الخط الساخن : 01118881009
جلسة 14 يناير سنة 1995
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر – رئيس المحكمة، وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلي محمود منصور – أعضاء، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي على جبالي – المفوض، وحضور السيد/ رأفت محمد عبد الواحد – أمين السر.
(القاعدة رقم 34)
القضية رقم 16 لسنة 15 قضائية “دستورية”
1 – تشريع “قانون التأمين الاجتماعي – المادة 40 منه”.
مؤدى نص الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي, أنه إذا عاد صاحب المعاش إلى عمل يخضعه لأحكام هذا القانون, أو لإحدى الجهات التي خرجت من مجال تطبيق هذا القانون لوجود نظام بديل مقرر وفقاً للقانون، ويوقف صرف معاشه اعتباراً من أول الشهر التالي, وذلك حتى تاريخ انتهاء خدمته بالجهات المشار إليها أو بلوغه السن المنصوص عليها بالبند (1) من المادة 18 أيهما أسبق.
2 – دعوى دستورية “المصلحة فيها: مناطها – ضرر مباشر” “مثال”
مناط المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية, وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها, والمطروحة أمام قاضي الموضوع. ومؤدى ذلك أن يكون النص المطعون فيه – بتطبيقه على المدعي – قد أخل بأحد الحقوق التي كفلها الدستور على نحو ألحق به ضرراً مباشراً.
3 – المحكمة الدستورية العليا: “نطاق رقابتها”.
المحكمة الدستورية العليا اختصها الدستور وحدها بمباشرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح. والأصل أن تتوخى المحكمة من خلال رقابتها هذه, تقرير قيام المخالفة الدستورية أو نفيها, وعليها أن تقيم المخالفة الدستورية – إذ ثبت لها صحتها – على ما يتصل به من أحكام الدستور، ولو كانت غير التي حددها حكم الإحالة الصادر عن محكمة الموضوع.
4 – تنظيم الحقوق “سلطة تقديرية: ضوابطها – مدى الرقابة عليها”.
الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق, أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، لا يجوز للمشرع – في هذا المجال – أن ينال من الحق محل الحماية الدستورية, بالنقض أو الانتقاص. كذلك ليس للمحكمة الدستورية العليا – وفيم خلا القيود التي يفرضها الدستور – أن تزن سياسية المشرع، أو أن تخوض في ملائمة تطبيقها عملاً.
5 – حق العمل “تنظيمه”
عدم جواز تدخل المشرع لتعطيل حق العمل. يجب أن يكون تنظيمه غير مناقض لجوهره. وفي الحدود التي يكون فيها هذا التنظيم منصفاً ومبرراً.
6 – حق العمل “الأصل أن يكون إرادياً”
الأصل في العمل أن يكون إرادياً قائماً على الاختيار الحر. لا يجوز فرض العمل قسراً على العامل, إلا أن يكون ذلك وفق القانون, وبوصفه تدبيراً استثنائياً لإشباع غرض عام، وبمقابل عادل.
7 – حق العمل “الوفاء بالأجر”.
التزام الوفاء بالأجر, أحق بالحماية الدستورية، كما كان مقابلاً لعمل تم أداؤه في نطاق رابطة عقدية, أو علاقة تنظيميه، ارتبط طرفاها بها, وتحدد الأجر من خلالها.
8 – حق المعاش – دستور “المادة 122 منه، مضمونها”.
التنظيم التشريعي للحقوق التي كفلها الدستور في هذه المادة – ومنها الحق في المعاش – يكون مجانباً أحكامه إذ تناول هذه الحقوق بما يفرغه من مضمونها.
9 – الحق في المعاش “الالتزام به” – دستور – “تأمين اجتماعي”.
الحق في المعاش – إذا توافر أصل استحقاقه وفقاً للقانون – ينهض التزاماً على الجهة التي تقرر عليها. اتجاه الدستور إلى دعم التأمين الاجتماعي في المادة 17 منه، مرده أن مظلة التأمين الاجتماعي هي التي تكفل لكل مواطن من المشمولين بها, الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية التي لا تمتهن فيا آدميته.
10 – الحق في المعاش والحق في الأجر “اجتماع الحقين”.
الحق في المعاش لا يعتبر منافياً للحق في الأجر. جواز اجتماعهما باعتبارهما مختلفين مصدراً وسبباً.
11 – الحق في المعاش “الأجر ليس بديلاً عن المعاش” “الالتزام البدلي. معناه”.
عامل المشرع أجور المدعيين باعتباره بديلاً عن معاشاتهم, حال أن الالتزام لا يكون بدلياً إلا إذا قام المحل فيه مقام المحل الأصلي, وهو بذلك يفترض مدنياً واحداً تقرر البدل لمصلحته وتبرأ ذمته إذا أداه بدل المحل الأصلي.
12 – تشريع “الفقرتان الأولى والثانية من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي: حرمان من المعاش – مخالفة الدستور”.
