون فيه على أموال بعض المتهمين، سواء في مجال إدارتهم لها أو تصرفهم فيها، مخولة للنائب العام وحده، إذ هو الذي يأمر بفرضها ضماناً لتحقيق أغراض بذواتها حددها هذا النص حصراً. ولا يصدر النائب العام هذا الأمر، إلا بناءً على تحقيق تقوم بمقتضاه دلائل كافية على جدية الاتهام في الجرائم التي عينها المشرع دون غيرها. بل إن القيود، يجوز أن تمتد من المتهمين إلى أموال زوجاتهم وأولادهم القصر، ما لم يقم الدليل على أيلولتها إليهم من غير مال المتهم.
وحيث إن من المقرر – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن الدساتير المصرية جميعها ترد المواطنين جميعاً إلى قاعدة واحدة، تقيم مساواتهم أمام القانون، باعتبارها مناطاً للعدل، وجوهر الحرية، ومفترضاً للسلام الاجتماعي، وعلى تقدير أن الأغراض التي تتوخاها، تتمثل أصلاً في صون حقوق المواطنين وحرياتهم، في مواجهة صور التمييز التي تنال منها هدماً لمحتواها أو تقييداً لممارستها. وغدا أمر هذه المساواة متصلاً بضمان الحقوق والحريات جميعها، سواء في ذلك تلك التي نص عليها الدستور، أو التي كفلتها النظم المعمول بها، ضماناً لمصالح لها اعتبارها.
وحيث إن الدستور وإن نص في مادته الأربعين، على حظر التمييز بين المواطنين في أحوال بذواتها، هي تلك التي يكون التمييز فيها قائماً على أساس من الأصل أو الجنس أو اللغة أو الدين أو العقيدة، إلا أن إيراد الدستور لصور بذاتها يكون التمييز محظوراً فيها، يبلور شيوعها عملاً، ولا يشي البتة باستناده إليها دون غيرها، وإلا جاز التمييز بين المواطنين فيما عداها مما لا يقل عنها خطراً، كتفضيل بعضهم على بعض بناءً على مولدهم، أو على قدر ثرواتهم أو لعصبيتهم القبلية، أو مراكزهم الاجتماعية، أو على أساس من ميولهم وآرائهم، أو لغير ذلك من صور التمييز التي تفتقر في بنيانها إلى أسس موضوعية تسوغها. ولا يتصور بالتالي أن يكون الدستور قد قصد إلى حمايتها، ولا أن تقرها السلطة التشريعية في مجال تنظيمها للحقوق والحريات على اختلافها، إذ هي تعارضها، ولا تقيمها على ضوء من الحق والعدل.
وحيث إن مبدأ المساواة، ليس مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء iron rule تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للدولة أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد أو توقياً لشر تقدر ضرورة رده؛ وكان دفعها الضرر الأكبر بالضرر الأقل لازما؛ إلا أن تطبيقها مبدأ المساواة لا يجوز أن يكون كاشفاً عن نزواتها، ولا منبئاً عن اعتناقها لأوضاع جائرة تثير ضغائن أو أحقاد تنفلت بها ضوابط سلوكها، ولا هشيماً معبراً عن بأس سلطانها، بل يتعين أن يكون موقفها اعتدالاً في مجال تعاملها مع المواطنين، فلا تمايز بينهم إملاءً أو عسفاً. ومن الجائز بالتالي، أن تغاير السلطة التشريعية – ووفقاً لمقاييس منطقية – بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، على أن تكون الفوارق بينها حقيقية لا اصطناع فيها ولا تخيل real and not feigned differencies، ذلك أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها. فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، كان التمييز انفلاتاً لا تبصر فيه. كذلك الأمر إذا كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، إذ يعتبر التمييز عندئذ مستنداً إلى وقائع يتعذر أن يُحْمَل عليها، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
