الخط الساخن : 01118881009
جلسة 22 فبراير 1997
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر -رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف ومحمد علي سيف الدين. وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي -رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم (26)
القضية رقم 44 لسنة 17 قضائية “دستورية”
1- دعوى دستورية: “اتصالها”.
ضرورة اتصال الدعوى الدستورية بالمحكمة الدستورية العليا اتصالاً مطابقاً للأوضاع المقررة في قانونها – هذه الأوضاع الإجرائية تتعلق بالنظام العام لانتظام التداعي في المسائل الدستورية بالإجراءات التي رسمها المشرع.
2- قانون مدني “إجارة: موت المستأجر”.
موت المستأجر – وفقاً للمادة 602 من القانون المدني – يعتبر عذراً طارئاً يسوغ انتهاء الإيجار – من المتعين على الوارث ولو كانت له حرفة المورث إذا أراد الاستمرار في مزاولتها في مكان المؤجر أن يكون ذلك بعقد إيجار بينهما.
3- تشريع “المادة 29/ 2 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر: قواعد عامة”.
مجاوزة هذا النص نطاق القواعد العامة فيما قرره من اعتبار عقد الإيجار ممتداً بقوة القانون لصالح ورثة المستأجر لغير أغراض السكنى على إطلاقهم.
4- رقابة دستورية “محلها”.
الرقابة على الشرعية الدستورية تتناول – بين ما تشتمل عليه – الحقوق التي كفلها الدستور وأخل بها النص المطعون فيه ابتداء أو عرضاً.
5- حق الملكية “صونها – وظيفة اجتماعية – إسقاطها”
حق الملكية نافذ في مواجهة الكافة – صون حق الملكية مؤداه ألا تزول الملكية عن ذويها بانقطاع عن استعمالها – عدم جواز تجريد المشرع الملكية من لوازمها – عدم جواز تقييده من مباشرة الحقوق المتفرعة عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية – إسقاط الملكية عن أصحابها عدوان عليها مناقض لما هو مقرر من أن الملكية لا تزول عن الأموال محلها إلا إذا كسبها أغيار وفقاً للقانون.
6- تنظيم الحقوق “سلطة تقديرية: حدودها” – ملكية
السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق لازمها مفاضلته بين بدائل متعددة لترجيح أكفلها لتحقيق المصالح المشروعة – من غير الجائز أن تبلغ حدود هذا التنظيم إلى ما يعد أخذاً للملكية من أصحابها.
7- علائق إيجارية: “موازنة”
التوازن الذي ارتآه المشرع كافلاً للتوازن بين أطراف العلائق الإيجارية يلزم أن يكون حقيقياً – إذا كان تنظيم المشرع للحق في استعمال الشيء مدخلاً لافتقار مالكه فإن هذا التنظيم يكون متحيفاً.
8- علائق إيجارية “تضامن اجتماعي”
حصول المستأجر من خلال الإجارة على حقوق لا يسوغها مركزه القانوني في مواجهة المؤجر إخلال بالتضامن الاجتماعي المفروض بينهما.
9- علائق إيجارية “سلطة فعلية” – حق عيني.
من غير الجائز أن يتحول حق المستأجر في استعمال العين وهو حق مصدره العقد حتى مع قيام التنظيم الخاص للعلائق الإيجارية إلى نوع من السلطة الفعلية للمستأجر على الشيء المؤجر مستخلصاً منه فوائده دون تدخل المؤجر – خروج حق المستأجر من ثم من عداد الحقوق الشخصية ليشبه بالحقوق العينية.
10- إجارة “شخص المستأجر”
الحق في الإجارة لصيق أصلاً بشخص المستأجر – كان من المتعين انقضاء هذا الحق بوفاته.
11- تشريع “المادة 29/ 2 من القانون رقم 49 لسنة 1977: مؤداها”.
مؤدى نص هذه الفقرة أن يمتد عقد الإيجار بعد وفاة مستأجر العين الأصلي إذا كان يباشر نشاطاً تجارياً أم حرفياً إلى ورثته جميعهم، على إطلاق – ودون اعتداد بقدر الضرورة التي أملت القيود الاستثنائية على العلاقة الإيجارية.
12- علائق إيجارية “قيود استثنائية – حرية التعاقد”
ارتباط القيود الاستثنائية التي حمل بها المشرع العلاقة الإيجارية بالضرورة التي أملتها وبقدرها – من المتعين إعمال حرية التعاقد عند فوات الضرورة.
13- تشريع “المادة 29/ 2 من القانون رقم 49 لسنة 1977: ضرورة”
من غير الجائز انفصال النص المذكور عن الضرورة سواء في مضمونه أو في الآثار التي يرتبها.
14- تشريع “المادة 29/ 2 من القانون 49 لسنة 1977: انتزاع المنافع”
اتصال أيدي الورثة على العين المؤجرة وفقاً لهذا النص مهماً بعد العهد بالعقد الأول – يعدل ذلك انتزاع منفعة العين من مالكها على وجه التأبيد.
15- تشريع “المادة 29/ 2 من القانون 49 لسنة 1977: إهدار التوازن”
انحدار النص المذكور بحقوق المؤجر إلى مرتبة الحقوق محدودة الأهمية ترجيحاً لمصالح لا تدانيها – إهدار ذلك لتوازن لا يجوز أن يختل بين أطراف العلاقة الإيجارية – إلحاق الضرر بالمؤجر وحده.