تتناول الفقرة الثانية من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي بحكمها فئتين من أصحاب المعاش إحداهما من عاد منهم إلى عمل بإحدى الجهات التي تخرج عن مجال تطبيق قانون التأمين الاجتماعي لوجود تأمين مقرر لها. وينحصر نطاق الطعن في هذه الفئة وحدها وما يتصل بها من أجزاء الفقرة الثانية المشار إليها. حرمان هؤلاء من معاشاتهم هو إخلال بأحكام المواد 7 و12 و13 و24 و62 و122 من الدستور, متضمناً لزوماً سقوط ما يتصل بهذه الفئة من أحكام الفقرة الثانية المشار إليها.
1 – مؤدى نص الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي، أنه “إذا عاد صاحب المعاش إلى عمل يُخضعه لأحكام هذا التأمين أو لإحدى الجهات التي خرجت من مجال تطبيق هذا القانون لوجود نظام بديل مقرر وفقاً لقانون, يوقف صرف معاشه اعتباراً من أول الشهر التالي, وذلك حتى تاريخ انتهاء خدمته بالجهات المشار إليها, أو بلوغه السن المنصوص عليها بالبند 1 من المادة 18 أيهما أسبق” كما تنص فقرتها الثانية على أنه “إذا كان الأجر الذي سوى عليه المعاش أو مجموع ما كان يتقاضاه من أجر في نهاية مدة خدمته السابقة أيهما أكبر, يجاوز الأجر المستحق له عن العمل المعاد إليه, يؤدي إليه من المعاش الفرق بينهما على أن يخفض الجزء الذي يصرف من المعاش المقرر بمقدار ما يحصل عليه من زيادات في أجره”.
2 – جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا, على أن المصلحة الشخصية المباشرة, تعد شرطاً لقبول الدعوى الدستورية, وأن مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية, وذلك بأن الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام قاضي الموضوع. فإذا لم يكن له بها من صلة, كانت الدعوى الدستورية غير مقبولة. بما مؤداه أنه لا يكفي لقبولها أن يكون النص التشريعي المطعون عليه مخالفاً في ذاته للدستور, بل يتعين أن يكون هذا النص – بتطبيقه على المدعي – قد أخل بأحد الحقوق التي كفلها الدستور على نحو ألحق به ضرراً مباشراً، وكان النزاع الموضوعي – في الخصومة الماثلة – يقوم على حق المدعين في الجمع بين معاشاتهم عن مدة خدمتهم السابقة, وما يحصلون عليه من أجر من شركة الاتحاد العربي للنقل البحري التي لا تعتبر من الخاضعين لأحكام قانون التأمين الاجتماعي لوجود نظام تأمين بديل مقرر لها يُخرجها من دائرة هذا القانون، فإن مصلحتهم الشخصية والمباشرة لا تمتد إلى الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي بتمامها, بل تنحصر فيما يتعلق من أجزائها بنزاعهم الموضوعي، وكذلك بما يكون مرتبطاً بنطاق الطعن من أجزاء فقرتها الثانية، ارتباطاً لا يقبل التجزئة.
3 – نظم الدستور بالفصل الخامس من بابه الرابع, الأحكام الرئيسية التي يقوم عليها بنيان المحكمة الدستورية العليا, فأفرغها في صورة هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها, واختصها دون غيرها بمباشرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح, وعهد إلى المشرع بتفصيل ما ورد إجمالاً من قواعد هذه الرقابة, وعلى الأخص ما يتعلق منها بوسائلها وإجراءاتها, وكان الأصل أن تتوخى المحكمة الدستورية العليا من خلال رقابتها هذه تقرير قيام المخالفة الدستورية أو نفيها على ضوء الوحدة العضوية للنصوص الدستورية, بما يكفل اتساقها وتكاملها فيما بينها, وكان بحثها هذا يقتضيها ألا تقف عند النصوص الدستورية التي قال المدعي أو محكمة الموضوع بمخالفتها، بل عليها أن تستوثق من اتفاق، أو تعارض النصوص المطعون عليها مع الدستور؛ منظوراً إليه في مجموع أحكامه, فلا تتقيد بنص منها دون غيره, بل تجيل بصرها فيها جميعاً، وعليها بالتالي أن تقيم المخالفة الدستورية – إذا ثبت لها صحتها – على ما يتصل بها من أحكام الدستور, ولو كانت غير التي حددها حكم الإحالة الصادرة عن محكمة الموضوع.
4 – الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق, أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخوماً لا يجوز اقتحامها أو تخطيها, وكان الدستور إذ عهد بتنظيم موضوع معين إلى السلطة التشريعية، فإن ما تقرره من القواعد القانونية بصدده, لا يجوز أن ينال من الحق محل الحماية الدستورية سواء بالنقض أو الانتقاص, ذلك أن إهدار الحقوق التي كفلها الدستور أو تهميشها, عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها The breathing space، بما مؤداه أن تباشر السلطة التشريعية اختصاصاتها التقديرية – وفيما خلا القيود التي يفرضها الدستور عليها – بعيداً عن الرقابة القضائية التي تمارسها المحكمة الدستورية العليا, فلا يجوز لها أن تزن بمعاييرها الذاتية السياسة التي انتهجها المشرع في موضوع معين, ولا أن تناقشها, أو تخوض في ملائمة تطبيقها عملاً, ولا أن تَنْحِل للنص المطعون فيه أهدافاً غير التي رمي المشرع بلوغها، ولا أن تقيم خياراتها محل عمل السلطة التشريعية, بل يكفيها أن تمارس السلطة التشريعية اختصاصاتها تلك, مستلهمة في ذلك أغراضاً يقتضيها الصالح العام في شأن الموضوع محل التنظيم التشريعي, وأن تكون وسائلها إلى تحقيق الأغراض التي حددتها, مرتبطة عقلاً بها.
