الخط الساخن : 01118881009
جلسة 20 مايو سنة 1995
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر – رئيس المحكمة، وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين – أعضاء، وحضور السيد المستشار الدكتور حنفي على جبالي – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
(القاعدة رقم43)
القضية رقم 5 لسنة 15 قضائية “دستورية”
1 – ذبائح – تشريع “القانون رقم 53 لسنة 66 بإصدار قانون الزراعة”.
وفقاً للبند ( أ ) من المادة 137 من هذا القانون، يجوز لوزير الزراعة أن يصدر القرارات المتعلقة بشروط ذبح الحيوانات, ونقل لحومها ومخلفاتها وعرضها للبيع.
2 – ذبائح – تفويض تشريعي “قرار وزير الزراعة رقم 517 لسنة 1986”.
بناء على التفويض المخول لوزير الزارعة، بمقتضى البند ( أ ) من المادة 137 من القانون رقم 53 لسنة 1966 بإصدار قانون الزراعة, أصدر هذا الوزير القرار رقم 517 لسنة 1986, الذي حظرت فقرته الأولى عرض أو بيع لحوم، أو أجزاء، أو أعضاء، أو أحشاء، أو دهون الحيوانات المريضة أو التالفة غير الصالحة للاستهلاك الآدمي، ونصت فقرته الثانية – المطعون عليها – على أن (تعتبر أجزاء الذبائح الغير مختومة بخاتم المجزر الرسمي, والمعروضة للبيع, غير صالحة للاستهلاك الآدمي, ويتعين إعدامها).
3 – دعوى دستورية “المصلحة فيها” “نطاق الطعن”.
المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها ارتباطها بالمصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية, وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات المرتبطة بها, والمطروحة أمام محكمة الموضوع. وإذ كان الثابت أن اتهام المدعي يقوم على افتراض عدم صلاحية أجزاء الذبائح التي يعرضها للبيع للاستهلاك, الآدمي ترتيباً على عدم ختمها بخاتم المجزر الرسمي, فإن الفقرة/ 2 من المادة 25 من قرار وزير الزارعة رقم 517 لسنة 1986، هي التي ينحصر فيها نطاق الطعن.
4 – أغذية “التزام الدولة بمراقبة سلامتها: أساس ذلك”.
مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها من أولى المهام التي تقوم عليها الدولة, وتنفيذاً لهذا الالتزام صدر القانون رقم 10 لسنة 1966 مفصلاً الأحوال التي تعتبر الأغذية فيها غير صالحة للاستهلاك الآدمي وفق الأسس الموضوعية التي حددها.
5 – ذبائح “قرار وزير الزارعة والأمن الغذائي رقم 517 لسنة 1986″ القرينة القانونية التي أنشأها”.
انسحاب حكم الفقرة الثانية من المادة 25 من قرار وزير الزراعة المشار إليه, والصادر بناء على التفويض التشريعي الذي تضمنه البند ( أ ) من المادة 137 من قانون الزراعة – إلى أمرين:
1 – أن اللحوم المعروضة للبيع تعتبر فاسدة لمجرد عدم ختمها بالخاتم الرسمي لأحد المجازر العامة.
2 – أن عارضها يعلم بفسادها.
مؤدى ذلك أن القرينة التي تضمنتها هذه الفقرة، لا تقوم على مجرد افتراض القصد الجنائي, بل تجاوز ذلك إلى افتراض الأفعال المكونة للجريمة.
6 – دستور “علو الأحكام التي يتضمنها” “تحديده وظائف السلطات العامة”.
الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد لكل من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحيتها, بما يحول دون تدخل أي منها في أعمال السلطة الأخرى, أو مزاحمتها في ممارستها لاختصاصاتها التي ناط الدستور بها.
7 – دستور “اختصاص السلطة التشريعية أصلاً بإقرار القوانين” “اختصاص السلطة التنفيذية أحياناً بتحديد بعض جوانب التجريم” “أساس ذلك: المادتان 66 و86 من الدستور”.