16- تشريع “المادة 29/ 2 من القانون 49 لسنة 1977: إخلال بالتضامن الاجتماعي”
كان من المتعين أن يترسم هذا النص الضوابط التي تتوازن من خلالها العلائق الإيجارية ليقيمها على قاعدة التضامن الاجتماعي المقررة في المادة 7 من الدستور.
1- ولاية المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية – وعلى ما جرى به قضاؤها – لا تقوم إلا باتصالها بالدعوى اتصالاً مطابقاً للأوضاع المقررة في قانونها، وذلك إما بإحالة الأوراق إليها من إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي للفصل في المسألة الدستورية، وإما برفعها من أحد الخصوم بمناسبة دعوى موضوعية دفع فيها الخصم بعدم دستورية نص تشريعي، وقدرت محكمة الموضوع جدية دفعه. وهذه الأوضاع الإجرائية تتعلق بالنظام العام باعتبارها شكلاً جوهرياً في التقاضي تغيا به المشرع مصلحة عامة، حتى ينتظم التداعي في المسائل الدستورية بالإجراءات التي رسمها. إذ كان ذلك، وكان الثابت مما تقدم، أن المدعية قصرت دفعها بعدم الدستورية على المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه، فإن دعواها الدستورية لا تكون مقبولة بالنسبة إلى المادة 18 من القانون رقم 136 لسنة 1981 لعدم اتصالها في هذا الشق بالمحكمة اتصالاً مطابقاً للأوضاع المقررة قانوناً.
2، 3- البين من مضابط جلسات مجلس الشعب إبان الفصل التشريعي الثاني – دور الانعقاد الأول – بدءاً بمضبطة الجلسة الرابعة والستين، وانتهاءً بمضبطة الجلسة الخامسة والثمانين – أن نص المادة 29 فقرة ثانية، وما يرتبط به من فقرتها الثالثة، لم يكن وارداً أصلاً لا في المشروع المقدم من الحكومة، ولا في المشروع الذي ارتأته لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير بالمجلس؛ وأن المناقشة الأولى للنص التي تمت بالجلسة المعقودة في 30 من يوليو سنة 1975، قد أسفرت عن إضافة فقرة أخيرة إلى المادة 31 من المشروع – التي أصبحت المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977- تنص على أنه إذا كانت العين مؤجرة لمزاولة حرفة أو مهنة، فإن العقد لا ينتهي بوفاة المستأجر إذا ما بقى يزاول فيها نفس الحرفة أو المهنة زوجته أو أحد أولاده الذين تتوافر فيه شروط المزاولة. بيد أن النص أفرغ – عند المناقشة النهائية – في الصيغة التي صدر بها، دالاً بمنطوقه على عدم انتهاء عقد إيجار العين المؤجرة لمزاولة نشاط تجاري أو صناعي أو مهني أو حرفي بوفاة مستأجرها، ومؤكداً بقاء ذلك العقد مستمراً لصالح ورثنه، مستحدثاً بذلك حكماً لم تسبق إليه التشريعات المنظمة لإيجار الأماكن الصادرة قبل العمل بالقانون رقم 49 لسنة 1977، نابذاً – في الوقت ذاته – ما جرت به المادة 602 من القانون المدني، التي تنص علي أنه إذا مات المستأجر، جاز لورثته أو للمؤجر أن يطلبوا إنهاء عقد الإيجار – قبل انقضاء مدته – إذا كان لم يعقد إلا بسبب حرفة المستأجر أو لاعتبارات أخرى تتعلق بشخصه؛ وهو ما يعني أن موت المستأجر يعتبر وفقاً لنص المادة 602 من القانون المدني، عذراً طارئاً يسوغ إنهاء الإيجار على النحو المتقدم. وليس لوارث أن يعقبه فيها، ولو كانت له حرفة المورث، بل يتعين إذا أراد الاستمرار في مزاولتها في المكان المؤجر، أو يكون ذلك بعقد إيجار بينه وبين المؤجر.
بيد أن النص المطعون فيه جاوز نطاق هذه القواعد؛ إذ اعتبر عقد الإيجار ممتداً بقوة القانون، لصالح ورثة مستأجر العين المؤجرة لغير أغراض السكنى على إطلاقهم، ولو كانوا جميعاً لا يباشرون الحرفة أو المهنة التجارية التي قام عليها المستأجر، أو كان من يزاولها نائباً عنهم في ممارستها.
4- إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الرقابة على الشرعية الدستورية تتناول – بين ما تشتمل عليه – الحقوق التي كفلها الدستور، وأخل بها النص المطعون فيه؛ سواء أكان هذا الإخلال مقصوداً ابتداءً؛ أم كان قد وقع عرضاً.