5 – ليس العمل ترفاً. ولا هو منحة من الدولة تبسطها أو تقبضها وفق مشيئتها لتحدد على ضوئها من يتمتعون بها أو يمنعون منها. ولا يجوز كذلك إكراه العامل لأداء عمل لا يقبل عليه باختياره, ولا التمييز في نطاق شروط العمل فيما بين المواطنين بعضهم البعض لاعتبار لا يتعلق بقيمة العمل, أو غير ذلك من الشروط الموضوعية التي يقوم عليها. ذلك أن الفقرة الأولى من المادة 13 من الدستور تنظم العمل بوصفه حقاً لكل مواطن لا يجوز إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره, وواجباً يلتزم بمسئولية النهوض بتبعاته، وشرفاً يرنو إليه, وهو باعتباره كذلك, ولأهميته في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها, ولصلته الوثيقة بالحق في التنمية بمختلف جوانبها, ولضمان تحقيق الإنسان لذاته, ولحرياته الأساسية, وكذلك لإعمال ما يتكامل معها من الحقوق, توليه الدولة اهتماماً، وتزيل العوائق من طريقه وفقاً لإمكاناتها, وبوجه خاص إذا امتاز العامل في أدائه وقام بتطويره. ولا يجوز بالتالي أن يتدخل المشرع ليعطل حق العمل, ولا أن يتذرع اعتسافاً بضرورة صون أخلاق العامل أو سلامته أو صحته, للتعديل في شروط العمل, بل يتعين أن يكون تنظيم هذا الحق غير مناقض لجوهره, وفي الحدود التي يكون فيها هذا التنظيم منصفاً ومبرراً.
6 – الأصل في العمل أن يكون إرادياً قائماً على الاختيار الحر, ذلك أن علائق العمل قوامها شراء الجهة التي تقوم باستخدام العامل لقوة العمل بعد عرضها عليه. فلا يحمل المواطن على العمل حملاً بأن يدفع إليه قسراً, أو يفرض عليه عنوة, إلا أن يكون ذلك وفق القانون, وبوصفه تدبيراً استثنائياً لإشباع غرض عام, وبمقابل عادل. وهي شروط تطلبها الدستور في العمل الإلزامي, وقيد المشرع بمراعاتها في مجال تنظيمه كي لا يتخذ شكلاً من أشكال السخرة المنافية في جوهرها للحق في العمل باعتباره شرفاً، والمجافية للمادة 13 من الدستور بفقرتيها.
7 – إذ كان اقتضاء الأجر العادل مشروطاً بالفقرة الثانية من المادة 13 من الدستور, كمقابل لعمل تحمل الدولة مواطنيها عليه قسراً, استيفاء من جانبها لدواعي الخدمة العامة, ونزولاً على مقتضياتها, فإن الوفاء بهذا الأجر توكيداً للعدل الاجتماعي, وإعلاءً لقدر الإنسان وقيمته, واعترافاً بشخصيته المتنامية, وما يتصل بها من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية, يكون بالضرورة التزاماً أحق بالحماية الدستورية، كلما كان مقابلاً لعمل تم أداؤه في نطاق رابطة عقدية أو علاقة تنظيمية ارتباط طرفاها بها, وتحدد الأجر من خلالها, وذلك انطلاقاً من ضرورة التمكين للقيم الأصيلة الخلقية والاجتماعية التي يلتزم المجتمع المحلي بها, والتماس الطرق إليها, والعمل على إرسائها على ما تقتضي به المادة 12 من الدستور, ونزولاً على حقيقة أن الأجر وفرص العمل وربطهما معاً بالإنتاجية, تمثل جميعها ملامح أساسية لخطة التنمية الشاملة التي تنظم اقتصاد الدولة, وتتوخى زيادة الدخل القومي، وتضمن عدالة توزيعه وفقاً لحكم المادة 23 من الدستور, ولأن الأجر – محدداً وفق شروط مرضية – ضمانة جوهرية لإسهام المواطن في الحياة العامة بمختلف صورها, وهو إسهام غدا واجباً وطنياً لنص المادة 62 من الدستور.
8 – إذ عهد الدستور بنص المادة 122 إلى المشرع بصوغ القواعد القانونية التي تقرر بموجبها على خزانة الدولة, مرتبات المواطنين ومعاشاتهم وتعويضاتهم وإعاناتهم ومكافآتهم على أن ينظم أحوال الاستثناء منها, والجهات التي تتولى تطبيقها, فذلك لتهيئة الظروف التي تفي باحتياجاتهم الضرورية, وتكفل مقوماتها الأساسية التي يتحررون بها من العوز, وينهضون معها بمسئولية حماية أسرهم والارتقاء بمعاشها, بما مؤداه أن التنظيم التشريعي للحقوق التي كفلها المشرع في هذا النطاق، يكون مجانباً أحكام الدستور، منافياً لمقاصده, إذا تناول هذه الحقوق بما يهدرها أو يفرغها من مضمونها.
