الخط الساخن : 01118881009
جلسة 14 يناير سنة 1994
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر – رئيس المحكمة، وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين – أعضاء، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي على جبالي – المفوض، وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد – أمين السر.
(القاعدة رقم 32)
القضية رقم 17 لسنة 14 قضائية “دستورية”
1 – تشريع “نص المادة الثانية من القانون رقم 73 لسنة 1973 بشأن تحديد شروط وإجراءات انتخاب ممثلي العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام” “مؤداها”.
مؤدى نص المادة الثانية من هذا القانون أن شاغلي وظائف الإدارة العليا, لا يجوز أن يكونوا أعضاء في مجلس إدارة أية وحدة اقتصادية بالقطاع العام. وقد أحال قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 23 لسنة 1991، إلى القانون رقم 73 لسنة 1973 المشار إليه في شأن تحديد الشروط التي يجب توافرها فمن ينتخب ممثلاً عن العاملين في مجلس إدارة الوحدة الاقتصادية التابعة لشركة قابضة، بما مؤاده أن من ينتخب ممثلاً عن العمال لعضوية مجلس إدارة شركة قطاع الأعمال العام، لا يجوز أن يكون من شاغلي وظائف الإدارة العليا.
2 – دستور “الرقابة على الشرعية الدستورية” “مفترضاتها”.
تفترض الرقابة على الشرعية الدستورية دستوراً مدوناً جامداً، تتصدر أحكامه القواعد القانونية الأدنى مرتبة، وتعلوها.
3 – دستور “القيود التي فرضها على السلطتين التشريعية والتنفيذية” “علتها”.
تتوخى هذه الحقوق أساساً صون الحقوق والحريات العامة على اختلافها بما يحول دون اقتحام إحداهما للمنطقة التي يحميها الحق والحرية، ويعطل فاعلية ممارستها.
4 – دعوى دستورية “نطاق المسائل الدستورية التي تطرحها” “أسس تحديدها”.
يتحدد نطاق المسائل التي تطرحها الدعوى الدستورية، من خلال النظر إلى مختلف العناصر التي يتألف منها موضوعها ومن ثم تتحدد دستورية النص المطعون فيه – ممثلاً في حق شاغلي وظائف الإدارة العليا في تمثيل العمال داخل مجلس إدارة الوحدة الاقتصادية – على ضوء أحكام المواد 26 و40 و47 و54 و55 و62 من الدستور.
5 – دستور “الفقرة/ 2 من المادة 26 منه” “عموم عباراتها” “مؤاده”.
الأصل في عبارة النص، أن تحمل على عمومها ما لم يقم دليل على تخصيصها، فإذا خصص العام بغير دليل، كان ذلك تأويلاً غير مقبول. متى كان ذلك وكانت الفقرة الثانية من المادة 26 من الدستور تنص على أن يكون تمثيل العمال في مجلس إدارة وحدات القطاع العام في حدود 50% من عدد أعضاء هذه المجالس، فإن مؤدى هذه العبارة انصرافها إلى كل مشروع اقتصادي عام أيا كانت الإغراض التي يتوخاها، وانسحابها إلى من يعملون فيه، أياً كان موقعهم، أو درجتهم الوظيفية.
6 – دستور “نص المادة 26 منه” “ضرورة على مقاصدها”.
الأصل في النصوص القانونية هو ألا تحمل على غير مقاصدها، وإلا تفسر بما يخرجها عن معناها أو يفصلها عن سياقها. والقول بأن الفقرة الأولى من المادة 26 من الدستور لا ينسحب حكمها إلى العمال من شاغلي وظائف الإدارة العليا، يعني حرمان من يتولون هذه الوظائف من نصيبهم في الأرباح، وهو ما لم يقل به أحد.
7 – دستور “حقا الاقتراع والترشيح” “ارتباطهما”.
يملك العاملون في وحداتهم الإنتاجية ووفقاً للدستور، حق الاقتراع لاختيار من يمثلونهم ويدافعون عن مصالحهم في مجالس إداراتهما. ومن غير المفهوم أن يقف الدستور من حقهم في الترشيح موقفاً مختلفاً بأن يمنعهم منه إذا كانوا شاغلين لوظيفة بعينها في وحداتهم الإنتاجية، حال أن المركز الأعلى لوظيفة بعينها، منبت الصلة بالشروط الموضوعية التي يتطلبها التمثيل في مجالس إدارتها.
8 – دستور “حرية التعبير” “هي الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها”.
كفل الدستور حرية التعبير عن الآراء والتمكين من عرضها ونشرها بمختلف وسائل التعبير باعتبارها الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها، وبها يكون الأفراد أحراراً لا يتهيبون موقفاً ولا يترددون وجلاً، ولا ينصفون لغير الحق طريقاً.
9 – دستور “حرية التعبير” “أهدافها”.
قصد الدستور من خلال ضمان حرية التعبير، أن يظهر ضوء الحقيقة جلياً ولا يكون ذلك إلا عن طريق اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض، وقوفاً على ما يكون منها زائفاً أو صائباً، منطوياً على مخاطر واضحة، أو محققاً لمصلحة مبتغاة.
10 – دستور “حرية التعبير” “حرية الصحافة إحدى صورها الأكثر أهمية والأبعد أثراً”.
أرسى الدستور القاعدة العامة في حرية التعبير بنص المادة 27، ثم زاوجها بحرية الصحافة ليحول دون التدخل في شئونها من خلال القيود التي ترهق رسالتها، أو تعطل خدماتها في بناء مجتمعاتها وتطويرها، وليؤمن من خلالها أفضل الفرص التي تكفل تدفق الأنباء والأفكار ونقلها إلى القطاع الأعرض من الجماهير، وعلى الأخص من خلال نشر كل مطبوع يكون من أدوتها.
11 – دستور “حرية التعبير” “تعزيزها بضمان حرية إجراء البحوث العلمية”.
الأصل في البحوث العلمية – التي كفل الدستور حرية إجرائها وإنمائها – أن تكون جهداً فردياً، ولا تكمن قيمتها في إطرائها، ولكن فيما يمكن أن يكون انتقاداً لنتائجها، وتصويباً لأخطائها.
12 – دستور “حرية التعبير” “اتصالها بالشئون العامة، وعرضها لأوضاعها، وانتقاداً أعمال القائمين عليها”.
حرية التعبير أبلغ ما تكون أثراً في مجال اتصالها بالشئون العامة، وعرض أوضاعها، تبياناً لنواحي التقصير فيها، وتقويما لاعوجاجها.
13 – دستور “حرية التعبير” “صور تهديدها”.
لعل أكثر ما يهدد حرية التعبير أن يكون الإيمان بها شكلياً أو سلبياً، ولا يجوز كذلك أن تتدخل الدولة بالعقوبات التي تفرضها لردع المواطنين عن ممارستها أو بفرض قيود مسبقة على نشر الآراء والأفكار، تحول دون تدفقها دون مسوغ، بل يجب أن يكون الإصرار عليها، قبولاً بتبعاتها، وألا يفرض أحد على غيره صمتاً مستنداً في ذلك إلى قوة القانون.
14 – دستور “حرية التعبير” “هي الأصل في كل نظام ديمقراطي”.
حرية التعبير التي كفلها الدستور هي القاعدة في كل تنظيم ديمقراطي لا يقوم إلا بها، ذلك أن ما يميز الوثيقة الدستورية، هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها ولا يفرضها إلا الناخبون.
15 – دستور “الحق في التجمع” “معناه” “اتصال هذا الحق بحرية عرض الآراء وتداولها”.
الحق في التجمع – بما يقوم عليه من انضمام عدد من الأشخاص إلى بعضهم لتبادل وجهات النظر في شأن المسائل التي تعنيهم – أكثر ما يكون اتصالاً بحرية عرض الآراء وتداولها، كلما أقام أشخاص يؤيدون موقفاً معيناً، تجمعاً منظماً يحتويهم، يوظفون فيه خبراتهم ويطرحون آمالهم، ويعرضون كذلك لمصالحهم.
16 – دستور “الحق في التجمع” “انكاره: مؤداه”.
تفقد حرية التعبير قيمتها إذا حجب المشرع حق من يلوذ بها في الاجتماع المنظم، وحال بذلك دون تبادل الآراء في دائرة أعرض. كذلك فإن هدم حرية الاجتماع، يقوض الأسس التي لا يقوم بدونها نظام للحكم يكون مستنداً إلى الإرادة الشعبية.
17 – دستور “حق الترشيح” “الحرمان من فرص الترشيح دون أسس موضوعية: أثره”.
حق الاقتراع والتشريح متكاملان، ولا يجوز أن تفرض على أيهما تلك القيود التي لا تتصل بتكامل العملية الانتخابية وضمان مصداقيتها، أو بما يكون كافلاً إنصافها وتدفق الحقائق الموضوعية المتعلقة بها.
18 – دستور “الحق في التجمع” “تقييده بما يؤثر في اتساع قاعدة الاختيار بين المرشحين: أثره”.
حق الناخبين في الاجتماع مؤداه، ألا تكون الحملة الانتخابية محدودة آفاقها، بما يضيق من فرض الناخبين التي يفاضلون من خلالها بين عدد أكثر من المرشحين.
19 – دستور “العملية الانتخابية” “لا يجوز أن يعطل تنظيمها حقوقاً كفلها الدستور كحرية التعبير”.
لا يجوز التذرع بتنظيم العملية الانتخابية للحد من حرية التعبير التي تتوخي أن توفر لهيئة الناخبين، الحقائق التي تعينها على تحديد موقفهم من المرشحين الذين يريدون الظفر بثقتها، من خلال تعريفها بأحقيتهم في الدفاع عن مطالبهم.
20 – دستور “النص المطعون فيه” “القيود التي يفرضها على حرية التعبير وحق التجمع”.