عهدت المادة 86 من الدستور إلى السلطة التشريعية بسن القوانين, وخولت المادة 66 منه السلطة التنفيذية تحديد بعض نواحي التجريم والعقاب توكيداً لما جري عليه العمل من قبل من إسناد الاختصاص إلى السلطة التنفيذية بإصدارها لقرارات لائحية في هذا الشأن لا تندرج تحت اللائحة التفويضية أو التنفيذية، وإنما يقوم هذا الاختصاص مستنداً إلى نص المادة 66 من الدستور.
8 – دستور “المادة 66منه” “مؤداها: لكل جريمة ركن مادي”.
ما نصت عليه المادة 66 من الدستور, يدل على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره، يتمثل أساساً في فعل، أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي, والأفعال ذاتها هي مناط التأثيم وعلته, ولا يتصور وجود جريمة في غيبة ركنها المادي. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها, وتم التعبير عنها خارجياً في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
9 – دستور “الحق في المحاكمة المنصفة” “مقوماتها”.
الحق في المحاكمة المنصفة كفله الدستور في المادة 67 التي تنص على أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية يكفل له فيها ضمانات الدفع عن نفسه. هذا الحق يستمد أصله من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويردد هذا الحق، قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدولة الديمقراطية، تقع في إطارها مجموعة من الضمانات الرئيسية التي تكفل بتكاملها مفهوماً للعدالة يتفق مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الأمم المتحضرة كذلك المتعلقة بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها.
10 – دستور “الحق في المحاكمة المنصفة” “الإخلال بمقوماتها, مساس بالحرية الشخصية”.
قاعدة الحق في المحاكمة المنصفة, تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي لا يجوز – طبقاً للدستور – الإخلال بها على خلاف أحكامه. ذلك أن إدانة المتهم تعرض حريته لأخطر القيود وأكثرها تهديداً لحقه في الحياة، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيعها إلى على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية.
11 – دستور “طبيعة الحماية التي يكفلها للحقوق التي نص عليها” “قرينة البراءة – نطاقها ونتائجها”.
يكفل الدستور للحقوق التي نص عليها في صلبه, الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية, ويندرج افتراض البراءة تحت صور الحماية التي كفلها للحرية الشخصية، وهو افتراض بتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها, وليس بنوع العقوبة المقررة لها, وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها, ومؤداه ألا ينقض بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها محكمة الموضوع, ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها, وأن تقول كلمتها فيها.
12 – دستور “الحق في المحاكمة المنصفة” “ضوابطها”.
تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد التي تعكس مضامينها نظاماً متكاملاً يتوخى كرامة الإنسان, وحماية حقوقه الأساسية, ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها, انطلاقاً من الإيمان بحرمة الحياة الخاصة, وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية. وجوب التزام هذه القواعد مجموعة من القيم تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التي لا يجوز النزول عنها, ويندرج تحتها قاعدة أصل البراءة التي حرص الدستور على إبرازها في المادة 67 منه, مؤكداً بمضمونها ما قررته الوثائق الدولية من مبادئ.
13 – افتراض البراءة “دحضها”.
الاتهام الجنائي لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوماً، ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثنائها, لا سبيل إلى دحض أصل البراءة بغير الأدلة الجازمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي بات.
14 – افتراض البراءة “ليس بقرينة قانونية – هو الأصل في الإنسان”.
افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية, ولا هو من صورها، بل يؤسس على الفطرة التي جبل الإنسان عليها, إلى أن تنقض محكمة الموضوع, بقضاء جازم لا رجعة فيه, هذا الافتراض بناء على الأدلة المثبتة للجريمة قبل المتهم.
15 – افتراض البراءة – “المحاكمة المنصفة – قرائن قانونية”.
أصل البراءة من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور. يعكس أصل البراءة قاعدة مبدئية تقتضيها الشرعية الإجرائية, وإنفاذها يعتبر مفترضاً أو لياً لإدارة العدالة الجنائية, ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل, وما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية يصوغها.