9 – ينهض الحق في المعاش – إذا توافرت أصل استحقاقه وفقاً للقانون – التزاماً على الجهة التي تقرر عليها. وهو ما تؤكده قوانين التأمين الاجتماعي – على تعاقبها – إذ يبين منها أن المعاش الذي تتوافر – بالتطبيق لأحكامها – شروط اقتضائه, عند انتهاء خدمة المؤمن عليه وفقاً للنظم المعمول بها، يعتبر التزاماً مترتباً بنص القانون في ذمة الجهة المدنية. وإذ كان الدستور قد خطا بمادته السابعة عشرة خطوة أبعد في اتجاه دعم التأمين الاجتماعي, حين ناط بالدولة، أن تكفل لمواطنيها خدماتهم التأمينية – الاجتماعية منها والصحية – بما في ذلك تقرير معاش لمواجهة بطالتهم أو عجزهم عن العمل أو شيخوختهم في الحدود التي يبينها القانون, فذلك لأن مظلة التأمين الاجتماعي – التي يمتد نطاقها إلى الأشخاص المشمولين بها – هي التي تكفل لكل مواطن الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية التي لا تمتهن فيها آدميته, والتي توفر لحريته الشخصية مناخها الملائم, ولضمانه الحق في الحياة أهم روافدها، وللحقوق التي يمليها التضامن بين أفراد الجماعة التي يعيش في محيطها، مقوماتها، بما يؤكد انتماءه إليها. وتلك هي الأسس الجوهرية التي لا يقوم المجتمع بدونها, والتي تعتبر المادة 7 من الدستور مدخلاً إليها.
10 – إذ كان البين من الأوراق أن المدعيين كانوا قد عينوا بشركة الاتحاد العربي للنقل البحري, بعد انتهاء خدمتهم بجهاتهم الأصلية التي استحقوا عنها – قبل بلوغهم سن التقاعد – المعاش المقرر وفقاً لنظمها, واستمروا خلال عملهم بها يجمعون بين أجورهم عن هذا العلم ومعاشاتهم تلك, إلى أن تقرر حرمانهم منها إعمالاً لنص الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي السالف بيانها, باعتبار أنهم عادوا – بعد استحقاقهم المعاش – للعمل في جهة تقرر لها نظام بديل للتأمين وكان الحق في معاشاتهم تلك لا يعتبر منافياً للحق في أجورهم، ولا يحول دون اجتماعهما باعتبارهما مختلفين مصدراً وسبباً, ذلك أنه بينما يعتبر نص القانون مصدراً مباشراً للحق في معاشاتهم, فإن أجورهم مرجعها إلى قيام رابطة العمل التعاقدية، وترتد إليها في مصدرها المباشر. كذلك يعتبر المعاش مستحقاً عن مدد خدماتهم الأصلية بالجهات التي كانوا يعملون بها, وأدوا عنها حصصهم في التأمين الاجتماعي وفقاً للقواعد التي تقرر المعاش بموجبها وتحدد مقداره على ضوئها, وذلك خلافاً للأجور التي يستحقونها من الجهة التي عادوا للعمل بها, إذ يعتبر مقابلاً مشروعاً لعملهم فيها, وباعثاً دفعهم إلى التعاقد معها, ليكون القيام بهذا العمل سبباً لاستحقاقها.
11 – إذ كانت الفقرة الثانية من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي، تدل بعباراتها على أن المشرع عامل أجور المدعيين باعتبارها بديلاً عن معاشاتهم, حال أن الالتزام لا يكون بدلياً إلا إذا قام المحل البديل فيه مقام المحل الأصلي, وهو بذلك يفترض مديناً واحداً تقرر البدل لمصلحته, إذ تبرأ ذمته إذا أداه بدل المحل الأصلي. ولا كذلك حق المدعيين في الجمع بين المعاش والأجر, ذلك أن الالتزام بهما ليس مترتباً في ذمة مدين واحد, ولا يقوم ثانيهما مقام أولهما, فضلاً عن اختلافهما مصدراً. ومن ثم ينحل العدوان على أيهما إلى إخلال بالملكية الخاصة التي كفل الدستور في المادة 34 منه أصل الحق فيها, وأحاطها بالحماية اللازمة لصونها، والتي جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على انصرافها إلى الحقوق الشخصية والعينية على سواء, واتساعها بالتالي للأموال بوجه عام.
12 – إذ تقضي الفقرة الثانية من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي بأنه إذا كان الأجر الذي سوى عليه المعاش, أو مجموع ما كان يتقاضاه من أجر في نهاية مدة خدمته السابقة أيهما أكبر, يجاوز الأجر المستحق له عن العمل المعاد إليه, يؤدي إليه المعاش الفرق بينهما, على أن يخفض الجزء الذي يصرف من المعاش بمقدار ما يحصل عليه من زيادات في أجره, وكانت هذه الفقرة تتناول بحكمها فئتين من أصحاب المعاش, أولاهما من عاد منهم إلى عمل يخضعه لأحكام قانون التأمين الاجتماعي، ثانيتهما من عاد منهم إلى عمل بإحدى الجهات التي تخرج من مجال تطبيق هذا القانون لوجود نظام تأمين بديل مقرر لها, وكان نطاق الطعن الماثل قد انحصر في الفئة الثانية, وكان ما يتصل من أحكام الفقرة الثانية من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي بتلك الفئة التي اقتصر عليها مجال الطعن, يرتبط بأجزاء الفقرة الأولى من المادة 40 المشار إليها – والتي انتهت المحكمة على ما سلف إلى عدم دستوريتها – ارتباطاً لا يقبل التجزئة, ولا يمكن فصلها عنها, فإنها تسقط تبعاً لإبطالها.