5- من المقرر قانوناً – وعلى ما اطرد عليه قضاء هذه المحكمة – أن حق الملكية وباعتباره منصرفاً محلاً إلى الحقوق العينية والشخصية جميعاً، وكذلك إلى حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية – نافذ في مواجهة الكافة ليختص صاحبها دون غيره بالأموال التي يملكها وتهيئة الانتفاع المفيد بها، لتعود إليه ثمارها وملحقاتها ومنتجاتها؛ وكان صون حرمتها مؤداه ألا تزول الملكية عن ذويها بانقطاعهم عن استعمالها. ولا أن يجردها المشرع من لوازمها، أو يفصل عنها الأجزاء التي تكونها، ولا أن ينال من أصلها أو يعدل من طبيعتها، أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، ولا أن يتذرع بتنظيمها إلى حد هدم الشيء محلها. ذلك أن إسقاط الملكية عن أصحابها – سواء بطريق مباشر أو غير مباشر – عدوان عليها يناقض ما هو مقرر قانوناً من أن الملكية لا تزول عن الأموال محلها، إلا إذا كسبها أغيار وفقاً للقانون.
6- إن السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق، لازمها أن يفاضل بين بدائل متعددة مرجحاً من بينها ما يراه أكفل لتحقيق المصالح المشروعة التي قصد إلى حمايتها. إلا أن الحدود التي يبلغها هذا التنظيم لا يجوز بحال أن ينفلت مداها إلى ما يعد أخذاً للملكية من أصحابها A taking of property. سواء من خلال العدوان عليها بما يفقدها قيمتها، أو عن طريق اقتحامها مادياً. بل إن اقتلاع المزايا التي تنتجها، أو تهمشها مؤداه سيطرة آخرين فعلاً عليها، physical appropriation، أو تعطيل بعض جوانبها.
7، 8- إن المشرع، وإن قرر في مجال تنظيم العلائق الإيجارية، من النصوص القانونية ما ارتآه كافلاً للتوازن بين أطرافها، إلا أن هذا التوازن لا يجوز أن يكون صورياً أو منتحلاً. وكلما كان هذا التنظيم متحيفاً، بأن مال بالميزان في اتجاه أحد أطرافها تعظيماً للحقوق التي يدعيها أو يطلبها، كان ذلك انحرافاً عن إطارها الحق، أو نكولاً عن ضوابط ممارستها، فلا يستقيم بنيانها. ويقع ذلك بوجه خاص إذا كان تنظيم المشرع للحق في استعمال الشيء – وهو أحد عناصر حق الملكية – مدخلاً لإفقار مالكه، وإثراءً لغيره على حسابه.
وحيث إنه فضلاً عما تقدم، لا يجوز أن يحصل المستأجر من خلال الإجارة، على حقوق لا يسوغها مركزه القانوني في مواجهة المؤجر، وإلا حض تقريرها على الانتهاز، وكان قرين الاستغلال، إذ ليس من المتصور أن يكون مغبون الأمس – وهو المستأجر – غابناً، ولا أن يكون تدخل المشرع شططاً قلباً لموازين الحق والعدل، فلا تتوافق – في إطار العلائق الإيجارية – مصالح طرفيها اقتصادياً، بل يختل التضامن بينهما اجتماعياً، ليكون صراعهما بديلاً عن التعاون بينهما.
9- لا يجوز أن يتحول حق المستأجر في استعمال العين – وهو حق مصدره العقد دائماً حتى مع قيام التنظيم الخاص للعلائق الإيجارية وتحديد أبعادها بقوانين استثنائية – إلى نوع من السلطة الفعلية يسلطها المستأجر مباشرة على الشيء المؤجر، مستخلصاً منه فوائده دون تدخل من المؤجر. إذ لو جاز ذلك، لخرج هذا الحق من إطار الحقوق الشخصية، وصار مشبهاً بالحقوق العينية، ملتئماً مع ملامحها. وهو ما يناقض خصائص الإجارة باعتبار أن طرفيها – وطوال مدتها – على اتصال دائم مما اقتصي ضبطها تحديداً لحقوقهما وواجباتهما، فلا يتسلط أغيار عليها انتهازاً وإضراراً بحقوق مؤجرها، متدثرين في ذلك بعباءة القانون. ولأنها – فوق هذا – لا تقع على ملكية الشيء المؤجر، بل تنصب علي منفعة يغلها، مقصودة في ذاتها ومعلومة من خلال تعيينها، ولمدة طابعها التأقيت مهما استطال أمدها.
10- إن الحق في الإجارة لصيق أصلاً بشخص المستأجر؛ ومقارن للغرض من الإجارة كلما كانت العين مؤجرة لاعتبار يتعلق بطبيعة الأعمال التي يزاولها المستأجر. ومن ثم كان ينبغي أن يعتبر هذا الحق منقضياً بوفاته، وأن يتوافر بها حق مؤجر العين في تسلمها بعد انقطاع صلة هذا المستأجر بها، إلا أن المشرع آثر – بالنص المطعون فيه – أن ينقل منفعتها إلى ورثته جملة، ودون قيد.