أعاق النص المطعون فيه الشاغلين لوظائف الإدارة العليا بالوحدة الاقتصادية، من نشر الأفكار والآراء التي يؤمنون بها ونقل رسالتهم إلى هيئة الناخبين التي لا يجوز فرض الوصاية عليها أو بعثرة تكتلاتها، ولا أن يحرم أفرادها، أو فئة من بينهم – لها توجهها الخاص – من أن تكون تجمعاتهم طريقاً إلى بلورة أفكارهم وتحديد مطالبهم.
21 – دستور “مبدأ المساواة أمام القانون” “الأغراض التي يتوخاها”.
هذا المبدأ أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي, ويتوخى صون حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها.
22 – دستور “مبدأ المساواة أمام القانون” “صور التمييز المنهي عنها دستورياً”.
من المقرر أن صور التمييز المجافية للدستور وإن تعذر حصرها, إلا أن قوامها كل تفرقة، أو تقييد، أو تفضيل, أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور, أو القانون سواء بإنكار أصل وجودها أو بتعطيل أو انتقاص آثارها, بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانوناً للانتفاع بها.
23 – دستور “النص المطعون فيه” “إخلال هذا النص بحرية التعبير وحق الاجتماع ومبدأ المساواة أمام القانون”.
يناقض النص المطعون فيه المادة 26 من الدستور, ويخل كذلك بحرية التعبير، وحق الاجتماع، وحق الاقتراع المنصوص عليها في المواد 47 و54 و55 و62 من الدستور.
1 – تنص المادة الثانية من القانون رقم 73 لسنة 1973 بشأن تحديد شروط وإجراءات انتخاب ممثلي العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام, والشركات المساهمة والجمعيات والمؤسسات الخاصة, على أنه “يشترط فيمن يرشح لعضوية مجلس الإدارة أن تتوافر فيه عند الترشيح الشروط الآتية…………
(6) ألا يكون من شاغلي وظائف الإدارة العليا,……….
ومتى كان ذلك, وكان البين من كل من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991, والقانون رقم 73 لسنة 1973 المشار إليهما, أن أولهما أحال إلى ثانيهما في شأن تحديد الشروط التي يتعين توافرها فيمن ينتخب ممثلاً عن العاملين في مجلس إدارة الوحدة الاقتصادية التي تتبع الشركة القابضة, ومن بينها ألا يكون أحد من هؤلاء شاغلاً لوظيفة بالإدارة العليا. متى كان ذلك, وكان القانون رقم 73، لسنة 1973 معمولاً به عند نفاذ قانون شركات قطاع الأعمال العام, وكانت اللائحة التنفيذية لهذا القانون الصادرة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1590 لسنة 1991 قد نصت – ترديداً من جانبها للأحكام ذاتها التي تضمنها ذلك القانون – على أن ينتخب العاملون في الشركة من بينهم أعضاء غير متفرغين بمجلس الإدارة طبقاً للقانون رقم 73 لسنة 1973 المشار إليه, فإن الأحكام المحال إليها, تندمج في قانون شركات قطاع الأعمال العام, وتشكل – بقدر اتصالها بالنزاع الموضوعي – النص التشريعي المطعون عليه بعدم الدستورية. متى كان ذلك وكان المدعي – باعتباره شاغلاً لوظيفة بالإدارة العليا – قد حرم من الترشيح لعضوية مجلس إدارة الشركة التي يعمل بها إعمالاً للبند السادس من القانون رقم 73 لسنة 1973 المحال إليه بمقتضى نص المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام, فإن الطعن بعدم الدستورية ينحصر فيما تضمنه هذا البند – مندمجاً في قانون شركات قطاع الأعمال العام – من حظر ترشيح شاغلي وظائف الإدارة العليا لعضوية مجلس إدارة شركة قطاع الأعمال العام.
2 – تفترض الرقابة على الشرعية الدستورية دستوراً مدوناً جامداً تتصدر أحكامه القواعد القانونية الأدنى مرتبة منها وتعلوها. ذلك أن الدستور – إذا كان تقدمياً – يمثل ضمانة رئيسية لإنفاذ الإرادة الشعبية في توجهها نحو مثلها الأعلى، بوجه خاص في مجال إرسائها نظاماً للحكم لا يقوم على التسلط في إطار التسلط على مقاليد الأمور، انفراداً بها، واحتكاراً لها، بل يعمل على توزيع السلطة في إطار ديمقراطي بين الأفرع المختلفة التي تباشرها بما يكفل توازنها وتبادل الرقابة فيما بينها, وكان الأصل في الدستور – بالنصوص التي يتضمنها – أن يكون ملتزماً إرادة الجماهير, معبراً عن طموحاتها، مقرراً مسئولية القائمين بالعمل العام أمامها, مبلوراً لطاقاتها وملكاتها, كاشفاً عن الضوابط والقيود التي تحول دون اقتحام الحدود التي تؤمن فعالية حقوقها وحرياتها, رادعاً بالجزاء كل إخلال بها أو نكول عنها, وكان الدستور فوق هذا يرعى مصالح الجماعة بما يصون مقوماتها, ويكفل إنماء القيم التي ارتضتها, بالغاً من خلال ضمانها ما يكون محققاً للتضامن بين أفرادها, نابذاً انغلاقها، مقيماً حرية الإبداع على دعائمها, فقد غدا من الحتم أن تعامل الوثيقة الدستورية بوصفها تعبيراً عن آمال متجددة ينبض واقعها بالحياة، لتعمل من أجل تطوير مظاهرها في بيئة بذاتها, متخذة من الخضوع للقانون إطاراً لها, ولا مناص من الرجوع إليها تغليباً لأحكامها, ولأن الشرعية الدستورية في نطاقها هي التي تكفل ارتكاز السلطة على الإرادة العامة, وتقوم اعوجاجها بما يعزز الأسس التي تنهض بها الجماعة، ويمهد الطريق لتقدمها.
3 – حرص الدستور على أن يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود ما ارتآه كفيلاً بصون الحقوق والحريات العامة على اختلافها, ليحول دون اقتحام إحداهما المنطقة التي يحميها الحق أو الحرية بما يعطل فعالية ممارستها. ولقد كان تطوير هذه الحقوق وتلك الحريات، وإنماؤها، من خلال الجهود المتواصلة الساعية لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة, مطلباً أساسياً توكيداً لقيمتها الاجتماعية, وتقديراً لدورها في مجال إشباع المصالح الحيوية المرتبطة بها, لردع كل محاولة للعدوان عليها.
4 – إذ نص الدستور في المادة 26 منه، على أن يكون للعاملين في المشروعات حق الاشتراك في إدارتها ونصيب في أرباحها, وكان المشرع قد استعان بقانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991، عن قانون هيئات قطاع العام وشركاته الصادر بالقانون رقم 97 لسنة 1983، لتحل الشركات القابضة محل هيئات القطاع العام, والشركات التابعة محل الشركات التي كانت هذه الهيئات تباشر إشرافها عليها, وكان القانون الأول قد خول مجلس إدارة الشركة التابعة – وفيما خلا ما يدخل من المسائل في اختصاص جمعيتها العمومية – السلطة العليا التي تهيمن بها على شئونها, باعتبارها جهة الاختصاص بتصريفها, وكذلك تقرير سياستها العامة, وتحديد الوسائل اللازمة لتحقيقها، وإدارة محفظة أوراقها المالية, والقيام بكافة الأعمال اللازمة لتصحيح هياكلها التمويلية إلى غير ذلك مما يتصل بأغراضها, وكان الدستور من خلال ضمان حق العاملين في الإسهام في إدارة الوحدة الاقتصادية التي ينتمون إليها, قد كفل حقهم في الاجتماع داخل مجلس إدارتها, باعتباره تنظيماً يتبادلون فيه الآراء مع غيرهم من أعضاء المجلس حول مختلف شئونها, بما في ذلك تقييم ممارساتها, وانتقاد رؤسائهم وقياداتهم، إرساء للديمقراطية, وتثبيتاً لأسسها التي لا تكتمل دعائمها بغير حق الاقتراع، تُباشره القاعدة الأعرض من العاملين, التي تمنح ثقتها لعدد من بينهم تراه أكثر تعبيراً عن مصالحها, وأصلب عوداً في الدفاع عنها. إذ كان ما تقدم، فإن الفصل في دستورية النص المطعون عليه, يتحدد على ضوء أحكام المواد 26, 40, 47, 54, 55, 62 من الدستور، ذلك أن الإخلال بأيها, عدوان عليها، واقتحام لمجالاتها الحيوية التي لا تقوم إلا بها.
5 – تنص الفقرة الأولى من المادة 26 من الدستور على أن “للعاملين نصيباً في إدارة المشروعات وفي أرباحها, ويلتزمون بتنمية الإنتاج وتنفيذ الخطة في وحداتهم الإنتاجية وفقاً للقانون…….” كما تقتضي فقرتها الثانية بأن “يكون تمثيل العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام في حدود خمسين في المائة من عدد أعضاء هذه المجالس……..” والقول بأن الفقرة الثانية من المادة 26 المشار إليها تُخصص بحكمها نص فقرتها الأولى, وتُورد قيداً عليها, مؤداه أن العاملين في الوحدة الاقتصادية لا يملكون جميعهم حق التمثيل في مجلس إدارتها, وإنما يقتصر هذا الحق على فئة من بينهم هم الذين يصدق عليهم مصطلح “العمال” وهو أضيق نطاقاً من مصطلح “العاملين”، ويقابل في الوحدة الاقتصادية الإنتاجية موظفيها الإداريين. وتفسير الفقرة الأولى من المادة 26 من الدستور على هذا النحو، مردود بما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا من أن الأصل في عبارة النص هو أن تحمل على عمومها ما لم يقم دليل على تخصيصها، فإذا خصص العام بغير دليل, كان ذلك تأويلاً غير مقبول, وكان عموم عبارة النص يفيد استغراقها لكل أفرادها، واشتمالها بالتالي على المخاطبين بها, فلا تختص فئة من بينهم بحكمها، وكان عموم العبارة التي أفرغها الدستور فيها نص الفقرة الأولى من المادة 26 منه, مؤداه انصرافها إلى كل مشروع اقتصادي عام أياً كانت الأغراض التي يتوخاها, وانسحابها إلى من يعملون فيه دون تخصيص أياً كان موقعهم أو درجتهم الوظيفية, فإن هذه الفقرة تدل بخطابها على اتساعها لكل العاملين في هذا المشروع. يؤيد ذلك أن الدستور قابل الحقوق التي كفلها لهؤلاء العاملين, بواجباتهم في مجال الإسهام في تنفيذ الخطة الاقتصادية والاجتماعية داخل وحداتهم الإنتاجية, وتنمية الإنتاج فيها. وجميعها واجبات لا تنحصر مسئولية الاضطلاع بها في فئة من العاملين دون أخرى.