16 – الملكية الخاصة “حمايتها – وظيفتها الاجتماعية”.
إعلاء من الدستور لدور الملكية الخاصة كفل – في المادتين 32, 34 – حمايتها لكل فرد، وطنياً أم أجنبياً، ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، ولم تعد الملكية حقاً مطلقاً، بل ساغ تحميلها بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية.
17 – جرائم “قرائن” – “مبدأ الفصل بين السلطات”.
الاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقدير عقوبتها, لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة عن القيام بمهمتها الأصلية في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطات.
18 – ذبائح – تشريع “قرار وزير الزراعة المشار إليه” “مبناه قرينة تحكمية تنقض افتراض البراءة، وتخل بالحرية الشخصية”.
القرينة القانونية التي تضمنتها الفقرة الثانية من المادة 25 من القرار المشار إليه – حتى بافتراض جواز الاحتجاج بالقرائن القانونية في المجال الجنائي – لا تقوم على ما هو راجح عملاً، ذلك أن المشرع نقض بهذه القرينة ما يفترض أصلاً في الذبائح، وهو صلاحيتها للاستهلاك آدمياً. إعفاء نص هذه الفقرة النيابة العامة من التزامها – إثبات أركان الجريمة – منحياً بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها. اعتباراً ذلك انتحالاً لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية, وإهدار لافتراض البراءة, وإخلالاً بالحرية الشخصية.
19 – دستور “افتراض البراءة” “الوسائل الإجرائية الإلزامية الدستورية التي يقترن بها”.
إخلال النص المشار إليه – من خلال القرينة القانونية التي أنشأها – بالوسائل الإجرائية التي تقترن بافتراض البراءة، ومن بينها حق المتهم في مواجهة أدلة الاتهام التي عرضتها النيابة العامة, وكذلك الحق في دحضها بأدلة النفي التي يقدمها.
1 – البين من القانون رقم 53 لسنة 1966 بإصدار قانون الزراعة, أنه نظم الثروة الزراعية ومكافحة آفاتها, ثم عرج للثروة الحيوانية لضمان تنميتها وحمايتها, وتناول في الباب الثاني من الكتاب الثاني الصحة الحيوانية, وعرض في الفصل الأول منه لمكافحة الحيوان, وفي الفصل الثاني للحجر البيطري, وفي الفصل الثالث لذبح الحيوانات وسلخها وحفظ جلودها, وصدَّره بالمادة 136 التي تنص على أنه: “لا يجوز في المدن والقرى التي يوجد بها أماكن مخصصة رسمياً للذبح أو مجازر عامة, ذبح أو سلخ الحيوانات المخصصة لحومها للاستهلاك العام خارج تلك الأماكن أو المجازر المعدة لذلك. وتحدد هذه الأماكن بقرار من وزير الزراعة”. ثم أتبعها بالمادة 137 التي تخول وزير الزراعة أن يصدر القرارات المنفذة لأحكام هذا الفصل, وبوجه خاص:
( أ ) ما تعلق منها بتحديد شرط ذبح الحيوانات ونقل لحومها ومخلفاتها، وعرضها للبيع, والرسوم التي تمنح على الذبح.
2 – إعمالاً للتفويض التشريعي الذي تضمنه البند ( أ ) من المادة 137 من قانون الزراعة, أصدر وزير الزراعة والأمن الغذائي, القرار رقم 517 لسنة 1986. وبعد أن نص هذا القرار في المادة 23، على أن تضبط لحوم الحيوانات التي تذبح بالمخالفة لأحكام المواد 109, 136, 137 ( أ ) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، ويتم إعدامها إذا كانت غير صالحة للاستهلاك الآدمي، قضى في الفقرة الثانية من المادة 25, بأن تعتبر أجزاء الذبائح غير المختومة بخاتم المجزر الرسمي, والمعروضة للبيع, غير صالحة للاستهلاك الآدمي, ويتعين إعدامها.