وحيث إن أصل البراءة مفترض في كل متهم، فقد ولد الإنسان حراً، مطهراً من الخطيئة ودنس المعصية، لم تنزلق قدماه إلى شر، ولم تتصل يده بجور أو بهتان. ويفترض وقد كان سوياً حين ولد حياً، أنه ظل كذلك متجنباً الآثام على تباينها، نائياً عن الرذائل على اختلافها، ملتزماً طريقاً مستقيماً لا يتبدل اعوجاجاً. وهو افتراض لا يجوز أن يهدم توهماً، بل يتعين أن ينقض بدليل مستنبط من عيون الأوراق وبموازين الحق، وعن بصر وبصيرة. ولا يكون ذلك كذلك إلا إذا أدين بحكم انقطع الطريق إلى الطعن فيه، فصار باتاً.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان أصل البراءة يتصل بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، ولا شأن له بطبيعة أو خطورة الجريمة موضوعها، ولا بنوع أو قدر عقوبتها؛ وكان هذا الأصل كامناً في كل فرد، كافلاً حمايته سواء في المراحل المؤثرة السابقة على محاكمته جنائياً، أو أثناءها، وعلى امتداد حلقاتها؛ وكان النص المطعون فيه قد أجاز فرض قيود على أموال الأشخاص – الذين توافرت من خلال التحقيق معهم دلائل كافية على تورطهم في إحدى الجرائم التي عينها – تحول دون إدارتهم لها أو تصرفهم فيها – وهي قيود لا سند لها من النصوص الدستورية ذاتها – ممايزاً بذلك بين هؤلاء وغيرهم من المواطنين، بل بينهم وبين غيرهم من المتهمين المدعي ارتكابهم جرائم أخرى غير التي حددها هذا النص؛ وكان هؤلاء وهؤلاء يضمهم جميعاً مركز قانوني واحد، هو افتراض كونهم أسوياء، لا ينقض الاتهام – عند وجوده، ولا مجرد التحقيق من باب أولى – أصل براءتهم، ولا يفرق بينهم في الحقوق التي يتمتعون بها. ذلك أن صور التمييز التي تخل بمساواتهم أمام القانون – وإن تعذر حصرها – إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو استبعاد أو تفضيل، يجاوز الحدود المنطقية لتنظيم الحقوق والحريات التي كفلها الدستور والقانون، سواء بإنكار أصل وجودها أو من خلال تقييد آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين قانوناً للانتفاع بها.
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان مناط فرض القيود التي تضمنها النص المطعون فيه، لا يرتبط حتى بصدور اتهام محدد في شأن شخص بعينه، بل مبناها قيام دلائل كافية من التحقيق على رجحان اتهامه بإحدى الجرائم التي حددها، وكانت هذه الدلائل لا تلتبس بقوة الأمر المقضي، ولا تأخذ مجراه في شأن هؤلاء المتهمين، ولا تعتبر بالتالي حكماً لا رجوع فيه يدينهم عنها، فإن التمييز بينهم وبين غيرهم – وعلى غير سند من الدستور – وأصل البراءة يجمعهم – يكون منافياً حكم العقل Unreasonable ظاهر التحكم Palpably arbitrary، ومخالفاً بالتالي لحكم المادة 40 من الدستور.
وحيث إن الدستور – إعلاءً من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي – كفل حمايتها لكل فرد – وطنياً كان أم أجنبياً – ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة – في الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها، بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتوصل على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها، مُعبداً بها الطريق إلى التقدم، كافلاً للتنمية أهم أدواتها، محققاً من خلالها إرادة الإقدام، هاجعاً إليها لتوفر ظروفاً أفضل لحرية الاختيار والتقرير، مطمئناً في كنفها إلي يومه وغده، مهيمناً عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها، فلا يرده عنها معتد، ولا يناجز سلطته في شأنها خصيم ليس بيده سند ناقل لها، ليعتصم بها من دون الآخرين، وليلتمس من الدستور وسائل حمايتها التي تُعينها على أداء دورها، وتقيها تعرض الأغيار لها سواء بنقصها أو بانتقاصها من أطرافها. ولم يعد جائزاً بالتالي أن ينال المشرع من عناصرها، ولا أن يُغير من طبيعتها أو يجردها من لوازمها، ولا أن يفصلها عن أجزائها أو يدمر أصلها، أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. ودون ذلك تفقد الملكية ضمانتها الجوهرية، ويكون العدوان عليها غصباً، وافتئاتاً على كيانها أدخل إلى مصادرتها.