الإجراءات
بتاريخ 14 أبريل 1993 ورد إلى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا ملف الدعوى رقم 544 لسنة 1992 عمال محكمة الإسكندرية الابتدائية. بعد أن قضت تلك المحكمة بجلسة 31 يناير 1993 بإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في دستورية المادة 40 من القانون رقم 79 لسنة 1975.
وقدمت كل من هيئة قضايا الدولة والهيئة القومية للتأمين الاجتماعي مذكرة بدفاعها.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة, وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الإطلاع على الأوراق, والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من حكم الإحالة وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعيين بعد أن تركوا الخدمة بالجهات التي كانوا يعملون بها واستحقوا المعاش المبكر وفقاً للقانون, عينوا بشركة الاتحاد العربي للنقل البحري “فامكو”، واستمروا يجمعون بين معاشاتهم هذه, وأجورهم عن عملهم الجديد بالشركة, إلى أن تقرر حرمانهم من معاشاتهم وذلك بوقف صرفها ومطالبتهم برد ما سبق أن دُفع لهم منها, ثم اتخاذ إجراءات الحجز الإداري قبلهم لاستردادها، وذلك إعمالاً لنص المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 بعد تعديلها بالقانونين رقمي 93 لسنة 1980، 107 لسنة 1987. وإذ ترتب على إعمال حكمها في حقهم حرمانهم من الحق في الجمع بين معاشاتهم عن مدة خدمتهم السابقة. وأجورهم عن عملهم بالشركة التي عينوا فيها، فقد أقاموا – لاقتضاء هذا الحق – الدعوى رقم 544 لسنة 1992 عمال أمام محكمة الإسكندرية الابتدائية التي تراءى لها بحكمها الصادر في 31 يناير 1993، أن المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي بمنعها الجمع بين المعاش والأجر في الحدود التي بينتها, إنما تقيم تمييزاً يناقض مبدأ المساواة أمام القانون بين المخاطبين بها من ناحية, والمعاملين بأحكام قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة الصادر بالقانون رقم 90 لسنة 1975 من ناحية أخرى, مما يقتضي أن تحيل ملف الدعوى إلى المحكمة الدستورية العليا، وذلك للفصل في دستورية المادة 40 المشار إليها.
وحيث إن هيئة قضايا الدولة ذهبت إلى أن النزاع الموضوعي ينحصر في أحقية المدعين في الجمع بين معاشاتهم عن مدد خدمتهم السابقة, وأجورهم التي يتقاضونها من شركة الاتحاد العربي للنقل البحري, وهي إحدى الجهات التي خرجت من مجال تطبيق قانون التأمين الاجتماعي، لوجود نظام بديل مقرر وفقاً للقانون. وفيما يجاوز هذا النطاق من أحكام الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي, تكون الدعوى الدستورية الراهنة غير مقبولة.
وحيث إن البين من الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي، أنها تقضي بما يأتي “إذا عاد صاحب المعاش إلى عمل يخضعه لأحكام هذا التأمين أو لإحدى الجهات التي خرجت من مجال تطبيق هذا القانون لوجود نظام بديل مقرر وفقاً لقانون, يوقف صرف معاشه اعتباراً من أول الشهر التالي, وذلك حتى تاريخ انتهاء خدمته بالجهات المشار إليها, أو بلوغه السن المنصوص عليها بالبند 1 من المادة 18 أيهما أسبق”.
كما تنص فقرتها الثانية على أنه “إذا كان الأجر الذي سوى عليه المعاش أو مجموع ما كان يتقاضاه من أجر في نهاية مدة خدمته السابقة أيهما أكبر, يجاوز الأجر المستحق له عن العمل المعاد إليه, يؤدي إليه من المعاش الفرق بينهما على أن يخفض الجزء الذي يصرف من المعاش المقرر بمقدار ما يحصل عليه من زيادات في أجره”.