11- مؤدى النص المطعون فيه، أنه إذا كان مستأجر العين الأصلي يباشر فيها نشاطاً تجارياً أم حرفياً، فإن العقد بعد وفاته يمتد امتداداً قانونياً إلى ورثته جميعهم، سواء أكان هؤلاء يباشرون في هذا المكان المهنة أو الحرفة ذاتها التي قام عليها مورثهم، أم كانوا يزاولون غيرها؛ يعتمدون عليها كلية في معاشهم بوصفها مورداً رئيسياً أو وحيداً لرزقهم، أم يفيئون إليها عرضاً باعتبارها تغل دخلاً جانبياً مضافاً إلى عملهم الأصلي؛ يعاونون أسرة مورثهم في أعباء حياتها، أم يناهضونها ويستقلون بنشاطهم في هذا المكان عنها؛ يعملون فيه بأنفسهم استصحاباً لمهنة أو حرفة مورثهم، أم ينيبون عنهم أغياراً في مباشرتها بعد انفصالهم عنها، وما لذلك فرض المشرع القيود الاستثنائية على العلائق الإيجارية التي لا يتصور أن ترتبط بغير الضرورة التي اقتضتها، ولا أن يكون أثرها محوراً من بنيان حق الملكية، فلا تخلص لأصحابها، بل يتسلط آخرون عليها حتى تصير ركاماً، انحرافاً بالإجارة عن مقاصدها.
12، 13- إن القيود الاستثنائية التي حمل بها المشرع العلائق الإيجارية، لا يجوز النظر إليها باعتبارها حلاً نهائياً ودائماً لمشكلاتها، ولا أن يمد المشرع تطبيقها إلى صور لا تسعها، ولا يمكن التسليم بها إلا بافتراض أن الدستور يغلب دوماً مصالح مستأجر العين – وكذلك ورثته – على حقوق مؤجرها – وهو يملكها في الأعم من الأحوال – فلا يتساويان أو يتوازنان؛ حال أن الأصل في عقود القانون الخاص، ابتناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، فلا يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها، إلا بقدر الضرورة التي لا يجوز أن ينفصل عنها مضمون النص المطعون فيه أو الآثار التي ترتبها. ويتعين بالتالي أن تخلي مكانها – عند فواتها – لحرية التعاقد بحسبانها الأصل في العقود جميعها؛ ولأن صون الحرية الشخصية لا يعتبر مجرد ضمان ضد التدابير غير المبررة التي تنال من البدن، كتلك التي تتعلق بالقبض أو الاعتقال غير المشروع، بل صمام أمن كذلك ضد أشكال القهر على اختلافها، فلا يكون جوهر هذه الحرية إلا مجالاً حياً لإرادة الاختيار.
14- إن الورثة – وفي مجال تطبيق النص المطعون فيه – يتخذون من وفاة مورثهم وزوال صلته بالتالي بالعين المؤجرة، موطئاً لاستلابها من خلال مكثهم فيها واستغلالها في عين نشاطها السابق أو في غيره، ثم من بعدهم إلى ورثتهم، فلا ينتزعها منهم أحد، بل تتصل أيديهم بها تعاقباً عليها، فلا ينفكون عنها أو يبرحونها؛ مهما بعد العهد على العقد الأول، ما ظل زمامها بيد من يتداولونها، فلا يتحولون عنها إلا بعد انتهابهم من المؤجر مقابلاً لتركها، فإذا لم يبذل، صار المكان المؤجر إرثاً يختص هؤلاء بثماره دون وساطة من أحد؛ وهو ما يعدل انتزاع منافع الأعيان من ملاكها على وجه التأييد. ومن غير المتصور أن يكون مؤجر العين قد عطل مختاراً ونهائياً حق استعمالها واستغلالها، سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، ولا أن تكون إرادتا طرفي الإجارة قد تلاقيتا – ابتداءً – على أن يقحما عليها أشخاص غرباء عنها، دخلاء عليها.
15- إن النص المطعون فيه، ينحدر كذلك بحقوق المؤجر إلى مرتبة الحقوق محدودة الأهمية، ويحيلها إلى مسوخ مشوهة لا تتعدى تقاضيه عائداً نقدياً دورياً ضئيلاً؛ مرجحاً على ملكيته – بمكناتها التي أقامها الدستور سوية لا عوج فيها – مصالح لا تدانيها، ولا تقوم إلى جانبها، أو تتكافأ معها، ترتيباً على انتقال منفعتها إلى الغير انتقالاً متتابعاً متصلاً ممتداً في أغوار الزمن، وهو بعد انتقال لا يعتد بإرادة مالكها في معدنها الحقيقي، بل يقوم في صوره الأكثر شيوعاً، على ابتزاز أموال المؤجر، والتدليس عليه، وهو ما يعد التواء بالإجارة عن حقيقة مقاصدها؛ وإهداراً لتوازن لا يجوز أن يدل بين أطرافها.
وما تقدم مؤداه، أن النص المطعون فيه، أنشأ حقوقاً مبتدأه – بعيدة في مداها – منحها لفئة بذاتها لمجرد انضوائها في عداد ورثة المستأجر الأصلي، اختصها دون مسوغ، واصطفاها في غير ضرورة، بتلك المعاملة التفضيلية التي تقدم المنفعة المجلوبة على مخاطر المفاسد ودرء عواقبها، وتلحق بالمؤجر وحده الضرر البين الفاحش، حال أن دفع المضرة أولى اتقاء لسواءتها وشرورها، ولأن الأصل حين تتزاحم الأضرار على محل واحد، أن يكون تحمل أخفها لازماً دفعاً لأفدحها.