وحيث إنه من المقرر كذلك، أن حق الملكية من الحقوق التي يجوز التعامل فيها، وبقدر اتساع قاعدتها تتعدد روافدها، وتتنوع استخداماتها، لتشكل نهراً يتدفق بمصادر الثروة القومية التي لا يجوز إهدارها أو التفريط فيها أو بعثرتها تبديداً لقيمتها، ولا تنظيمها بما يخل بالتوازن بين نطاق حقوق الملكية المقررة عليها، وضرورة تقييدها نأياً بها عن الانتهاز أو الإضرار بحقوق الآخرين. ذلك أن الملكية في إطار النظم الوضعية التي تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة – لم تعد حقاً مطلقاً، ولا هي عصية على التنظيم التشريعي، وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها. ومن ثم ساغ تحميلها بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية، وهي وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ، ولا تفرض نفسها تحكماً، بل تمليها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التي ينبغي رصدها عليها، محددة على ضوء واقع اجتماعي معين، في بيئة بذاتها، لها مقوماتها وتوجهاتها ومقوماتها. وفي إطار هذه الدائرة، وتقيداً بتخومها، يفاضل المشرع بين البدائل، ويرجع على ضوء الموازنة التي يجريها، ما يراه من المصالح أجدر بالحماية وأولى بالرعاية وفقاً لأحكام الدستور، مستهدياً في ذلك بوجه خاص بالقيم التي تنحاز إليها الجماعة في مرحلة بذاتها من مراحل تطورها. وبمراعاة أن القيود التي يفرضها الدستور على حق الملكية للحد من إطلاقها، لا تعتبر مقصودة لذاتها، بل غايتها خير الفرد والجماعة.
وينبغي من ثم، أن يكون لحق الملكية إطار محدد، تتوازن فيه المصالح ولا تتنافر، ذلك أن الملكية خلافة، وهي باعتبارها كذلك تضبطها وظيفتها الاجتماعية التي تعكس بالقيود التي تفرضها على الملكية، الحدود المشروعة لممارسة سلطاتها، وهي حدود يجب التزامها، لأن العدوان عليها، يخرج الملكية عن دائرة الحماية التي كفلها الدستور لها.
وحيث إن القيود التي فرضها النص المطعون فيه على أموال المخاطبين بأحكامه، ليس مدخلها الاتفاق، بل مصدرها نص القانون. وهي بعد لا تقتصر على حرمانهم من إدارة أموالهم، بل تتعداها إلى منعهم من التعامل فيها، وتمتد منهم إلى أولادهم القصر وزوجاتهم بالشروط التي بينها. وفي ذلك تنال هذه القيود من ملكيتهم، وتقوض أهم خصائصها لتكون – في مضمونها وأثرها – صورة من صور الحراسة يفرضها المشرع عليها – بعيداً عن صدور حكم قضائي بها – بالمخالفة لنص المادة 34 من الدستور التي تقضي بأن الملكية الخاصة مصونة، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا بحكم قضائي. ذلك إن ما توخاه الدستور بنص المادة 34، هو أن تكون الملكية لأصحابها يباشرون عليها كل الحقوق المتفرعة عنها، لتظل أيديهم متصلة بها، لا تغل عنها، ولا تُرَد عن حفظها وإدارتها، بل يحيط أصحابها بها، وبأشكال من التعامل يقدرون ملاءمة الدخول فيها. وإذا جاز استثناء أن تفرض قيود على الأموال موضوعها، فلا يكون ذلك إلا بنص خاص، وعند الضرورة، وفي أحوال بذواتها، من بينها أن يكون فرض هذه القيود في شأن بعض الأموال، متصلاً بوظيفتها الاجتماعية، أو لقيام مخاطر في شأنها تختلف فيما بينها في درجتها وحدتها. ومن ثم كان تقييمها عملاً قضائياً، وكان دفعها كذلك لازماً. وعلى الأخص من خلال تعيين محكمة الموضوع لأمين عليها يتولى حفظها وإدارتها صوناً وإنماءً لها.