وحيث إنه متى كان ذلك, وكان قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن المصلحة الشخصية المباشرة, تعد شرطاً لقبول الدعوى الدستورية, وأن مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية, وذلك بأن الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام قاضي الموضوع, فإذا لم يكن له بها من صلة, كانت الدعوى الدستورية غير مقبولة, بما مؤداه أنه لا يكفي لقبولها أن يكون النص التشريعي المطعون عليه مخالفاً في ذاته للدستور, بل يتعين أن يكون هذا النص – بتطبيقه على المدعي – قد أخل بأحد الحقوق التي كفلها الدستور على نحو ألحق به ضرراً مباشراً، وكان النزاع الموضوعي – في الخصومة الماثلة – يقوم على حق المدعين في الجمع بين معاشاتهم عن مدة خدمتهم السابقة, وما يحصلون عليه من أجر من شركة الاتحاد العربي للنقل البحري التي لا تعتبر من الخاضعين لأحكام قانون التأمين الاجتماعي لوجود نظام تأمين بديل مقرر لها يخرجها من دائرة هذا القانون، فإن مصلحتهم الشخصية والمباشرة لا تمتد إلى الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي بتمامها, بل تنحصر فيما يتعلق من أجزائها بنزاعهم الموضوعي، وكذلك بما يكون مرتبطاً بنطاق الطعن من أجزاء فقرتها الثانية، ارتباطاً لا يقبل التجزئة.
وحيث إن الدستور نظم بالفصل الخامس من بابه الرابع, الأحكام الرئيسية التي يقوم عليها بنيان المحكمة الدستورية العليا, فأفرغها في صورة هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها, واختصها دون غيرها بمباشرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح, وعهد إلى المشرع بتفصيل ما ورد إجمالاً من قواعد هذه الرقابة, وعلى الأخص ما يتعلق منها بوسائلها وإجراءاتها, وكان الأصل أن تتوخى المحكمة الدستورية العليا من خلال رقابتها هذه تقرير قيام المخالفة الدستورية أو نفيها على ضوء الوحدة العضوية للنصوص الدستورية, بما يكفل اتساقها وتكاملها فيما بينها, وكان بحثها هذا يقتضيها ألا تقف عند النصوص الدستورية التي قال المدعي أو محكمو الموضوع بمخالفتها، بل عليها أن تستوثق من اتفاق أو تعارض النصوص المطعون عليها مع الدستور منظوراً إليه في مجموع أحكامه, فلا تتقيد بنص منها دون غيره, بل تُجيل بصرها فيها جميعاً، وعليها بالتالي أن تقيم المخالفة الدستورية – إذا ثبت لها صحتها – على ما يتصل بها من أحكام الدستور, ولو كانت غير التي حددها حكم الإحالة الصادر عن محكمة الموضوع.
وحيث إنه متى كان ذلك, وكان الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق, أنها سلطة تقديرية ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون تخوماً لا يجوز اقتحامها أو تخطيها, وكان الدستور إذ يعهد بتنظيم موضوع معين إلى السلطة التشريعية، فإن ما تقرره من القواعد القانونية بصدده, لا يجوز أن ينال من الحق محل الحماية الدستورية سواء بالنقض أو الانتقاص, ذلك أن إهدار الحقوق التي كفلها الدستور أو تهميشها, عدوان على مجالاتها الحيوية التي لا تتنفس إلا من خلالها The breathing space، بما مؤداه أن تباشر السلطة التشريعية اختصاصاتها التقديرية – وفيما خلا القيود التي يفرضها الدستور عليها – بعيداً عن الرقابة القضائية التي تمارسها المحكمة الدستورية العليا, فلا يجوز لها أن تزن بمعاييرها الذاتية السياسة التي انتهجها المشرع في موضوع معين, ولا أن تناقشها, أو تخوض في ملائمة تطبيقها عملاً, ولا أن تنحل للنص المطعون فيه أهدافاً غير التي رمي المشرع بلوغها، ولا أن تقيم خياراتها محل عمل السلطة التشريعية, بل يكفيها أن تمارس السلطة التشريعية اختصاصاتها تلك, مستلهمة في ذلك أغراضاً يقتضيها الصالح العام في شأن الموضوع محل التنظيم التشريعي, وأن تكون وسائلها إلى تحقيق الأغراض التي حددتها, مرتبطة عقلاً بها.
وحيث إن البين من أحكام الدستور – بما يحقق تكاملها ويكفل عدم انعزال بعضها عن بعض في إطار الوحدة العضوية التي تجمعها، وتصون ترابطها – أنه في مجال حق العمل والتأمين الاجتماعي, كفل الدستور – بنص مادته الثالثة عشر – أمرين:
أولهما أن العمل ليس ترفاً يمكن النزول عنه. ولا هو منحة من الدولة تبسطها أو تقبضها وفق مشيئتها لتحدد على ضوئها من يتمتعون بها أو يمنعون منها. ولا يجوز كذلك إكراه العامل لأداء عمل لا يقبل عليه باختياره, أو يقع التمييز فيه بينه وبين غيره من المواطنين لاعتبار لا يتعلق بقيمة العمل, أو غير ذلك من شروطه الموضوعية. وذلك أن الفقرة الأولى من المادة 13 من الدستور تنظم العمل بوصفه حقاً لكل مواطن لا يجوز إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره, وواجباً يلتزم بمسئوليته، والنهوض بتبعاته، وشرفاً يرنو إليه. وهو باعتباره كذلك, ولأهميته في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها, ولصلته الوثيقة بالحق في التنمية بمختلف جوانبها, ولضمان تحقيق الإنسان لذاته, ولحرياته الأساسية, وكذلك لإعمال ما يتكامل معها من الحقوق, توليه الدولة اهتمامها، وتزيل العوائق من طريقه وفقاً لإمكاناتها, وبوجه خاص إذا امتاز العامل في أدائه وقام بتطويره.