3 – المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها ارتباطها بالمصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات المرتبطة بها, والمطروحة أمام محكمة الموضوع؛ متى كان ذلك, وكان الثابت من الأوراق أن التهمة الثانية التي نسبتها النيابة العامة إلى المتهم, ترتكز في أساسها على الفقرة الثانية من المادة 25 من قرار وزير الزراعة والأمن الغذائي رقم 517 لسنة 1986 آنف البيان, وذلك فيما تقوم عليه من افتراض عدم صلاحية أجزاء الذبائح التي ضبط المدعي يعرضها للبيع, دون ختمها بخاتم المجزر الرسمي، للاستهلاك الآدمي, فإن هذه الفقرة وحدها هي التي ينحصر فيها نطاق الطعن.
4 – إذ كانت مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، من أولى المهام التي تقوم عليها الدولة تنفيذاً لخدماتها الصحية التي ألزمها الدستور بالوفاء بها وفقاً لنص المادتان 16 و17، ويندرج تحت ذلك ضمان خلوها من الأمراض, والتحقق من توافر مواصفاتها الصحية التي تنفي عنها تلوثها أو فسادها, وكذلك مراقبة المشتغلين بها سواء في وسائل تصنيعها، أو نقلها أو عرضها وطرحها للبيع, فقد فصل القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها – في مادتيه الثانية والثالثة – الأحوال التي تعتبر فيها الأغذية غير صالحة للاستهلاك الآدمي, سواء لإضرارها بالصحة أو فسادها أو تلفها. ذلك استقراء أحكام هذا القانون, يدل على أن الأغذية لا تعتبر صالحة للاستهلاك الآدمي إلا في أحوال بذاتها حددها هذا القانون حصراً، وتناولها تفصيلاً بالبيان, فلا تكون الأغذية ضارة بالصحة, أو فاسدة، أو تالفة، إلا وفق عناصر موضوعية تقوم بهذه الأغذية, أو تتصل بها, ويكون ثبوتها مانعاً من تداولها, وقاطعاً بانتفاء صلاحيتها لاستهلاكها آدمياً.
5 – إذ كان المتهم, قد قدم إلى المحاكمة الجنائية بوصف أنه عرض للبيع شيئاً من أغذية الإنسان (لحوم) فاسداً مع علمه بذلك, وكان المحضر الذي حرره مأمور الضبط القضائي عن الواقعة محل الاتهام، يتضمن عرضه للبيع لحماً ذبح خارج المجازر العامة, واعتبر لذلك غير صالح آدمياً للتناول عملاً بالفقرة الثانية من المادة 25 من قرار وزير الزراعة رقم 517 لسنة 1986 التي تنص على أن تعتبر أجزاء الذبائح غير المختومة بالخاتم الرسمي, والمعروضة للبيع, غير صالحة لاستهلاكها آدمياً، فإن حكم هذه الفقرة يكون منسحباً إلى أمرين: أو لهما: أن اللحوم المعروضة للبيع تعتبر فاسدة لمجرد عدم ختمها بالخاتم الرسمي لأحد المجازر العامة, ثانيهما. أن عارضها يعلم بفسادها, يما مؤداه أن القرينة القانونية التي تضمنها الني المطعون فيه, لا تقوم على مجرد افتراض القصد الجنائي, بل تجاوز ذلك إلى افتراض مادية الأفعال التي تتكون الجريمة منها.
6 – إن الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم, ويقرر الحريات والحقوق العامة, ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها, ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها, ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها, بما يحول دون تدخل أي منها في أعمال السلطة الأخرى, أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها, التي ناطها الدستور بها.