ويتعين بالتالي أن تتناول الحارسة – ومن خلال الخصومة القضائية وإجراءاتها – أشياء يتهددها خطر عاجل توقياً لضياعها أو تلفها أو تبديد ريعها، لتكون وديعة عند الأمين عليها يبذل في شأن رعايتها العناية التي يبذلها الشخص المعتاد، ثم يردها – مع غلتها المقبوضة – إلى ذويها بعد استيفاء الحراسة لأغراضها. بما مؤاده أن الحراسة – بالنظر إلى طبيعتها ومداها – لا تعدو أن تكون إجراءً تحفظياً لا تنفيذياً، وأن الخطر العاجل الذي يقتضيها يعتبر شرطاً موضوعياً متطلباً لفرضها، وأن صفتها الوقتية تحول دون استمرارها بعد زوال مبرراتها، وأن الحكم بها لا يمس أصل الحقوق المتنازع عليها، ولا يعتبر قضاء بإثباتها أو نفيها، وأن توقيعها يخول الحارس انتزاع الأموال محلها من حائزها وتسليمها مع توابعها – ولو لم ينص الحكم عليها – ليباشر في شأنها – لا مجرد الأعمال التحفظية – بل كل الأعمال التي تلائم طبيعتها وظروفها، وتقتضيها المحافظة عليها وإدارتها بما في ذلك رد المخاطر عنها وتوقيها قبل وقوعها.
وحيث إن الحراسة – على ضوء مقاصد الدستور، وبمراعاة ما تقدم – تعتبر تسلطاً على الأموال المشمولة بها في مجال صونها وإدارتها فلا يكفي لفرضها مجرد أمر على عريضة يصدر في غيبة الخصوم، بل يكون توقيعها فضلاً في خصومة قضائية تقام وفقاً لإجراءاتها المعتادة، وتباشر علانية في مواجهة الخصوم جميعهم، وعلى ضوء ضماناتها القانونية التي تتكافأ معها مراكزهم وأسلحتهم، لتكون خاتمها – إذا توافر الدليل على قيام الخطر العاجل في شأن أموال بذاتها – تعيين حارس قضائي عليها، يكون نائباً عن أصحابها، يباشر سلطته عليها في الحدود التي يبينها الحكم الصادر بفرضها، فلا يجاوزها أياً كان نطاقها. وهو ما يعني أن تدخل القاضي لا يكون إلا لضرورة، وبقدرها، وأن فرض قيود على بعض الأموال عن طريق حراستها، لا يكون إلا من خلال الخصومة القضائية فصلاً في جوانبها، وإلا كان تحميل المال بها – في غيبتها – عملاً مخالفاً لنص المادة 34 من الدستور.
وحيث إنه متى كان ذلك، وكانت الأوامر التي يصدرها النائب العام في شأن أموال المخاطبين بالنص المطعون فيه، وإن جاز التظلم منها إلى جهة قضائية عملاً بنص المادة 208 مكرراً (ب) من قانون الإجراءات الجنائية، إلا الآثار التي ترتبها تظل نافذة، ما بقيت قائمة، لتمثل عدواناً على الملكية مستنداً إلى نص القانون، وإلى مجرد دلائل من التحقيق يرجح معها الاتهام، وهي بعد دلائل يستقل النائب العام بتقييمها، وليس لها قوة اليقين القضائي.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، فإن النص المطعون عليه يكون مخالفاً للمواد 32 و34 و40 من الدستور.
وحيث إن الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 208 مكرراً ( أ ) من قانون الإجراءات الجنائية وكذلك المادة 208 مكرراً (ب) من هذا القانون ترتبط جميعها بالنص المطعون فيه ارتباطاً لا يقبل التجزئة، ولا يتصور إعمالها إلا بوجوده، فإنها تسقط تبعاً للحكم بعدم دستوريته.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 208 مكرراً ( أ ) من قانون الإجراءات الجنائية الصادر بالقانون رقم 150 لسنة 1950، وبسقوط فقرتيها الثانية والثالثة وكذلك المادة 208 مكرراً (ب) من هذا القانون، وألزمت الحكومة المصروفات ومائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.