ولا يجوز بالتالي أن يتدخل المشرع ليعطل حق العمل, ولا أن يتذرع اعتسافاً بضرورة صون أخلاق العامل أو سلامته أو صحته, للتعديل في شروط العمل, بل يتعين أن يكون تنظيم هذا الحق غير مناقض لجوهره, وفي الحدود التي يكون فيها هذا التنظيم منصفاً ومبرراً.
ثانيهما: أن الأصل في العمل أن يكون إرادياً قائماً على الاختيار الحر, ذلك أن علائق العمل قوامها شراء الجهة التي تقوم باستخدام العامل لقوة العمل بعد عرضها عليه. فلا يحمل المواطن على العمل حملاً بأن يدفع إليه قسراً, أو يفرض عليه عنوة, إلا أن يكون ذلك وفق القانون – وبوصفه تدبيراً استثنائياً لإشباع غرض عام, وبمقابل عادل. وهي شروط تطلبها الدستور في العمل الإلزامي, وقيد المشرع بمراعاتها في مجال تنظيمه كي لا يتخذ شكلاً من أشكال السخرة المنافية في جوهرها للحق في العمل باعتباره شرفاً، والمجافية للمادة 13 من الدستور بفقرتيها.
وحيث إنه متى كان ذلك, وكان اقتضاء الأجر العادل مشروطاً بالفقرة الثانية من المادة 13 من الدستور كمقابل لعمل تحمل الدولة مواطنيها عليه قسراً, استيفاءً من جانبها لدواعي الخدمة العامة, ونزولاً على مقتضياتها, فإن الوفاء بهذا الأجر توكيداً للعدل الاجتماعي, وإعلاء لقدر الإنسان وقيمته, واعترافاً بشخصيته المتنامية, وما يتصل بها من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية, يكون بالضرورة التزاماً أحق بالحماية الدستورية، وأكفل لموجباتها كلما كان مقابلاً لعمل تم أداؤه في نطاق رابطة عقدية أو علاقة تنظيمية ارتباط طرفاها بها, وتحدد الأجر من خلالها, وذلك انطلاقاً من ضرورة التمكين للقيم الأصيلة الخلقية والاجتماعية التي يلتزم المجتمع بالتحلي بها, والتماس الطرق إليها, والعمل على إرسائها على ما تقضي به المادة 12 من الدستور, ونزولاً على حقيقة أن الأجر وفرص العمل وربطهما معاً بالإنتاجية, تمثل جميعها ملامح أساسية لخطة التنمية الشاملة التي تنظم اقتصاد الدولة, وتتوخى زيادة الدخل القومي، وتضمن عدالة توزيعه وفقاً لحكم المادة 23 من الدستور, ولأن الأجر – محدداً وفق شروط مرضية – ضمانة جوهرية لإسهام المواطن في الحياة العامة بمختلف صورها, وهو إسهام غدا واجباً وطنياً لنص المادة 62 من الدستور.
وحيث إن الدستور إذ عهد بنص المادة 122 إلى المشرع بصوغ القواعد القانونية التي تقرر بموجبها على خزانة الدولة, مرتبات المواطنين ومعاشاتهم وتعويضاتهم وإعاناتهم ومكافآتهم على أن ينظم أحوال الاستثناء منها, والجهات التي تتولى تطبيقها, فذلك لتهيئة الظروف التي تفي باحتياجاتهم الضرورية, وتكفل مقوماتها الأساسية التي يتحررون بها من العوز, وينهضون معها بمسئولية حماية أسرهم والارتقاء بمعاشها, بما مؤداه أن التنظيم التشريعي للحقوق التي كفلها المشرع في هذا النطاق، يكون مجانباً أحكام الدستور، منافياً لمقاصده, إذا تناول هذه الحقوق بما يهدرها أو يفرغها من مضمونها.
ولازم ذلك أن الحق في المعاش – إذا توافر أصل استحقاقه وفقاً للقانون – إنما ينهض التزاماً على الجهة التي تقرر عليها. وهو ما تؤكده قوانين التأمين الاجتماعي – على تعاقبها – إذ يبين منها أن المعاش الذي تتوافر – بالتطبيق لأحكامها – شروط اقتضائها, عند انتهاء خدمة المؤمن عليه وفقاً للنظم المعمول بها، يعتبر التزاماً مترتباً بنص القانون في ذمة الجهة المدنية. وإذ كان الدستور قد خطا بمادته السابعة عشرة خطوة أبعد في اتجاه دعم التأمين الاجتماعي, حين ناط بالدولة، أن تكفل لمواطنيها خدماتهم التأمينية – الاجتماعية منها والصحية – بما في ذلك تقرير معاش لمواجهة بطالتهم أو عجزهم عن العمل أو شيخوختهم في الحدود التي يبينها القانون, فذلك لأن مظلة التأمين الاجتماعي – التي يمتد نطاقها إلى الأشخاص المشمولين بها – هي التي تكفل لكل مواطن الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية التي لا تمتهن فيها آدميته, والتي توفر لحريته الشخصية مناخها الملائم, ولضمانه الحق في الحياة أهم روافدها، وللحقوق التي يمليها التضامن بين أفراد الجماعة التي يعيش في محيطها، مقوماتها، بما يؤكد انتماءه إليها, وتلك هي الأسس الجوهرية التي لا يقوم المجتمع بدونها, والتي تعتبر المادة 7 من الدستور مدخلاً إليها.