7 – إذ اختصت السلطة التشريعية بسن القوانين وفقاً للمادة 86 من الدستور التي تقضي بأن “يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع, ويقر السياسة العامة للدولة, والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية, والموازنة العامة للدولة, كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية, وذلك كله على الوجه المبين في الدستور”، وكانت المادة 66 من الدستور تنص على أنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون” وهو ما لا يعدو توكيداً لما جرى عليه العمل من قيام المشرع بإسناد الاختصاص إلى السلطة التنفيذية بإصدار قرارات لائحية تحدد بها بعض جوانب التجريم والعقاب, وذلك في الحدود التي يبينها القانون, ولاعتبارات يقتضها الصالح العام. وإذ تباشر السلطة التنفيذية هذا الاختصاص, فإن عملها لا يعتبر من قبيل اللوائح التفويضية المنصوص عليها في المادة 108 من الدستور, ولا يندرج كذلك تحت اللوائح التنفيذية التي نظمتها المادة 144، إنما يقوم هذا الاختصاص استناداً لنص المادة 66 من الدستور, التي تعهد للسلطة التنفيذية بتحديد بعض جوانب التجريم والعقاب.
8 – إن الدستور – في اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة, ومتابعة خطاها, والتقيد بمناهجها التقدمية – نص في المادة 66, على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلى بناء على قانون, ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها, وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره, يتمثل أساساً في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي, مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء – في زواجره ونواهيه – هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً, ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه, محورها الأفعال ذاتها, في علامتها الخارجية, ومظاهرها الواقعية, وخصائصها المادية, إذ هي مناط التأثيم وعلته, وهي التي يتصور إثباتها ونفيها, وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض, وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها, وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي, فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعاً واضحاً, ولكنها تجيل بصرها فيها, منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيراً خارجياً ومادياً عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالي وفقاً لأحكام الدستور, أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي, ولا أن يقوم الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التي أحدثها، بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. لازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته – تعتبر واقعة في منطقة التجريم, كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاًُ عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها, وتم التعبير عنها خارجاً في صورة مادية لا تخطئها العين, فليس ثمة جريمة.
9 – تحوط الدستور في مادته السابعة والستين، للحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة, التي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقاً مكتملاً ومتكافئاً مع غيره في محاكمة علنية, ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة, تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية, أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولى – حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية، في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية, توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة هي التي تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها, وهي تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية, وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهومها للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة، وهي بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها, وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضى الدستور في المادة 41، بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها، أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية, وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة, ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي, وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوماً في الدعوى الجنائية, وذلك أياً كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها.
10 – إن إدانة المتهم بالجريمة, إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية, وأكثرها تهديداً لحقه في الحياة، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية, وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى. ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائي معرفاً بالتهمة, مبيناً طبيعتها, مفصلا أدلتها, وكافة العناصر المرتبطة بها, وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون, وأن تجري المحاكمة علانية, وخلال مدة معقولة، وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة – إذا خلصت إليها – إلى موضوعية التحقيق الذي تجريه، وإلى عرض متجرد للحقائق, وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة. وذلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها. ومن ثم كفلها الدستور في المادة 67، وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها, هما افتراض البراءة من ناحية, وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى, وهو حق عززته المادة 69 من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول.
11 – يكفل الدستور للحقوق التي نص عليها في صلبه الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية, وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة أنفة البيان – عند فصلها في الاتهام الجنائي – تحقيقاً لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة, لا يعدو أن يكون ضمانه أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التي كفلها الدستور لكل مواطن – بغير الوسائل القانونية التي لا يترخص أحد في التقيد بها, والنزول عليها. وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها, وليس بنوع العقوبة المقررة لها, وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها, وعلى امتداد إجراءاتها، فقد غدا من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها محكمة الموضوع، وتتكون من جماعها عقيدتها.
ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها, وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها, وألا تفرض عليها أي جهة أخرى مفهوماً محدداً لدليل بعينه, وأن يكون مرد الأمر دائماً إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى, وحصلته من أوراقها، غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
12 – تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاماً متكامل الملامح, يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية, ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها. وذلك انطلاقاً من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة, وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية, ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صوناً للنظام الاجتماعي بالأغراض النهائية للقوانين العقابية, التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفاً مقصوداً لذاته, أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها, مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. ويجب بالتالي أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الأدنى من الحماية التي لا يجوز النزول عنها, أو الانتقاص منها. وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية في الأصل – إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية, ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء, وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67، مؤكداً بمضمونها ما قررته المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما سلف بيانه, والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية, لحماية حقوق الإنسان.