16- كان ينبغي – من ثم أن يترسم النص المطعون فيه تلك التي تتوازن من خلالها العلائق الإيجارية بما يكون كافلاً لمصالح أطرافها، غير مؤد إلى تنافرها، ليُقيمها على قاعدة التضامن الاجتماعي التي أرستها المادة 7 من الدستور. وهي بعد قاعدة مؤداها وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها ببعض ليكون بعضهم لبعض ظهيراً، فلا يتفرقون بدداً، أو يتناحرون طمعاً، أو يتنابذون بغياً. وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها. وليس لفريق منهم بالتالي أن ينال قدراً من الحقوق يكون بها – عدواناً – أكثر علواً، ولا أن ينتحل منها ما يخل بالأمن الاجتماعي.
الإجراءات
بتاريخ الحادي والعشرين من يونيه 1995، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبة الحكم بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر؛ وكذلك ما تضمنته المادة 18 من القانون 136 لسنة 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق تتحصل في أن المدعية وأخريات كن قد أقمن الدعوى رقم 1012 لسنة 1981 إيجارات كلي جنوب القاهرة ضد المدعى عليهن الأخيرات، ابتغاء القضاء بإخلاء المحل الكائن أسفل العقار رقم 62 شارع محمد فريد قسم عابدين، قولاً منهن إنه بموجب عقد إيجار مؤرخ 1/ 1/ 1947 استأجر مورث المدعى عليهن المحل المشار إليه من مالكه السابق، وذلك لاستعماله في حرفة النجارة التي يزاولها، وقد أحيل العقد إلي المدعية وشريكاتها بصفتهن المالكات الحاليات للعقار، وإذ توفى المستأجر فقد انتهى عقد إيجار المحل، ومن ثم فقد أقمن دعواهن الموضوعية بطلب إخلائه منهن.
وبجلسة 4/ 5/ 1995 – المحددة لنظر الدعوى الموضوعية – دفعت المدعية بعدم دستورية المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر؛ وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، وصرحت للمدعية باتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية، فقد أقامت الدعوى الماثلة.
وحيث إن ولاية المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية – وعلى ما جرى به قضاؤها – لا تقوم إلا باتصالها بالدعوى اتصالاً مطابقاً للأوضاع المقررة في قانونها، وذلك إما بإحالة الأوراق إليها من إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي للفصل في المسألة الدستورية، وإما برفعها من أحد الخصوم بمناسبة دعوى موضوعية دفع فيها الخصم بعدم دستورية نص تشريعي، وقدرت محكمة الموضوع جدية دفعه. وهذه الأوضاع الإجرائية تتعلق بالنظام العام باعتبارها شكلاً جوهرياً في التقاضي تغيا به المشرع مصلحة عامة، حتى ينتظم التداعي في المسائل الدستورية بالإجراءات التي رسمها. إذ كان ذلك، وكان الثابت مما تقدم، أن المدعية قصرت دفعها بعدم الدستورية على المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 المشار إليه، فإن دعواها الدستورية لا تكون مقبولة بالنسبة إلى المادة 18 من القانون رقم 136 لسنة 1981 لعدم اتصالها في هذا الشق بالمحكمة اتصالاً مطابقاً للأوضاع المقررة قانوناً.
وحيث إن المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977؛ وبعد العمل بأحكام المحكمة الدستورية العليا الصادرة في الطعون أرقام 6 لسنة 9 قضائية، 4 لسنة 15 قضائية، 3 لسنة 18 قضائية دستورية؛ أصبحت تقراً كما يأتي: “مع عدم الإخلال بحكم المادة 8 من هذا القانون، لا ينتهي عقد إيجار المسكن بوفاة المستأجر أو تركه العين، إذا بقى فيها زوجته أو أولاده أو أي من والديه الذين كانوا يقيمون معه حتى الوفاة أو الترك؛ وفيما عدا هؤلاء من أقارب المستأجر نسباً حتى الدرجة الثالثة، يشترط لاستمرار عقد الإيجار إقامتهم في المسكن مدة سنة على الأقل سابقة على وفاة المستأجر؛ أو مدة شغله للمسكن أيتهما أقل.
فإذا كانت العين مؤجرة لمزاولة نشاط تجاري أو صناعي أو مهني أو حرفي فلا ينتهي العقد بوفاء المستأجر، ويستمر لصالح ورثته.
وفى جميع الأحوال يلتزم المؤجر بتحرير عقد إيجار لمن لهم الحق في الاستمرار في شغل العين، ويلتزم هؤلاء الشاغلون بطريق التضامن بكافة أحكام العقد”.
وحيث إن المدعية تنعي على هذا النص مخالفته أحكام المواد 2، 7، 32، 34 من الدستور. قولاً منها بمخالفته مبادئ الشريعة الإسلامية – وهي المصدر الرئيسي للتشريع – فضلاً عن إهداره لحق الملكية. وإخلاله بمبدأ التضامن الاجتماعي.