وحيث إن البين من الأوراق أن المدعيين كانوا قد عينوا – بعد انتهاء خدمتهم بجهاتهم الأصلية التي استحقوا عنها قبل بلوغهم سن التقاعد، المعاش المقرر وفقاً لنظمها – بشركة الاتحاد العربي للنقل البحري, واستمروا خلال عملهم بها يجمعون بين أجورهم عن هذا العلم ومعاشاتهم تلك, إلى أن تقرر حرمانهم منها إعمالاً لنص الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي السالف بيانها, باعتبار أنهم عادوا – بعد استحقاقهم المعاش – للعمل في جهة تقرر لها نظام بديل للتأمين، وكان الحق في معاشاتهم تلك لا يعتبر منافياً للحق في أجورهم، ولا يحول دون اجتماعهما باعتبارهما مختلفين مصدراً وسبباً, ذلك أنه بينما يعتبر نص القانون مصدراً مباشراً للحق في معاشاتهم, فإن أجورهم مرجعها إلى قيام رابطة العمل التعاقدية، وترتد إليها في مصدرها المباشر. كذلك يعتبر المعاش مستحقاً عن مدد خدماتهم الأصلية بالجهات التي كانوا يعملون بها وأدوا عنها حصصهم في التأمين الاجتماعي وفقاً للقواعد التي تقرر المعاش بموجبها وتحدد مقداره على ضوئها, وذلك خلافاً للأجور التي يستحقونها من الجهة التي عادوا للعمل بها, إذ يعتبر مقابلاً مشروعاً لعملهم فيها, وباعثاً دفعهم إلى التعاقد معها, ليكون القيام بهذا العمل سبباً لاستحقاقها، وكانت الفقرة الثانية من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي، تدل بعباراتها على أن المشرع عامل أجور المدعيين باعتبارها بديلاً عن معاشاتهم, حال أن الالتزام لا يكون بدلياً إلا إذا قام المحل البديل فيه مقام المحل الأصلي, وهو بذلك يفترض مديناً واحداً تقرر البدل لمصلحته, إذ تبرأ ذمته إذا أداه بدل المحل الأصلي. ولا كذلك حق المدعيين في الجمع بين المعاش والأجر, ذلك أن الالتزام بهما ليس مترتباً في ذمة مدين واحد, ولا يقوم ثانيهما مقام أولهما, فضلاَ عن اختلافهما مصدراً. ومن ثم ينحل العدوان على أيهما إلى إخلال بالملكية الخاصة التي كفل الدستور في المادة 34 منه أصل الحق فيها, وأحاطها بالحماية اللازمة لصونها والتي جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على انصرافها إلى الحقوق الشخصية والعينية على سواء, واتساعها بالتالي للأموال بوجه عام.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، فإن النص المطعون عليه – بالتحديد السالف البيان – يكون قد خالف أحكام المواد 7 و12 و13 و34 و62 و122 من الدستور، ومن ثم يتعين القضاء بعدم دستوريته.
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 40 المشار إليها تقضي بأنه إذا كان الأجر الذي سوى عليه المعاش, أو مجموع ما كان يتقاضاه من أجر في نهاية مدة خدمته السابقة أيهما أكبر, يجاوز الأجر المستحق له عن العمل المعاد إليه, يؤدي إليه المعاش الفرق بينهما, على أن يخفض الجزء الذي صرف من المعاش بمقدار ما يحصل عليه من زيادات في أجره, وكانت هذه الفقرة تتناول بحكمها فئتين من أصحاب المعاش, أولاهما من عاد منهم إلى عمل يخضعه لأحكام قانون التأمين الاجتماعي، ثانيهما من عاد منهم إلى عمل بإحدى الجهات التي تخرج من مجال تطبيق هذا القانون لوجود نظام تأمين بديل مقرر لها, وكان نطاق الطعن الماثل قد انحصر في الفئة الثانية, وكان ما يتصل من أحكام الفقرة الثانية من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي بتلك الفئة التي اقتصر عليها مجال الطعن, يرتبط بأجزاء الفقرة الأولى من المادة المشار إليها – والتي انتهت المحكمة على ما سلف إلى عدم دستوريتها – ارتباطاً لا يقبل التجزئة, ولا يمكن فصلها عنها, فإنها تسقط تبعاً لإبطالها.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة أولاً: بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975 وذلك فيما نصت عليه من أنه إذا عاد صاحب المعاش إلى عمل بإحدى الجهات التي خرجت من مجال تطبيق قانون التأمين الاجتماعي لوجود نظام بديل مقرر وفقاً للقانون, يوقف صرف معاشه اعتباراً من أول الشهر التالي وذلك حتى تاريخ انتهاء خدمته بالجهات المشار إليها، أو بلوغه السن المنصوص عليها بالبند 1 من المادة 18 أيهما أسبق. ثانياً: بسقوط ما يتصل بها من أحكام الفقرة الثانية من المادة 40 من قانون التأمين الاجتماعي.
وسوم : حكم دستورية