13 – إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبهاً فيه، أو متهماً، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها, لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين, وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد، إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام. ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي لازم الفرد دوماً ولا يزايله, سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة، أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها, وأياً كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين, بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة انتفاء التهمة, وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفذ طرق الطعن فيه, وصار باتاً.
14 و15 – إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية, ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلاً في الواقعة مصدر الحق المدعي به, إلى واقعة أخرى قرينة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة، هي التي يعتبر إثباتها إثباتاً للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور. فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلاً عنهاInnocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption. It does not rest on any other proved it is assumed وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها, فقد ولد حراً من الخطيئة أو المعصية. ويفترض على امتداد مراحل حياته, أن أصل البراءة لا زال كامناً فيه, مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال, إلى أن تنقض محكمة الموضوع هذا الافتراض, بقضاء جازم يصدر على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها, وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلباً فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة, إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل, واضحة وضوح الحقيقة ذاتها, تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإرادة العدالة الجنائية, ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية, وليوفر من خلالها لكل فرد، الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل, بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل, ويما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئوها.
16 – إن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة, وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي – كفل حمايتها – في المادتين 32 و34 – لكل فرد – وطنياً كان أم أجنبياً – ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء, وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة – في الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها, بذل من أجلها الوقت والعرق والمال, وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها, وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها, معبداً لها الطريق إلى التقدم، كافلاً للتنمية أهم أدواتها, محققاً من خلالها إرادة الإقدام, هاجعاً إليها لتوفر ظروفاً أفضل لحرية الاختيار والتقرير, مطمئناً في كنفها إلى يومه وغده, ومهيمناً عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها, فلا يرده عنها معتد، ولا يناجز سلطته في شأنها خصيم ليس بيده سند ناقل لها، وليعتصم بها من دون الآخرين، وليلتمس من الدستور وسائل حمايتها التي تعينها على أداء دورها, وتقيها تعرض الأغيار لها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها. ولم يعد جائزاً بالتالي أن ينال المشرع من عناصرها, ولا أن يغير من طبيعتها, أو يجردها من لوازمها، ولا أن يفصلها عن أجزائها، أو يدمر أصلها, أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. ودون ذلك تفقد الملكية ضماناتها الجوهرية, ويكون العدوان عليها غصباً، وافتئاتاً على كيانها أدخل إلى مصادرتها. وبقدر اتساع قاعدة الملكية تتعدد ورافدها, وتتنوع استخداماتها، لتشكل نهراً يتدفق بمصادر الثروة القومية التي لا يجوز إهدارها, أو التفريط فيها أو بعثرتها تبديداً لقيمتها ولا تنظيمها بما يخل بالتوازن بين نطاق حقوق الملكية المقررة عليها. وضرورة تقييدها نأياً عن الانتهاز, أو الإضرار بحقوق الآخرين. ذلك أن الملكية – في إطار النظم الوضعية التي تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة – لم تعد حقاً مطلقاً، ولا هي عصية على التنظيم التشريعي. وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها. ومن ثم ساغ تحميلها بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية. وهي وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ, ولا تفرض نفسها تحكماً، بل تميلها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التي ينبغي رصدها عليها, محددة على ضوء واقع اجتماعي معين في بيئة بذاتها لها توجهاتها ومقوماتها, وبمراعاة أن القيود التي يفرضها الدستور على حق الملكية للحد من إطلاقها, لا تعتبر مقصودة لذاتها, بل غايتها خير الفرد والجماعة.