وحيث إن البين من مضابط جلسات مجلس الشعب إبان الفصل التشريعي الثاني – دور الانعقاد الأول – بدءاً بمضبطة الجلسة الرابعة والستين، وانتهاءً بمضبطة الجلسة الخامسة والثمانين، أن نص المادة 29 فقرة ثانية، وما يرتبط به من فقرتها الثالثة، لم يكن وارداً أصلاً لا في المشروع المقدم من الحكومة، ولا في المشروع الذي ارتأته لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير بالمجلس؛ وأن المناقشة الأولى للنص التي تمت بالجلسة المعقودة في 30 من يوليو سنة 1975، قد أسفرت عن إضافة فقرة أخيرة إلى المادة 31 من المشروع – التي أصبحت المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977- تنص على أنه إذا كانت العين مؤجرة لمزاولة حرفة أو مهنة، فإن العقد لا ينتهي بوفاة المستأجر إذا ما بقى يزاول فيها نفس الحرفة أو المهنة زوجته أو أحد أولاده الذين تتوافر فيه شروط المزاولة. بيد أن النص أفرغ – عند المناقشة النهائية – في الصيغة التي صدر بها، دالاً بمنطوقه على عدم انتهاء عقد إيجار العين المؤجرة لمزاولة نشاط تجاري أو صناعي أو مهني أو حرفي بوفاة مستأجرها، بل بقاء ذلك العقد مستمراً لصالح ورثته، مستحدثاً بذلك حكماً لم تسبق إليه التشريعات المنظمة لإيجار الأماكن الصادرة قبل العمل بالقانون رقم 49 لسنة 1977، ونابذاً – في الوقت ذاته – ما جرت به المادة 602 من القانون المدني، التي تنص علي أنه إذا مات المستأجر، جاز لورثته أو للمؤجر أن يطلبوا إنهاء عقد الإيجار – قبل انقضاء مدته – إذا كان لم يعقد إلا بسبب حرفة المستأجر أو لاعتبارات أخرى تتعلق بشخصه؛ وهي ما يعني أن موت المستأجر يعتبر وفقاً لنص المادة 602 من القانون المدني عذراً طارئاً يسوغ إنهاء الإيجار على النحو المتقدم. وليس لوارث أن يعقبه فيها، ولو كانت له حرفة المورث، بل يتعين إذا أراد الاستمرار في مزاولتها في المكان المؤجر، أن يكون ذلك بعقد إيجار جديد بينه وبين المؤجر.
وحيث إن النص المطعون فيه، قد جاوز نطاق هذه القواعد؛ إذ اعتبر عقد الإيجار ممتداً بقوة القانون، لصالح ورثة مستأجر العين المؤجرة لغير أغراض السكنى على إطلاقهم، ولو كانوا جميعاً لا يباشرون الحرفة أو المهنة التجارية التي قام عليها المستأجر، أو كان من يزاولها نائباً عنهم في ممارستها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الرقابة على الشرعية الدستورية تتناول – بين ما تشتمل عليه – الحقوق التي كفلها الدستور، وأخل بها النص المطعون فيه؛ سواء أكان هذا الإخلال مقصوداً ابتداءً؛ أم كان قد وقع عرضاً.
وحيث إن من المقرر قانوناً – وعلى ما اطرد عليه قضاء هذه المحكمة – أن حق الملكية – وباعتباره منصرفاً محلاً إلى الحقوق العينية والشخصية جميعها، وكذلك إلى حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية، نافذ في مواجهة الكافة ليختص صاحبها دون غيره بالأموال التي يملكها وتهيئة الانتفاع المفيد بها، لتعود إليه ثمارها وملحقاتها ومنتجاتها؛ وكان صون حرمتها مؤداه ألا تزول الملكية عن ذويها بانقطاعهم عن استعمالها. ولا أن يجردها المشرع من لوازمها، أو يفصل عنها بعض الأجزاء التي تكونها، ولا أن ينال من أصلها أو يعدل من طبيعتها أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، ولا أن يتذرع بتنظيمها إلى حد هدم الشيء محلها. ذلك أن إسقاط الملكية عن أصحابها سواء بطريق مباشر أو غير مباشر – عدوان عليها يناقض ما هو مقرر قانوناً من أن الملكية لا تزول عن الأموال محلها، إلا إذا كسبها أغيار وفقاً للقانون.
وحيث إن السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق، لازمها أن يفاضل بين بدائل متعددة مرجحاً من بينها ما يراه أكفل لتحقيق المصالح المشروعة التي قصد إلى حمايتها. إلا أن الحدود التي يبلغها هذا التنظيم لا يجوز بحال أن ينفلت مداها إلى ما يعد أخذاً للملكية من أصحابها A taking of property. سواء من خلال العدوان عليها بما يفقدها قيمتها، أو عن طريق اقتحامها مادياً، بل إن اقتلاع المزايا التي تنتجها أو تهمشها مؤداه سيطرة آخرين فعلاً عليهاphysical appropriation، أو تعطيل بعض جوانبها.
وحيث إن المشرع، وإن قرر في مجال تنظيم العلائق الإيجارية، من النصوص القانونية ما ارتآه كافلاً للتوازن بين أطرافها، إلا أن هذا التوازن لا يجوز أن يكون صورياً أو منتحلاً. وكلما كان هذا التنظيم متحيفاً، بأن مال بالميزان في اتجاه أحد أطرافها تعظيماً للحقوق التي يدعيها أو يطلبها، كان ذلك انحرافاً عن إطارها الحق، أو نكولاً عن ضوابط ممارستها، فلا يستقيم بنيانها. ويقع ذلك بوجه خاص إذا كان تنظيم المشرع للحق في استعمال الشيء – وهو أحد عناصر حق الملكية – مدخلاً لإفقار مالكه، وإثراء لغيره على حسابه.