6 – الأصل في النصوص القانونية هو ألا تحمل على غير مقاصدها, وإلا تفسر عباراتها بما يخرجها عن معناها أو يفصلها عن سياقها أو يعتبر تشويهاً لها. ولو صح القول بان الفقرة الأولى من المادة 26 من الدستور مقصور حكمها على فئة من العاملين, هم العمال الذين لا يشغلون في وحداتهم وظيفة من وظائف الإدارة العليا, لحُرِم من يتولون هذه الوظائف من نصيبهم في الأرباح, وهو ما لم يقل به أحد. ولا يتصور أن يكون الدستور قد قصد إليه. يؤيد ذلك أن استقراء القوانين المتعاقبة التي نظم بها المشرع شئون العاملين بالقطاع العام, يدل على تعلقها بمن يعملون في وحداته الاقتصادية دون تمييز بين أوضاعهم الوظيفية.
يؤيد ذلك أمران: أولهما أن الدستور قرر بالفقرة الأولى من المادة 26 منه, مبدأ عاماً كفل به للعاملين في تلك المشروعات حقاً في إدارتها وفي أرباحها. ولا يتصور – وقد جرى هذا المبدأ على إطلاق لا تقييد فيه – أن تكون فقرتها الثانية قيداً عليه. ثانيهما أن الدستور, إذ نص في المواد 86, 162, 196 منه على أن يكون النصف على الأقل من الأعضاء المنتخبين في مجلس الشعب, أو في المجالس الشعبية المحلية, أو في مجلس الشورى من العمال والفلاحين، فقد قصد بذلك أن يكفل لفئتين – قَدَّر ضعفهما في البنيان الاجتماعي – الحد الأدنى من الحقوق التي تصور ضرورتها لتأمين مصالحها في المجالس ذات الصفة التمثيلية. ومن ثم كان منطقياً أن يفوض الدستور المشرع في بيان الشروط التي يحدد بها من يعتبر وفقاً لأحكامها عاملاً أو فلاحاً. ولا كذلك نص المادة 26 من الدستور التي خلت من تفويض المشرع في شأن بيان نطاق تطبيقها, بما مؤداه أن المقصود بالعاملين المشار إليهم فيها, هم هؤلاء الذين يباشرون عملاً دائماً في مشروع عام من خلال الوظيفة التي يشغلونها فيه, وذلك أياً كانت طبيعة عملهم أو الأهمية التي بلغها. وما قصد إليه الدستور حقاً بنص المادة 26، هو أن يكفل للعاملين في وحداتهم الإنتاجية دوراً ملحوظاً في إدارتها, مع الحصول على حصة في أرباحها، متوخياً بذلك حفزهم على تنمية إنتاجها. ولا يتصور أن يكون استبعاد من يشغلون وظيفة بإدارتها العليا من مجال أعمال هذين الحقين أو أحدهما، لازماً لاستيفاء التنمية لمتطلباتها.
7 – إن العاملين في وحداتهم الإنتاجية يملكون جميعهم وفقاً للدستور حق الاقتراع لاختيار من يمثلونهم ويدافعون عن مصالحهم في مجالس إدارتها, ومن غير المفهوم أن يقف الدستور من حقهم في الترشيح لهذه المجالس موقفاً مختلفاً بأن يمنعهم منه إذا كانوا شاغلين لوظيفة بعينها في وحدتهم الإنتاجية, حال أن المركز الأعلى لوظيفة بعينها, منبت الصلة بالشروط الموضوعية التي يتطلبها التمثيل في مجلس إدارتها.
يؤيد ذلك أن كلمة “العمال” التي تضمنتها الفقرة الثانية من المادة 26 من الدستور قد وردت دون تحديد لمضمونها. ولو كان الدستور قد قصد أن يكون معناها منصرفاً لغير العاملين المشار إليهم بفقرتها الأولى, لأحال – تعريفاً بها وتجلية لمحتواها – إلى أداة أدنى.
كذلك فإن ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 26 من الدستور من أن يكون تمثيل العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام في حدود 50% من عدد أعضاء هذه المجالس، يفيد بالضرورة انصرافها إلى من يعملون في شركات تملك الدولة رأس مالها أو غالبية أسهمها. وإذ كانت القوانين التي نظم بها المشرع أوضاع العاملين فيها, لا تقيم – في مجال علاقة العمل التي تربطهم بها – تمييزاً بين فئاتهم, بل كان خطابها قاطعاً في أن كل من يقوم بعمل دائم فيها لقاء أجر, يعد عاملاً بها ولو تدرج في مناصبها إلى أعلاها, فقد تعين حمل الفقرة الثانية من المادة 26 من الدستور, على فقرتها الأولى – في مجال كفالتها لحق العاملين في الإسهام في إدارة الوحدة الاقتصادية – باعتبارهما مترابطتين.
8 – إن ضمان الدستور – بنص المادة 47 منه – لحرية التعبير عن الآراء والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول أو التصوير أو بطباعتها أو بتدوينها وغير ذلك من وسائل التعبير, قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها، وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها, ولا تكون لا من فائدة, وبها يكون الأفراد أحراراً لا يتهيبون موقفاً، ولا يترددون وجلاً، ولا ينتصفون لغير الحق طريقاً.
9 – ما توخاه الدستور من خلال ضمان حرية التعبير, هو أن يكون التماس الآراء والأفكار, وتلقيها عن الغير ونقلها إليه, غير مقيد بالحدود الإقليمية على اختلافها ولا منحصر في مصادر بذواتها تعد من قنواتها, بل قصد أن تترامي آفاقها، وأن تتعدد مواردها وأدواتها, وأن تنفتح مسالكها, وتفيض منابعها Marketplace of ideas) (Free trade in ideas))، ولا يحول دون ذلك قيد يكون عاصفاً بها, مقتحماً دروبها, ذلك أن لحرية التعبير أهدافاً لا تريم عنها, ولا يتصور أن تسعى لسواها, هي أن يظهر من خلالها ضوء الحقيقة جلياً، فلا يُداخل الباطل بعض عناصرها، ولا يعتريها بهتان ينال من محتواها. ولا يتصور أن يتم ذلك إلا من خلال اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض, وقوفاً على ما يكون منها زائفاً أو صائباً، منطوياً على مخاطر واضحة، أو محققاً لمصلحة مبتغاة. ولازم ذلك أن الدستور لا يرمي من وراء ضمان حرية التعبير, أن تكون مدخلاً إلى توافق عام, بل تغياً بضمانها, أن يكون كافلاً لتعدد الآراء Plueality of Opinions وإرسائها على قاعدة من حيدة المعلومات Neutrality of Information ليكون ضوء الحقيقة مناراً لكل عمل, ومحدداً لكل اتجاه.
10 – إن الدستور بعد أرسى القاعدة العامة التي تقوم عليها حرية التعبير بنص المادة 47، حرص على أن يزاوجها ويكملها بإحدى صورها الأكثر أهمية والأبلغ أثراً، فكفل للصحافة حريتها كأصل عام ليحول دون التدخل في شئونها من خلال القيود التي ترهق رسالتها, أو تعطل خدماتها في بناء مجتمعاتها وتطويرها، وليؤمن من خلالها أفضل الفرص التي تكفل تدفق الأنباء والآراء والأفكار ونقلها إلى القطاع الأعرض من الجماهير, وبوجه خاص بنشر كل مطبوع يكون من أدواتها A Vehicle of Information and Opinion، ولئن كان الدستور قد أجاز فرض رقابة محدودة عليها, فذلك في الأحوال الاستثنائية, ولمواجهة تلك المخاطر الداهمة التي حددتها المادة 48 من الدستور.
11 – عزز الدستور حرية التعبير, بتلك التي يقتضيها إجراء البحوث العلمية وإنمائها على تباين مناهجها وأنماطها, باعتبار أن هذه البحوث وإن كان أصلها جهداً فردياً، إلا أن قيمتها لا تكمن في إطرائها, ولكن فيما يمكن أن يكون انتقاداً لنتائجها, وتصويباً لأخطائها. ثم قرن الدستور هاتين الحريتين بالإبداع فنياً وثقافياً، وتوكيداً لقيم الحق والخير والجمال ودون إخلال بوسائل تشجيعها, وأكمل حلقاتها حين يخول كل فرد – بنص المادة 63 – أن يتقدم بظلاماته إلى السلطات العامة التي يكون بيدها رد ما وقع عليه من الأعمال الجائرة, والتعويض عن آثارها, على أساس من الحق والعدل.
12 – أن حرية التعبير التي تؤمنها المادة 47 من الدستور, أبلغ ما تكون أثراً في مجال اتصالها بالشئون العامة, وعرض أوضاعها تبياناً لنواحي التقصير فيها, وتقويماً لاعوجاجها, وكان حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها, ليس معلقاً على صحتها, ولا مرتبطاً بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها, ولا بالفائدة العملية التي يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير, أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة في أعماق منابتها, بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام Public Mind, فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه، ولا عائقاً دون تدفقها.