وحيث إنه فضلاً عما تقدم، لا يجوز أن يحصل المستأجر من خلال الإجارة، على حقوق لا يسوغها مركزه القانوني في مواجهة المؤجر، وإلا حض تقريرها على الانتهاز، وكان قرين الاستغلال، إذ ليس من المتصور أن يكون مغبون الأمس – وهو المستأجر – غابناً، ولا أن يكون تدخل المشرع شططاً قلباً لموازين الحق والعدل، فلا تتوافق في إطار العلائق الإيجارية – مصالح طرفيها اقتصادياً، بل يختل التضامن بينهما اجتماعياً، ليكون صراعهما بديلاً عن التعاون بينهما.
كذلك لا يجوز أن يتحول حق المستأجر في استعمال العين – وهو حق مصدره العقد دائماً حتى مع قيام التنظيم الخاص للعلائق الإيجارية وتحديد أبعادها بقوانين استثنائية – إلى نوع من السلطة الفعلية يسلطها المستأجر مباشرة على الشيء المؤجر، مستخلصاً منه فوائده دون تدخل من المؤجر. إذ لو جاز لخرج هذا الحق من إطار الحقوق الشخصية، وصار مشبهاً بالحقوق العينية، ملتئماً مع ملامحها، وهو ما يناقض خصائص الإجارة باعتبار أن طرفيها – وطوال مدتها، على اتصال دائم مما اقتصي ضبطها تحديداً لحقوقهما وواجباتهما، فلا يتسلط أغيار عليها انتهازاً وإضرار بحقوق مؤجرها، متدثرين في ذلك بعباءة القانون. ولأنها فوق هذا لا تقع على ملكية الشيء المؤجر، بل تنصب علي منفعة يدرها، مقصودة في ذاتها، ومعلومة من خلال تعيينها، ولمدة طابعها التأقيت مهما استطال أمدها.
وحيث إن الحق في الإجارة لصيق بشخص المستأجر؛ ومقارن للغرض من الإجارة كلما كانت العين مؤجرة لاعتبار يتعلق بطبيعة الأعمال التي يزاولها المستأجر. ومن ثم كان ينبغي أن يعتبر هذا الحق منقضياً بوفاته، وأن يتوافر بها حق مؤجر العين في تسلمها بعد انقطاع صلة هذا المستأجر بها، إلا أن المشرع آثر بالنص المطعون فيه – أن ينقل منفعتها إلى ورثته جملة، ودون قيد.
وحيث إن مؤدى النص المطعون فيه، أنه إذا كان مستأجر العين الأصلي يباشر فيها نشاطاً تجاًريا أم حرفياً، فإن العقد بعد وفاته يمتد امتداداً قانونياً إلى ورثته جميعهم، سواء أكان هؤلاء يباشرون في هذا المكان المهنة أو الحرفة ذاتها التي قام عليها مورثهم، أم كانوا يزاولون غيرها؛ يعتمدون عليها كلية في معاشهم بوصفها مورداً رئيسياً أو وحيداً لرزقهم، أم يفيئون إليها عرضاً باعتبارها تغل دخلاً جانبياً مضافاً إلى عملهم الأصلي؛ يعاونون أسرة مورثهم في أعباء حياتها، أم يناهضونها ويستقلون بنشاطهم في هذا المكان عنها؛ يعملون فيه بأنفسهم استصحاباً لمهنة أو حرفة مورثهم، أم ينيبون عنهم أغياراً في مباشرتها بعد انفصالهم عنها، وما لذلك فرض المشرع القيود الاستثنائية على العلائق الإيجارية التي لا يتصور أن ترتبط بغير الضرورة التي اقتضتها، ولا أن يكون أثرها مُحَوِّرا من بنيان حق الملكية، فلا تخلص لأصحابها، بل يتسلط آخرون عليها حتى تصير ركاماً، انحرافاً بالإجارة عن مقاصدها.
وحيث إن مفاد ما تقدم، أن القيود الاستثنائية التي حَمَّل بها المشرع العلائق الإيجارية، لا يجوز النظر إليها باعتبارها حلاً نهائياً ودائماً لمشكلاتها، ولا أن يمد المشرع تطبيقها إلى صور لا تسعها، ولا يمكن التسليم بها إلا بافتراض أن الدستور يغلب دوماً مصالح مستأجر العين – وكذلك ورثته – على حقوق مؤجرها وهو يملكها في الأعم من الأحوال – فلا يتساويان أو يتوازنان؛ حال أن الأصل في عقود القانون الخاص، ابتناؤها على علائق تتكافأ بشأنها مصالح أطرافها، فلا يميل ميزانها في اتجاه مناقض لطبيعتها، إلا بقدر الضرورة التي لا يجوز أن ينفصل عنها مضمون النص المطعون فيه أو الآثار التي يرتبها. ويتعين بالتالي أن تخلي مكانها – عند فواتها – لحرية التعاقد بحسبانها الأصل في العقود جميعها؛ ولأن صون الحرية الشخصية لا يعتبر مجرد ضمان ضد التدابير غير المبررة التي تنال من البدن، كتلك التي تتعلق بالقبض أو الاعتقال غير المشروع، بل هي صمام أمن كذلك ضد أشكال القهر على اختلافها، فلا يكون جوهر هذه الحرية إلا مجالاً حياً لإرادة الاختيار.
وحيث إن الورثة – وفي مجال تطبيق النص المطعون فيه – يتخذون من وفاة مورثهم وزوال صلته بالتالي بالعين المؤجرة، موطئاً لاستلابها من خلال مكثهم فيها واستغلالها في عين نشاطها السابق أو في غيره، ثم من بعدهم إلى ورثتهم، فلا ينتزعها منهم أحد، بل تتصل أيديهم بها تعاقباً عليها، فلا ينفكون عنها أو يبرحونها؛ مهما بعد العهد على العقد الأول، ما ظل زمامها بيد من يتداولها فلا يتحولون عنها إلا بعد انتهابهم من المؤجر مقابلاً لتركها فإذا لم يبذل، صار المكان المؤجر إرثاً يختص هؤلاء بثماره دون وساطة من أحد؛ وهو ما يعدل انتزاع منافع الأعيان من ملاكها على وجه التأبيد. ومن غير المتصور أن يكون مؤجر العين قد عطل مختاراً ونهائياً حق استعمالها واستغلالها، سواء كان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر، ولا أن تكون إرادتا طرفي الإجارة قد تلاقيتا – ابتداء – على أن يقحما عليها أشخاص غرباء عنها دخلاء عليها.
وحيث إن النص المطعون فيه، ينحدر كذلك بحقوق المؤجر إلى مرتبة الحقوق محدودة الأهمية، ويحيلها إلى مسوخ مشوهة لا تتعدى تقاضيه عائداً نقدياً دورياً ضئيلاً؛ مرجحاً على ملكيته بمكناتها التي أقامها الدستور سوية لا عوج فيها، مصالح لا تدانيها، ولا تقوم إلى جانبها، أو تتكافأ معها، ترتيباً على انتقال منفعتها إلى الغير انتقالاً متتابعاً متصلاً ممتداً في أغوار الزمن؛ وهو بعد انتقال لا يعتد بإرادة مالكها في معدنها الحقيقي، بل يقوم في صوره الأكثر شيوعاً، على ابتزاز أموال المؤجر، والتدليس عليه، وهو ما يعد التواء بالإجارة عن حقيقة مقاصدها؛ وإهدار لتوازن لا يجوز أن يختل بين أطرافها.
وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن النص المطعون فيه، أنشأ حقوقاً مبتدأه – بعيدة في مداها – منحها لفئة بذاتها لمجرد انضوائها في عداد ورثة المستأجر الأصلي، اختصها دون مسوغ، واصطفاها في غير ضرورة، بتلك المعاملة التفضيلية التي تقدم المنفعة المجلوبة على مخاطر المفاسد ودرء عواقبها، وتلحق بالمؤجر وحده الضرر البين الفاحش، حال أن دفع المضرة أولى اتقاء لسواءتها وشرورها، ولأن الأصل حين تتزاحم الأضرار على محل واحد، أن يكون تتحمل أخفها لازماً دفعاً لأفدحها.
وكان ينبغي – من ثم – أن يترسم النص المطعون فيه تلك الضوابط التي تتوازن من خلالها العلائق الإيجارية بما يكون كافلاً لمصالح أطرافها، غير مؤد إلى تنافرها، ليُقيمها على قاعدة التضامن الاجتماعي التي أرستها المادة 7 من الدستور وهي بعد قاعدة مؤداها وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها ببعض ليكون بعضهم لبعض ظهيراً. فلا يتفرقون بدداً، أو يتناحرون طمعاً، أو يتنابذون بغياً. وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها، لا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها. وليس لفريق منهم بالتالي أن ينال قدراً من الحقوق يكون بها عدواناً أكثر علواً، ولا أن ينتحل منها ما يخل بالأمن الاجتماعي.
وحيث إن النص المطعون فيه قد نقض بما تقدم، الأحكام المنصوص عليها في المواد 7 و32 و40 و41 من الدستور.
وحيث إن الفقرة الثالثة من المادة 29 المشار إليها، تلزم المؤجر – وفي كل الأحوال – بتحرير عقد إيجار لمن لهم الحق في شغل العين، وكان حكمها هذا مرتبطاً بفقرتها الثانية المطعون فيها ارتباطاً لا يقبل التجزئة، فإنها تسقط في هذا النطاق، إذ لا يتصور تطبيقها، وقد غدا النص الذي تستند إليه لإعمالها، منعدماً.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977 في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، وذلك فيما نصت عليه من استمرار الإجارة التي عقدها المستأجر في شأن العين التي استأجرها لمزاولة نشاط حرفي أو تجاري لصالح ورثته بعد وفاته، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
استناداً إلى الحجية المطلقة لهذا الحكم، قضت المحكمة – خلال الفقرة التي صدر عنها هذا الجزء من أحكامها – باعتبار الخصومة منتهية في الدعوى رقم 76 لسنة 17 ق. دستورية، جلسة 5/ 4/ 1997.
وسوم : حكم دستورية