13 – من المقرر كذلك أن حرية التعبير, وتفاعل الآراء التي تتولد عنها, لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها, أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخى قمعها, بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها – وعلانية – تلك الأفكار التي تجول في عقولهم, فلا يتهامسون بها نجياً، بل يطرحونها عزماً – ولو عارضتها السلطة العامة – إحداثاً من جانبهم – وبالوسائل السلمية – لتغيير قد يكون مطلوباً. فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكناً في غيبة حرية التعبير. كذلك فإن الذين يعتصمون بنص المادة 47 من الدستور, لا يملكون مجرد الدفاع عن القضايا التي يؤمنون بها, بل كذلك اختيار الوسائل التي يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء في مجال عرضها أو نشرها, ولو كان بوسعهم إحلال غيرها من البدائل لترويجها. ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير أن يكون الإيمان بها شكلياً أو سلبياً، بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولاً بتبعاتها, وألا يفرض أحد على غيره صمتاً ولو بقوة القانون Enforced Silence ذلك أن عدوان الدولة عليها بما يعطلها أو يقلصها، يولد الفزع منها, ولن يثير بطشها إلا الإعراض عنها. واقتحامها لها يباعد بينها وبين مواطنيها وقد يُغريهم بعصيانها, ولا يعدو أن يكون إهداراً لسلطان العقل, وتغييباً ليقظة الضمير.
14 – حرية التعبير التي كفلها الدستور, هي القاعدة في كل تنظيم ديمقراطي, لا يقوم إلا بها, ذلك أن أهم ما يميز الوثيقة الدستورية ويحدد ملامحها الرئيسية, هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها ولا يفرضها إلا الناخبون. وكلما أعاق القائمون بالعمل العام أبعاد هذه الحرية, كان ذلك من جانبهم هدماً للديمقراطية في محتواها المقرر دستورياً، وإنكاراً لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها, فلا يعطل مضمونها أحد, ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها.
وما الحق في الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشئون العامة, الحريصين على متابعة جوانبها, وتقرير موقفهم من سلبياتها, إلا فرعاً من حرية التعبير, ونتاجاً لها.
15 – الحق في التجمع – بما يقوم عليه من انضمام عدد من الأشخاص إلى بعضهم لتبادل وجهات النظر في شأن المسائل التي تعنيهم – من الحقوق التي كفلتها المادتان 54, 55 من الدستور, وذلك سواء نظرنا إليه باعتباره حقاً مستقلاً عن غيره من الحقوق, أم على تقدير أن حرية التعبير تشتمل عليه باعتباره كافلاً لأهم قنواتها, محققاً من خلالها أهدافها.
وهذا الحق – وسواء أكان حقاً أصيلاً أم تابعاً – أكثر ما يكون اتصالاً بحرية عرض الآراء وتداولها كلما أقام أشخاص يؤيدون موقفاً أو اتجاهاً معيناً، تجمعاً منظماً Ordered Assemblage يحتويهم, يوظفون فيه خبراتهم ويطرحون أمالهم, ويعرضون فيه كذلك لمصاعبهم, ويتناولون بالحوار ما يؤرقهم، ليكون هذا التجمع نافذة يطلون منها على ما يعتمل في نفوسهم, صورة حية لشكل من أشكال التفكير الجماعي Collective Thinking، وكان تكوين بنيان كل تجمع – وسواء أكان الغرض منه سياسياً أو نقابياً أو مهنياً – لا يعدو أن يكون عملاً اختيارياً لا يساق الداخلون فيه سوقاً، ولا يمنعون من الخروج منه قهراً وهو في محتواه لا يتمحض عن مجرد الاجتماع بين أشخاص متباعدين ينعزلون عن بعضهم البعض, بل يرمي بالوسائل السلمية إلى أن يكون إطاراً يضمهم، ويعبرون فيه عن مواقفهم وتوجهاتهم. ومن ثم كان هذا الحق متداخلاً مع حرية التعبير؛ ومكوناً لأحد عناصر الحرية الشخصية التي لا يجوز تقييدها بغير إتباع الوسائل الموضوعية والإجرائية التي يتطلبها الدستور أو يكفلها القانون؛ واقعاً عند البعض في نطاق الحدود التي يفرضها صون خواص حياتهم وأعماق حرمتها بما يحول دون اقتحام أغوارها أو تعقبها لغير مصلحة جوهرية لها معينها؛ لازماً اقتضاء ولم يرد بشأنه نص في الدستور؛ كافلاً للحقوق التي أحصاها ضماناتها, محققاً فعاليتها؛ سابقاً على وجود الدساتير ذاتها مرتبطاً بالمدنية في مختلف مراحل تطورها؛ كامناً في النفس البشرية تدعو إليه فطرتها؛ وهو فوق هذا من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها.
16 – حرية التعبير ذاتها تفقد قيمتها إذا جحد المشرع حق من يلوذون بها في الاجتماع المنظم, وحجب بذلك تبادل الآراء في دائرة أعرض, بما يحول دون تفاعلها وتصحيح بعضها لبعض, ويعطل تدقق الحقائق التي تتصل باتخاذ القرار، ويعوق انسياب روافد تشكيل الشخصية الإنسانية التي لا يمكن تنميتها إلا في شكل من أشكال الاجتماع, ذلك أن الانعزال عن الآخرين، يؤول إلى استعلاء وجهة النظر الفردية وتسلطها, ولو كان أفقها ضيقاً Narrowness أو كان عمقها، أو تحزبها One – Sidedness بادياً.
كذلك فإن هدم حرية الاجتماع، إنما يقوض الأسس التي لا يقوم بدونها نظام للحكم يكون مستنداً على الإدارة الشعبية. ولا تكون الديمقراطية فيه بديلاً مؤقتاً أو إجماعاً زائفاً، أو تصالحاً مرحلياً لتهدئة الخواطر, بل شكلاً مثالياً لتنظيم العمل الحكومي وإرساء قواعده. ولازم ذلك امتناع تقييد حرية الاجتماع إلا وفق القانون, وفي الحدود التي تتسامح فيها النظم الديمقراطية، وترتضيها القيم التي تدعو إليها.
17 – من المقرر كذلك أن حق المرشحين في الفوز بعضوية المجالس التي كفل الدستور أو المشرع صفتها التمثيلية, لا ينفصل عن حق الناخبين في الإدلاء بأصواتهم لاختيار من يثقون فيه من بينهم. ذلك أن هذين الحقين مرتبطان, ويتبادلان التأثير فيما بينهما, ولا يجوز بالتالي أن تفرض على مباشرة أيهما تلك القيود التي لا تتصل بتكامل العملية الانتخابية وضمان مصداقيتها Integrity and Reliability of the Electoral Process, أو بما يكون كافلاً إنصافها وتدفق الحقائق الموضوعية المتعلقة بها, بل يجب أن تتوافر لها بوجه عام أسس ضبطها, بما يصون حيدتها ويحقق الفرص المتكافئة بين المتزاحمين عليها.
ومن ثم تقع هذه القيود في حمأة المخالفة الدستورية إذا كان مضمونها وهدفها مجرد حرمان فئة من العاملين في الوحدة الاقتصادية – ودون أسس موضوعية – من فرص الترشيح لعضوية مجلس إدارتها. ذلك أن أثرها هو إبعاد هؤلاء عن العملية الانتخابية بأكملها, وبصورة نهائية, وحججهم بالتالي عن الإسهام فيها, بما مؤداه احتكار غرمائهم وسيطرتهم عليها دون منازع, وإنهاء حق المبعدين عنها في إدارة الحوار حول برامجهم وتوجيهاتهم. وهو ما يقلص من دائرة الاختيار التي يتيحها المشرع للناخبين, وبوجه خاص كلما كان المبعدون أدنى إلى ثقتهم، وأجدر بالدفاع عن حقوقهم.
بل إن القيم العليا لحرية التعبير – بما تقوم عليه من تنوع الآراء وتدفقها وتزاحمها – ينافيها ألا يكون الحوار المتصل بها فاعلاً ومفتوحاً، بل مقصوراً على فئة بذاتها من العاملين في الوحدة الاقتصادية، أو منحصراً في مسائل بذواتها لا يتعداها.
18 – حق الناخبين في الاجتماع، مؤداه ألا تكون الحملة الانتخابية – التي تعتبر قاعدة لتجمعاتهم وإطاراً يحددون من خلالها أولوياتهم – محدودة آفاقها تفضي إليه من تضاؤل فرصهم التي يفاضلون من خلالها بين عدد أكبر من المرشحين, وانتفاء من يكون من بينهم شريكاً معهم في أهدافهم Like – Minded Citizens قادراً على النضال من أجل تحقيقها.
19 – من المقرر أن حق تنظيم العملية الانتخابية سواء من حيث زمنها أو مكان إجرائها أو كيفية مباشرتها The Time Place and Manner of Elections لا يجوز أن ينال من الحقوق التي ربطها الدستور بها بما يعطل جوهرها.
كذلك لا يجوز التذرع بتنظيمها لتأمين مصالح جانبية محدودة أهميتها, ولا التدخل بالقيود التي يفرضها المشرع عليها للحد من حرية التعبير – وهي قاعدة التنظيم الانتخابي ومحوره – ذلك أن غايتها أن توفر لهيئة الناخبين الحقائق التي تعنيها على تحديد موقفها من المرشحين الذين يريدون الظفر بثقتها, من خلال تعريفها بأحقهم في الدفاع عن مطالبها، بمراعاة ملكاتهم وقدراتهم, لتكون مفاضلتها بينهم على أسس موضوعية لها ما يظاهرها، ووفق قناعتها بموقفهم من قضاياها, ومن ثم المسائل التي يدور حولها الجدل.
20 – إن النص المطعون عليه – بما حدده من شروط يتعين توافرها فيمن يرشح لعضوية مجلس إدارة الوحدة الاقتصادية – قد أعاق فئة بذاتها من العاملين – هم الشاغلون لوظيفة بإدارتها العليا – من نشر الأفكار والآراء التي يؤمنون بها والدفاع عن توجهاتهم, ونقل رسالتهم هذه إلى هيئة الناخبين التي لا يجوز فرض الوصاية عليها, ولا تعريضها لتأثير يؤول إلى تفككها أو اضطرابها أو بعثرة تكتلاتها, ولا أن تعاق قنواتها إلى الحقائق التي تريد النفاذ إليها, ولا حرمان أفرادها أو فئة من بينهم – لها توجهها الخاص – من أن تكون تجمعاتهم طريقاً إلى بلورة أفكارهم، وتحديد مطالبهم, إنفاذاً لإرادتهم من خلال أصواتهم التي لا يجوز تقييد فرص الإدلاء بها دون مقتض. متى كان ذلك, وكان من المقرر أن اتساع قاعدة الاختيار فيما بين المرشحين، ضمانة أساسية توفر لهيئة الناخبين ظروفاً أفضل تمنح من خلالها ثقتها لعناصر من بينهم تكون عندها أجدر بالدفاع عن مصالحها, فإن قاعدة الاختيار هذه – إذا ما حّد المشرع من نطاقها وضيق من دائرتها – تؤثر مآلا في حق الاقتراع, وتنال من فاعليته.
21 – إن الدساتير المصرية جميعها بدءاً بدستور سنة 1923، وانتهاء بالدستور القائم, رددت جميعها مبدأ المساواة أمام القانون De jure، وكلفت تطبيقه على المواطنين كافة باعتباره أساس العدل، والحرية، والسلام الاجتماعي، وعلى تقدير أن الغاية التي يستهدفها تتمثل أصلاً في صون حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها, وأضحى هذا المبدأ – في جوهره – وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التي لا يقتصر نطاق تطبيقها على الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور, بل يمتد مجال أعمالها كذلك, إلى تلك التي كفلها المشرع للمواطنين في حدود سلطته التقديرية, وعلى ضوء ما يرتئيه محققاً للمصلحة العامة.
22 – لئن نص الدستور في المادة 40 منه على حظر التمييز بين المواطنين في أحوال بعينها, هي تلك التي يقوم التمييز فيها على أساس الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، إلا أن إيراد الدستور لصور بذاتها يكون التمييز محظوراً فيها, مرده أنها الأكثر شيوعاً في الحياة العملية, ولا يدل البتة على انحصاره فيها, إذ لو صح ذلك لكان التمييز بين المواطنين فيما عداها جائزاً دستورياً، وهو ما يناقض المساواة التي كفلها الدستور, ويحول دون إرساء أسسها, وبلوغ غاياتها.
وآية ذلك أن صور التمييز التي أغفلتها المادة 40 من الدستور, ما لا يقل عن غيرها خطراً سواء من ناحية محتواها أو من جهة الآثار التي ترتبها، كالتمييز بين المواطنين في نطاق الحقوق التي يتمتعون بها, أو الحريات التي يمارسونها، لاعتبار مرده إلى مولدهم, أو مركزهم الاجتماعي, أو انتمائهم الطبقي, أو ميولهم الحزبية, أو نزعاتهم العرقية, أو عصبيتهم القبلية، أو إلى موقفهم من السلطة العامة, أو إعراضهم عن تنظيماتها، أو تبنيهم لأعمال بذاتها, وغير ذلك من أشكال التمييز التي لا تظاهرها أسس موضوعية تقيمها، وكان من المقرر أن صور التمييز المجافية للدستور وإن تعذر حصرها, إلا أن قوامها كل تفرقة, أو تقييد، أو تفضيل, أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق أو الحريات التي كفلها الدستور، أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانوناً للانتفاع بها, وبوجه خاص على صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغير ذلك من مظاهر الحياة العامة. متى كان ذلك, وكان النص المطعون عليه قد استبعد شاغلي وظائف الإدارة العليا بالوحدات الاقتصادية من فرص الترشيح التي كفلها لغيرهم من العاملين بها رغم تماثلهم جميعاً في مراكزهم القانونية, ودون أن يستند هذا التمييز إلى أسس موضوعية يقتضيها التمثيل في مجالس إداراتها, فإن هذا التمييز يكون تحكمياً ومنهياً عنه بنص المادة 40 من الدستور.
23 – إذ كان النص المطعون عليه, يناقض – بالصيغة التي أفرغها المشرع فيه, حكم المادة 26 من الدستور, ويخل كذلك بالحقوق التي كفلها في مجال حرية التعبير وحق الاجتماع وحق الاقتراع المنصوص عليها في المواد 47, 54, 55, 62 منه، وينتهك فوق هذا مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في المادة 40, فإن الحكم بعدم دستوريته يكون متعيناً.
الإجراءات
بتاريخ 8 يونيو سنة 1992 أودع المدعي قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة, طالباً الحكم بعدم دستورية نصي المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991، والبند السادس من المادة الثانية من القانون رقم 73 لسنة 1973 بشأن تحديد شروط وإجراءات انتخاب ممثلي العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام والشركات المساهمة والجمعيات والمؤسسات الخاصة.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى, أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة, وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق, والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعي – ويعمل مديراً عاماً للمشتريات بالشركة المدعي عليها – كان قد تقدم للترشيح لعضوية مجلس إدارتها كممثل للعاملين بها, إلا أن المدعي عليه الثالث رفض ذلك بمقولة أن هذا الترشيح محظور على شاغلي وظائف الإدارة العليا, مما حمل المدعي على أن يقيم أمام محكمة دمنهور الابتدائية، الدعوى رقم 14930 لسنة 1991 مدني كلي, بطلب الحكم بأحقيته في ذلك الترشيح. وأثناء نظر هذا النزاع، دفع بعدم دستورية نص البند ج من المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991، والبند السادس من المادة الثانية من القانون رقم 73 لسنة 1973, وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع, فقد أجلت نظر الدعوى, وصرحت للمدعي برفع الدعوى الدستورية, فأقامها.
وحيث إن المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام على ما يأتي “مع مراعاة أحكام المادة 4 من هذا القانون, يتولى إدارة الشركة التي يملك رأس مالها بأكمله شركة قابضة بمفردها أو بالاشتراك مع شركات قابضة أخرى أو أشخاص عامة أو بنوك القطاع العام, مجلس إدارة يعين لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد,…… ويتكون مجلس الإدارة من عدد فردي من الأعضاء لا يقل عن خمسة ولا يزيد عن تسعة بمن فيهم رئيس المجلس, على النحو التالي……. (ج) عدد من الأعضاء مماثل لعدد الأعضاء ذوي الخبرة, يتم انتخابهم من العاملين بالشركة طبقاً لأحكام القانون المنظم لذلك.
وتنص المادة الثانية من القانون رقم 73 لسنة 1973 بشأن تحديد شروط وإجراءات انتخاب ممثلي العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام, والشركات المساهمة والجمعيات والمؤسسات الخاصة, على أنه “يشترط فيمن يرشح لعضوية مجلس الإدارة أن تتوافر فيه عند الترشيح الشروط الآتية…… (6) ألا يكون من شاغلي وظائف الإدارة العليا,……
وحيث إن البين من كل من قانون الشركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991, والقانون رقم 73 لسنة 1973 المشار إليهما, أن أولهما أحال إلى ثانيهما في شأن تحديد الشروط التي يتعين توافرها فيمن ينتخب ممثلاً عن العاملين في مجلس إدارة الوحدة الاقتصادية التي تتبع الشركة القابضة, ومن بينها ألا يكون أحد من هؤلاء شاغلاً لوظيفة بالإدارة العليا. متى كان ذلك, وكان القانون رقم 73، معمولاً به عند نفاذ قانون شركات قطاع الأعمال العام, وكانت اللائحة التنفيذية لهذا القانون الصادرة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1590 لسنة 1991 قد نصت – ترديداً من جانبها للأحكام ذاتها التي تضمنها ذلك القانون – على أن ينتخب العاملون في الشركة من بينهم أعضاء غير متفرغين بمجلس الإدارة طبقاً للقانون رقم 73 لسنة 1973 المشار إليه, فإن الأحكام المحال إليها, تندمج في قانون شركات قطاع الأعمال العام, وتشكل – بقدر اتصالها بالنزاع الموضوعي – النص التشريعي المطعون عليه بعدم الدستورية. متى كان ذلك، وكان المدعي باعتباره شاغلاً لوظيفة بالإدارة العليا – قد حرم من الترشيح لعضوية مجلس إدارة الشركة التي يعمل بها إعمالاً للبند السادس من القانون رقم 73 لسنة 1973 المحال إليه بمقتضى نص المادة 21 من قانون شركات قطاع الأعمال العام, فإن الطعن بعدم الدستورية ينحصر فيما تضمنه هذا البند – مندمجاً في قانون شركات قطاع الأعمال العام – من حظر ترشيح شاغلي وظائف الإدارة العليا لعضوية مجلس إدارة شركة قطاع الأعمال العام.
وحيث إن الرقابة على الشرعية الدستورية تفترض دستوراً جامداً تتصدر ِأحكامه القواعد القانونية الأدنى مرتبة منها وتعلوها, ذلك أن الدستور – إذا كان تقدمياً – يمثل ضمانه رئيسية لإنفاذ الإرادة الشعبية في توجهها نحو مثلها الأعلى، وبوجه خاص في مجال إرسائها نظاماً للحكم لا يقوم على التسلط على مقاليد الأمور انفراداً بها، واحتكاراً لها، بل يعمل على توزيع السلطة في إطار ديمقراطي بين الأفرع المختلفة التي تباشرها بما يكفل توازنها وتبادل الرقابة فيما بينها, وكان الأصل في الدستور – بالنصوص التي يتضمنها – أن يكون ملتزماً إرادة الجماهير, معبراً عن طموحاتها، مقرراً مسئولية القائمين بالعمل العام أمامها, مبلوراً لطاقاتها وملكاتها, كاشفاً عن الضوابط والقيود التي تحول دون اقتحام الحدود التي تؤمن فعالية حقوقها وحرياتها, رادعاً بالجزاء كل إخلال بها أو نكول عنها, وكان الدستور فوق هذا يرعى مصالح الجماعة بما يصون مقوماتها, ويكفل إنماء القيم التي ارتضتها, بالغاً من خلال ضمانها ما يكون محققاً للتضامن بين أفرادها, نابذاً انغلاقها، مقيماً حرية الإبداع على دعائمها, فقد غدا من الحتم أن تعامل الوثيقة الدستورية بوصفها تعيراً عن آمال متجددة ينبض واقعها بالحياة، لتعمل من أجل تطوير مظاهرها في بيئة بذاتها, متخذة من الخضوع للقانون إطاراً لها, ولا مناص من الرجوع إليها تغليباً لأحكامها, ولأن الشرعية الدستورية في نطاقها هي التي تكفل ارتكاز السلطة على الإرادة العامة, وتقوم اعوجاجها بما يعزز الأسس التي تنهض بها الجماعة، ويمهد الطريق لتقدمها.
وحيث إن الدستور حرص على أن يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود ما ارتآه كفيلاً بصون الحقوق والحريات العامة على اختلافها, ليحول دون اقتحام إحداهما المنطقة التي يحميها الحق أو الحرية، بما يعطل فعالية ممارستها. ولقد كان تطوير هذه الحقوق وتلك الحريات، وإنماؤها، من خلال الجهود المتواصلة الساعية لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة, مطلباً أساسياً توكيداً لقيمها الاجتماعية, وتقديراً لدورها في مجال إشباع المصالح الحيوية المرتبطة بها, لردع كل محاولة للعدوان عليها.
وحيث إن الدستور قد نص في المادة 26 منه، على أن يكون للعاملين في المشروعات حق الاشتراك في إدارتها ونصيب في أرباحها, وكان المشرع قد استعان بقانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991، عن قانون هيئات قطاع العام وشركاته الصادر بالقانون رقم 97 لسنة 1983، لتحل الشركات القابضة محل هيئات القطاع العام, والشركات التابعة محل الشركات التي كانت هذه الهيئات تباشر إشرافها عليها, وكان القانون الأول قد خول مجلس إدارة الشركة التابعة – وفيما خلا ما يدخل من المسائل في اختصاص جمعيتها العمومية – السلطة العليا التي تهيمن بها على شئونها, باعتبارها جهة الاختصاص بتصريفها, وكذلك تقرير سياستها العامة, وتحديد الوسائل اللازمة لتحقيقها، وإدارة محفظة أوراقها المالية, والقيام بكافة الأعمال اللازمة لتصحيح هياكلها التمويلية إلى غير ذلك مما يتصل بأغراضها, وكان الدستور من خلال ضمان حق العاملين في الإسهام في إدارة الوحدة الاقتصادية التي ينتمون إليها, قد كفل حقهم في الاجتماع داخل مجلس إدارتها, باعتباره تنظيماً يتبادلون فيه الآراء مع غيرهم من أعضاء المجلس حول مختلف شئونها, بما في ذلك تقييم ممارساتها, وانتقاد رؤسائهم وقياداتهم، إرساء للديمقراطية, وتثبيتاً لأسسها التي لا تكفل دعائمها بغير حق الاقتراع، تُباشره القاعدة الأعرض من العاملين, التي تمنح ثقتها لعدد من بينهم تراه أكثر تعبيراً عن مصالحها, وأصلب عوداً في الدفاع عنها. إذ كان ما تقدم، فإن الفصل في دستورية النص المطعون عليه, يتحدد على ضوء أحكام المواد 26, 40, 47, 54, 55, 62 من الدستور، ذلك أن الإخلال بأيها, عدوان عليها، واقتحام لمجالاتها الحيوية التي لا تقوم إلا بها.
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة 26 من الدستور على أن “للعاملين نصيباً في إدارة المشروعات وفي أرباحها, ويلتزمون بتنمية الإنتاج وتنفيذ الخطة في وحداتهم الإنتاجية وفقاً للقانون……” كما تنص فقرتها الثانية على أن “يكون تمثيل العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام في حدود خمسين في المائة من عدد أعضاء هذه المجالس……..”.
وحيث إن هيئة قضايا الدولة ذهبت إلى القول بأن الفقرة الثانية من المادة 26 المشار إليها تُخصص بحكمها نص فقرتها الأولى, وتورد قيداً عليها, مؤداه أن العاملين في الوحدة الاقتصادية لا يملكون جميعهم حق التمثيل في مجلس إدارتها, وإنما يقتصر هذا الحق على فئة من بينهم هم الذين يصدق عليهم مصطلح “العمال” وهو أضيق نطاقاً من مصطلح “العاملين” ويقابل في الوحدة الاقتصادية الإنتاجية موظفيها الإداريين.
وحيث إن هذا الدفاع مردود أولاً بما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا من أن الأصل في عبارة النص هو أن تحمل على عمومها ما لم يقم دليل على تخصيصها، فإذا خصص العام بغير دليل, كان ذلك تأويلاً غير مقبول, وكان عموم عبارة النص يفيد استغراقها لكل أفرادها، واشتمالها بالتالي على المخاطبين بها, فلا تختص فئة من بينهم بحكمها، وكان عموم العبارة التي أفرغها الدستور فيها نص الفقرة الأولى من المادة 26 منه, مؤداه انصرافها إلى كل مشروع اقتصادي عام أياً كانت الأغراض التي يتوخاها, وانسحابها إلى من يعملون فيه، دون تخصيص، أياً كان موقعهم أو درجتهم الوظيفية, فإن هذه الفقرة تدل بخطابها على اتساعها لكل العاملين في هذا المشرع. يؤيد ذلك أن الدستور قابل الحقوق التي كفلها لهؤلاء العاملين, بواجباتهم في مجال الإسهام في تنفيذ الخطة الاقتصادية والاجتماعية داخل وحداتهم الإنتاجية, وتنمية الإنتاج فيها. وجميعها واجبات لا تنحصر مسئولية الاضطلاع بها في فئة من العاملين دون أخرى.
ومرود ثانياً: بأن الأصل في النصوص القانونية هو ألا تحمل على غير مقاصدها, وإلا تفسر عباراتها بما يخرجها عن معناها أو يفصلها عن سياقها أو يعتبر تشويهاً لها. ولو صح القول بأن الفقرة الأولى من المادة 26 من الدستور مقصور حكمها على فئة من العاملين, هم العمال الذين لا يشغلون في وحداتهم وظيفة من وظائف الإدارة العليا, لحُرِم من يتولون هذه الوظائف من نصيبهم في الأرباح, وهو ما لم يقل به أحد, ولا يتصور أن يكون الدستور قد قصد إليه. يؤيد ذلك أن استقراء القوانين المتعاقبة التي نظم بها المشرع شئون العاملين بالقطاع العام, يدل على تعلقها بمن يعملون في وحداته الاقتصادية دون تمييز بين أوضاعهم الوظيفية.
ومردود ثالثاً: بأن الدستور قرر بالفقرة الأولى من المادة 26 منه, مبدأ عاماً كفل به للعاملين في تلك المشروعات حقاً في إدارتها وفي أرباحها, ولا يتصور – وقد جرى هذا المبدأ على إطلاق لا تقييد فيه – أن تكون فقرتها الثانية قيداً عليه.
ومردود رابعاً: بأن الدستور, إذ نص في المواد 86, 162, 196 منه على أن يكون النصف على الأقل من الأعضاء المنتخبين في مجلس الشعب, أو في المجالس الشعبية المحلية, أو في مجلس الشورى من العمال والفلاحين، فقد قصد بذلك أن يكفل لفئتين – قَدَّر ضعفهما في البنيان الاجتماعي – الحد الأدنى من الحقوق التي تصور ضرورتها لتأمين مصالحها في المجالس ذات الصفة التمثيلية. ومن ثم كان منطقياً أن يفوض الدستور المشرع في بيان الشروط التي يحدد بها من يعتبر وفقاً لأحكامها عاملاً أو فلاحاً. ولا كذلك نص المادة 26 من الدستور التي خلت من تفويض المشرع في شأن بيان نطاق تطبيقها, بما مؤداه أن المقصود بالعاملين المشار إليهم فيها, هم هؤلاء الذين يباشرون عملاً دائماً في مشروع عام من خلال الوظيفة التي يشغلونها فيه, وذلك أياً كانت طبيعة عملهم أو الأهمية التي بلغها. وما قصد إليه الدستور حقاً بنص المادة 26. هو أن يكفل للعاملين في وحداتهم الإنتاجية دوراً ملحوظاً في إدارتها, مع الحصول على حصة في أرباحها، متوخياً بذلك حفزهم على تنمية إنتاجها. ولا يتصور أن يكون استبعاد من يشغلون وظيفة بإدارتها العليا من مجال أعمال هذين الحقين أو أحدهما، لازماً لاستيفاء التنمية لمتطلباتها.
ومردود خامساً: بأن العاملين في وحداتهم الإنتاجية يملكون جميعهم وفقاً للدستور حق الاقتراع لاختيار من يمثلونهم ويدافعون عن مصالحهم في مجالس إدارتها, ومن غير المفهوم أن يقف الدستور من حقهم في الترشيح لهذه المجالس موقفاً مختلفاً بأن يمنعهم منه إذا كانوا شاغلين لوظيفة بعينها في وحدتهم الإنتاجية, حال أن المركز الأعلى لوظيفة بعينها, منبت الصلة بالشروط الموضوعية التي يتطلبها التمثيل في مجلس إدارتها.
ومردود سادساً: بأن كلمة “العمال” التي تضمنتها الفقرة الثانية من المادة 26 من الدستور قد وردت دون تحديد لمضمونها. ولو كان الدستور قد قصد أن يكون معناها منصرفاً لغير العاملين المشار إليهم بفقرتها الأولى, لأحال – تعريفاً بها وتجلية لمحتواها – إلى أداة أدنى.
ومردود سابعاً: بأن ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 26 من الدستور من أن يكون تمثيل العمال في مجالس إدارة وحدات القطاع العام في حدود 50% من عدد أعضاء هذه المجالس، يفيد بالضرورة انصرافها إلى من يعملون في شركات تملك الدولة رأس مالها بأكمله أو غالبية أسهمها. وإذ كانت القوانين التي نظم بها المشرع أوضاع العاملين فيها, لا تقيم – في مجال علاقة العمل التي تربطهم بها – تمييزاً بين فئاتهم, بل كان خطابها قاطعاً في أن كل من يقوم بعمل دائم فيها لقاء أجر, يعد عاملاً بها ولو تدرج في مناصبها إلى أعلاها, فإن الفقرة الثانية من المادة 26 من الدستور يتعين حملها على فقرتها الأولى – في مجال كفالتها لحق العاملين في الإسهام في إدارة الوحدة الاقتصادية – باعتبارهما مترابطين.
وحيث إن ضمان الدستور – بنص المادة 47 منه – لحرية التعبير عن الآراء والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول أو التصوير أو بطباعتها أو بتدوينها وغير ذلك من وسائل التعبير, قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها، وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها, ولا تكون لا من فائدة, وبها يكون الأفراد أحراراً لا يتهيبون موقفاً، ولا يترددون وجلاً، ولا ينتصفون لغير الحق طريقاً.
وحيث إن ما توخاه الدستور من خلال ضمان حرية التعبير, هو أن يكون التماس الآراء والأفكار, وتلقيها عن الغير ونقلها إليه, غير مقيد بالحدود الإقليمية على اختلافها، ولا منحصر في مصادر بذواتها تعد من قنواتها, بل قصد أن تترامي آفاقها، وأن تتعدد مواردها وأدواتها, وأن تنفتح مسالكها, وتفيض منابعها (Marketplace of ideas) (Free trade in ideas)، ولا يحول دون ذلك قيد يكون عاصفة بها, مقتحماً دروبها, ذلك أن لحرية التعبير أهدافاً لا تريم عنها, ولا يتصور أن تسعى لسواها, هي أن يظهر من خلالها ضوء الحقيقة جلياً، فلا يُداخل الباطل بعض عناصرها، ولا يعتريها بهتان ينال من محتواها. ولا يتصور أن يتم ذلك إلا من خلال اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض, وقوفاً على ما يكون منها زائفاً أو صائباً، منطوياً على مخاطر واضحة، أو محققاً لمصلحة مبتغاة. ولازم ذلك أن الدستور لا يرمي من وراء ضمان حرية التعبير, أن تكون مدخلاً إلى توافق عام, بل تغياً بضمانها, أن يكون كافلاً لتعدد الآراء plurality of Opinions وإرسائها على قاعدة من حيدة المعلومات Neutrality of Information ليكون ضوء الحقيقة مناراً لكل عمل, ومحدداً لكل اتجاه.
وحيث إن الدستور بعد أرسى القاعدة العامة التي تقوم عليها حرية التعبير بنص المادة 47، حرص على أن يزاوجها ويكملها بإحدى صورها الأكثر أهمية والأبلغ أثراً، فكفل للصحافة حريتها كأصل عام ليحول دون التدخل في شئونها من خلال القيود التي ترهق رسالتها, أو تعطل خدماتها في بناء مجتمعاتها وتطويرها، ولؤمن من خلالها أفضل الفرص التي تكفل تدفق الأنباء والآراء والأفكار ونقلها إلى القطاع الأعرض من الجماهير, وبوجه خاص بنشر كل مطبوع يكون من أدواتها A Vehicle of Information and Opinion، ولئن كان الدستور قد أجاز فرض رقابة محدودة عليها, فذلك في الأحوال الاستثنائية, ولمواجهة تلك المخاطر الداهمة التي حددتها المادة 48 من الدستور.
وقد عزز الدستور حرية التعبير, بتلك التي يقتضيها إجراء البحوث العلمية وإنمائها على تباين مناهجها وأنماطها, باعتبار أن هذه البحوث وإن كان أصلها جهداً فردياً، إلا أن قيمتها لا تكمن في إطرائها, ولكن فيما يمكن أن يكون انتقاداً لنتائجها, وتصويباً لأخطائها. ثم قرن الدستور هاتين الحريتين بالإبداع فنياً، وأدبياً، وثقافياً، وتوكيداً لقيم الحق والخير والجمال، ودون إخلال بوسائل تشجيعها, وأكمل حلقاتها حين يخول كل فرد – بنص المادة 63 – أن يتقدم بظلاماته إلى السلطات العامة التي يكون بيدها رد ما وقع عليه من الأعمال الجائرة, والتعويض عن آثارها, على أساس من الحق والعدل.
وحيث إن حرية التعبير التي تؤمنها المادة 47 من الدستور, أبلغ ما تكون أثراً في مجال اتصالها بالشئون العامة, وعرض أوضاعها تبياناً لنواحي التقصير فيها, وتقويماً لاعوجاجها, وكان حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها, ليس معلقاً على صحتها, ولا مرتبطاً بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها, ولا بالفائدة العملية التي يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير, أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة في أعماق منابتها, بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام Public Mind, فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه، ولا عائقاً دون تدفقها.
وحيث إن من المقرر كذلك أن حرية التعبير, وتفاعل الآراء التي تتولد عنها, لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها, أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخى قمعها. بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها – وعلانية – تلك الأفكار التي تجول في عقولهم, فلا يتهامسون بها نجياً، بل يطرحونها عزماً – ولو عارضتها السلطة العامة – إحداثاً من جانبهم – وبالوسائل السلمية – لتغيير قد يكون مطلوباً. فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكناً في غيبة حرية التعبير. كذلك فإن الذين يعتصمون بنص المادة 47 من الدستور, لا يملكون مجرد الدفاع عن القضايا التي يؤمنون بها, بل كذلك اختيار الوسائل التي يقدرون مناسبتها وفعاليتها سواء في مجال عرضها أو نشرها, ولو كان بوسعهم إحلال غيرها من البدائل لترويجها. ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير أن يكون الإيمان بها شكلياً أو سلبياً، بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولاً بتبعاتها, وألا يفرض أحد على غيره صمتاً ولو بقوة القانون Enforced Silence. ذلك أن عدوان الدولة عليها بما يعطيها أو يقلصها، يولد الفزع منها, ولن يثير بطشها إلا الإعراض عنها. واقتحامها لها يباعد بينها وبين مواطنيها وقد يُغريهم بعصيانهم, ولا يعدو أن يكون إهداراً لسلطان العقل. وتغيباً ليقظة الضمير.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، تعين القول بأن حرية التعبير التي كفلها الدستور, هي القاعدة في كل تنظيم ديمقراطي, لا يقوم إلا بها, ذلك أن أهم ما يميز الوثيقة الدستورية ويحدد ملامحها الرئيسية, هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها ولا يفرضها إلا الناخبون. وكلما أعاق القائمون بالعمل العام أبعاد هذه الحرية, كان ذلك من جانبهم هدماً للديمقراطية في محتواها المقرر دستورياً، وإنكاراً لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها, فلا يعطل مضمونها أحد, ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها.
وما الحق في الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشئون العامة, الحريصين على متابعة جوانبها, وتقرير موقفهم من سلبياتها, إلا فرعاً من حرية التعبير, ونتاجاً لها.
وحيث إن الحق في التجمع – بما يقوم عليه من انضمام عدد من الأشخاص إلى بعضهم لتبادل وجهات النظر في شأن المسائل التي تعنيهم – من الحقوق التي كفلتها المادتان 54, 55 من الدستور, وذلك سواء نظرياً إليه باعتباره حقاً مستقلاً عن غيره من الحقوق, أم على تقدير أن حرية التعبير تشتمل عليه باعتباره كافلاً لأهم قنواتها, محققاً من خلالها أهدافها.
وحيث إن هذا الحق – وسواء أكان أصيلاً أم تابعاً – أكثر ما يكون اتصالاً بحرية عرض الآراء وتداولها كلما أقام أشخاص يؤيدون موقفاً أو اتجاهاً معيناً، تجمعاً منظماً Ordered Assemblage يحتويهم, ويوظفون فيه خبراتهم ويطرحون آمالهم, ويعرضون فيه كذلك لمصاعبهم, ويتناولون بالحوار ما يؤرقهم، ليكون هذا التجمع نافذة يطلون منها على ما يعتمل في نفوسهم, وصورة حية لشكل من أشكال التفكير الجماعي Collective Thinking، وكان تكوين بنيان كل تجمع – وسواء أكان الغرض منه سياسياً أو نقابياً أم مهنياً – لا يعدو أن يكون عملاً اختيارياً لا يساق الداخلون فيه سوقاً، ولا يمنعون من الخروج منه قهراً. وهو في محتواه لا يتمحض عن مجرد الاجتماع بين أشخاص متباعدين ينعزلون عن بعضهم البعض, بل يرمي بالوسائل السلمية إلى أن يكون إطاراً يضمهم، ويعبرون فيه عن مواقفهم وتوجهاتهم. ومن ثم كان هذا الحق متداخلاً مع حرية التعبير؛ ومكوناً لأحد عناصر الحرية الشخصية التي لا يجوز تقييدها بغير إتباع الوسائل الموضوعية والإجرائية التي يتطلبها الدستور أو يكفلها القانون؛ واقعاً عند البعض في نطاق الحدود التي يفرضها صون خواص حياتهم وأعماق حرمتها بما يحول دون اقتحام أغوارها أو تعقبها لغير مصلحة جوهرية لها معينها؛ لازماً اقتضاء ولم يرد بشأنه نص في الدستور؛ كافلاً للحقوق التي أحصاها ضماناتها, محققاً فعالياتها؛ سابقاً على وجود الدساتير ذاتها؛ مرابطاً بالمدنية في مختلف مراحل تطورها؛ كامناً في النفس البشرية تدعو إليه فطرتها؛ وهو فوق هذا من الحقوق التي لا يجوز النزول عنها.
بل أن حرية التعبير ذاتها تفقد قيمتها إذا جحد المشرع حق من يلوذون بها في الاجتماع المنظم, وحجب بذلك تبادل الآراء في دائرة أعرض, بما يحول دون تفاعلها وتصحيح بعضها لبعض, ويعطل تدفق الحقائق التي تتصل باتخاذ القرار ويعوق انسياب روافد تشكيل الشخصية الإنسانية التي لا يمكن تنميتها إلا في شكل من أشكل الاجتماع, ذلك أن الانعزال عن الآخرين، يؤول إلى استعلاء وجهة النظر الفردية وتسلطها, ولو كان أفقها ضيقاً Narrowness أو كان عمقها، أو تحزبها One – Sidedness بادياً.
كذلك فإن هدم حرية الاجتماع، إنما يقوض الأسس التي لا يقوم بدونها نظام للحكم يكون مستنداً إلى الإدارة الشعبية. ولا تكون الديمقراطية فيه بديلاً مؤقتاً أو إجماعاً زائفاً، أو تصالحاً مرحلياً لتهدئة الخواطر, بل شكلاً مثالياً لتنظيم العمل الحكومي وإرساء قواعده. ولازم ذلك امتناع تقييد حرية الاجتماع إلا وفق القانون. وفي الحدود التي تتسامح فيها النظم الديمقراطية، وترتضيها القيم التي تدعو إليها.
وحيث إن من المقرر كذلك أن حق المرشحين في الفوز بعضوية المجالس التي كفل الدستور أو المشرع صفتها التمثيلية, لا ينفصل عن حق الناخبين في الإدلاء بأصواتهم لاختيار من يثقون فيه من بينهم. ذلك أن هذين الحقين مرتبطان, ويتبادلان التأثير فيما بينهما, ولا يجوز بالتالي أن تفرض على مباشرة أيهما تلك القيود التي لا تتصل بتكامل العملية الانتخابية وضمان مصداقيتها, Integrity and Reliability of the Electoral Process أو بما يكون كافلاً إنصافها وتدفق الحقائق الموضوعية المتعلقة بها, بل يجب أن تتوافر لها بوجه عام أسس ضبطها, بما يصون حيدتها ويحقق الفرص المتكافئة بين المتزاحمين عليها.
ومن ثم تقع هذه القيود في حمأة المخالفة الدستورية إذا كان مضمونها وهدفها مجرد حرمان فئة من العاملين في الوحدة الاقتصادية – ودون أسس موضوعية – من فرص الترشيح لعضوية مجلس إدارتها. ذلك أن أثرها هو إبعاد هؤلاء عن العملية الانتخابية بأكملها, وبصورة نهائية, وحجبهم بالتالي عن الإسهام فيها, بما مؤداه احتكار غرمائهم وسيطرتهم عليها دون منازع, وإنهاء حق المبعدين عنها في إدارة الحوار حول برامجهم وتوجهاتهم. وهو ما يقلص من دائرة الاختيار التي يتيحها المشرع للناخبين, وبوجه خاص كلما كان المبعدون أدنى إلى ثقتهم، وأجدر بالدفاع عن حقوقهم.
بل إن القيم العليا لحرية التعبير – بما تقوم عليه من تنوع الآراء وتدفقها وتزاحمها – ينافيها ألا يكون الحوار المتصل بها فاعلاً ومفتوحاً، بل مقصوراً على فئة بذاتها من العاملين في الوحدة الاقتصادية، أو منحصراً في مسائل بذواتها لا يتعدها.
كذلك فإن حق الناخبين في الاجتماع، مؤداه ألا تكون الحملة الانتخابية – التي تعتبر قاعدة لتجمعاتهم، وإطاراً يحددون من خلالها أولوياتهم – محدودة آفاقها تقضي إليه من تضائل فرصهم التي يفاضلون من خلالها بين عدد أكبر من المرشحين, وانتقاء من يكون من بينهم شريكاً معهم في أهدافهم Like – Minded قادراً على النضال من أجل تحقيقها.
وحيث إن من المقرر أن حق تنظيم العملية الانتخابية سواء من حيث زمنها أو مكان إجرائها أو كيفية مباشرتها The Time, Place and Manner of Elections لا يجوز أن ينال من الحقوق التي ربطها الدستور بها بما يعطل جوهرها.
كذلك لا يجوز التذرع بتنظيمها لتأمين مصالح جانبية محدودة أهميتها, ولا التدخل بالقيود التي يفرضها المشرع عليها من حرية التعبير – وهي قاعدة التنظيم الانتخابي ومحوره – ذلك أن غايتها أن توفر لهيئة الناخبين الحقائق التي تعينها على تحديد موقفها من المرشحين الذين يريدون الظفر بثقتها, من خلال تعريفها بأحقهم في الدفاع عن مطالبها، بمراعاة ملكاتهم وقدراتهم, لتكون مفاضلتها بينهم على أسس موضوعية لها ما يظاهرها، ووفق قناعتها بموقفهم من قضاياها, ومن ثم المسائل التي يدور حولها الجدل.
وحيث إن النص المطعون عليه – بما حدده من شروط يتعين توافرها فيمن يرشح لعضوية مجلس إدارة الوحدة الاقتصادية – قد أعاق فئة بذاتها من العاملين – هم الشاغلون لوظيفة بإدارتها العليا – من نشر الأفكار والآراء التي يؤمنون بها والدفاع عن توجهاتهم, ونقل رسالتهم هذه إلى هيئة الناخبين التي لا يجوز فرض الوصاية عليها, ولا تعريضها لتأثير يؤول إلى تفككها أو اضطرابها أو بعثرة تكتلاتها, ولا أن تعاق قنواتها إلى الحقائق التي تريد النفاذ إليها, ولا أن يحرم أفرادها أو فئة من بينهم – لها توجهها الخاص – من أن تكون تجمعاتهم طريقاً إلى بلورة أفكارهم، وتحديد مطالبهم, إنفاذاً لإرادتهم من خلال أصواتهم التي لا يجوز تقييد فرص الإدلاء بها دون مقتض. متى كان ذلك, وكان من المقرر أن اتساع قاعدة الاختيار فيما بين المرشحين، ضمانة أساسية توفر لهيئة الناخبين ظروفاً أفضل تمنح من خلالها ثقتها لعناصر من بينهم تكون عندها أجدر بالدفاع عن مصالحها, فإن قاعدة الاختيار هذه – إذا ما حدّ المشرع من نطاقها وضيق من دائرتها – تؤثر مآلا في حق الاقتراع, وتنال من فاعليته.
وحيث إن الدساتير المصرية جميعها بدءاً بدستور سنة 1923، وانتهاء بالدستور القائم, رددت جميعها مبدأ المساواة أمام القانون De jure، وكلفت تطبيقه على المواطنين كافة باعتباره أساس العدل، والحرية، والسلام الاجتماعي، وعلى تقدير أن الغاية التي يستهدفها تتمثل أصلاً في صون حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها, وأضحى هذا المبدأ – في جوهره – وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التي لا يقتصر نطاق تطبيقها على الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور, بل يمتد مجال أعمالها كذلك, إلى تلك التي كفلها المشرع للمواطنين في حدود سلطته التقديرية, وعلى ضوء ما يرتئيه محققاً للمصلحة العامة.
ولئن نص الدستور في المادة 40 منه على حظر التمييز بين المواطنين في أحوال بعينها, هي تلك التي يقوم التمييز فيها على أساس الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، إلا أن إيراد الدستور لصور بذاتها يكون التمييز محظوراً فيها, مرده أنها الأكثر شيوعاً في الحياة العملية, ولا يدل البتة على انحصاره فيها, إذ لو صح ذلك لكان التمييز بين المواطنين فيما عداها جائزاً دستورياً، وهو ما يناقض المساواة التي كفلها الدستور, ويحول دون إرساء أسسها, وبلوغ غاياتها.
وآية ذلك أن صور التمييز التي أغفلتها المادة 40 من الدستور, ما لا يقل عن غيرها خطراً سواء من ناحية محتواها أو من جهة الآثار التي ترتبها، كالتمييز بين المواطنين في نطاق الحقوق التي يتمتعون بها, أو الحريات التي يمارسونها، لاعتبار مرده إلى مولدهم, أو مركزهم الاجتماعي, أو انتمائهم الطبقي, أو ميولهم الحزبية, أو نزعاتهم العرقية, أو عصبيتهم القبلية، أو إلى موقفهم من السلطة العامة, أو إعراضهم عن تنظيماتها، أو تبنيهم لأعمال بذاتها, وغير ذلك من أشكال التمييز التي لا تظاهرها أسس موضوعية تقيمها، وكان من المقرر أن صور التمييز المجافية للدستور وإن تعذر حصرها, إلا أن قوامها كل تفرقة, أو تقييد، أو تفضيل, أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق أو الحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين للانتفاع بها, وبوجه خاص على صعيد الحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية وغير ذلك من مظاهر الحياة العامة. متى كان ذلك, وكان النص المطعون عليه قد استبعد شاغلي وظائف الإدارة العليا بالوحدات الاقتصادية من فرص الترشيح التي كفلها لغيرهم من العاملين بها رغم تماثلهم جميعاً في مراكزهم القانونية, ودون أن يستند هذا التمييز إلى أسس موضوعية يقتضيها التمثيل في مجالس إداراتها, فإن هذا التمييز يكون تحكمياً ومنهياً عنه بنص المادة 40 من الدستور.
وحيث إنه متى كان ما تقدم, وكان النص المطعون عليه – بالصيغة التي أفرغها المشرع فيه – يناقض المادة 26 من الدستور, ويخل كذلك بالحقوق التي كفلها في مجال حرية التعبير وحق الاجتماع وحق الاقتراع المنصوص عليها في المواد 47, 54, 55, 62 منه، وينتهك فوق هذا مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في المادة 40, فإن الحكم بعدم دستوريته يكون متعيناً.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص البند السادس من المادة الثانية من القانون رقم 73 لسنة 1973 فيما تضمنه من حظر ترشيح شاغلي وظائف الإدارة العليا لعضوية مجالس إدارة شركات قطاع الأعمال العام التابعة, وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
وسوم : حكم دستورية