17 و18 – الجريمة محل الاتهام من الجرائم العمدية, التي يتعين أن يكون الدليل على توافر عناصرها جميعها يقينياً لا ظنياً، أو افتراضياً, وكان الاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم, وتقدير عقوباتها, لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد محكمة الموضوع عن القيام بمهمتها الأصلية في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, وكان الأصل في القرائن القانونية – قاطعة كانت أم غير قاطعة – هو أنها من عمل المشرع، إذ يحدد مضمونها على ضوء ما يكون في تقديره معبراً عما يقع غالباً في الحياة العملية I’ idee de probabilité، وكانت القرينة القانونية التي أنشأها النص المطعون فيه – حتى بافتراض جواز الاحتجاج بالقرائن القانونية في المجال الجنائي – لا تعتبر كذلك. ذلك أن الأصل في الذبائح هو خلوها من أمراضها أو مما يخرجها بوجه عام عن طبيعتها. والأمر العارض هو انتفاء سلامتها وتعييبها. ولا يكون ذلك إلا بالوسائل العلمية وحدها يباشرها أهل الخبرة المتخصصون. وما ذلك إلا حملاً على قاعدة أصولية ثابتة مفادها أن الأصل في الصفات العارضة العدم. وقد نقض المشرع بالقرينة التي أحدثها ما يفترض أصلاً في الذبائح, وهو صلاحية استهلاكها آدمياً. وكان يجب على النيابة العامة – وهي تدعي خلاف الأصل – أن تقيم الدليل على ادعائها، إلا أن النص المطعون فيه أعفاها من التزامها هذا, وأحلها كذلك من التدليل على توافر القصد الجنائي في الجريمة محل الاتهام, منحياً بذلك محكمة الموضوع عن تحقيق أركانها، وهو ما يعد انتحالاً تشريعياً لاختصاص مخول للسلطة القضائية, وإهداراً لافتراض البراءة من التهمة التي نسبتها النيابة العامة إلى المتهم, في كل وقائعها وعناصرها. وإخلالاً بالحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقاً طبيعياً لكل إنسان.
19 – من المقرر كذلك أن افتراض البراءة يقترن دائماً من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية, تعتبر من زاوية دستورية وثيقة الصلة بالحق في الدفاع, من بينها حق المتهم في مواجهة الأدلة التي طرحتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة, وكذلك الحق في نفيها بأدلة النفي التي يقدمها, وكان النص المطعون فيه قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية، وذلك بأن جعل المتهم مواجهاً بواقعة أثبتتها القرينة في حقه دون دليل يظاهرها, ومكلفاً بنفيها خلافاً للأصل في الأشياء، وبما يناقض افتراض البراءة ويجرده من محتواه عملاً, ويخل بضمانه الدفاع التي لا يجوز في غيابها تحقيق الواقعة محل الاتهام الجنائي, أو إدانة المتهم عنها, وكان النص المطعون فيه, فوق هذا, قد حتم إعدام الذبائح التي اعتبرها “حُكُمْاً” فاسدة أو تالفة أو مضرة بالصحة, وهو ما يعد عدواناً منه على حق الملكية الخاصة التي كفل الدستور صونها.
الإجراءات
في الرابع من فبراير سنة 1993 أو دع المدعي قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة، طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة 25 من قرار نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة والأمن الغذائي رقم 517 لسنة 1986 بشان ذبح الحيوانات وتجارة اللحوم.
وقدمت هيئة قضايا الدولة, مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أو دعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق, والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعي كان قد ضبط بتاريخ 13 يونيو سنة 1991 بدائرة قسم ثان طنطا, يعرض لحم بقر ذبح خارج المجازر العامة, واعتبر لذلك غير صالح للاستهلاك الآدمي وفقاً للمادة 25 من القرار الوزاري رقم 517 لسنة 1986 بشأن ذبح الحيوانات وتجارة اللحوم, فأحالته النيابة العامة إلى المحاكمة الجنائية, طالبة عقابه لارتكابه جريمتين. أولاهما: ذبحه حيوانات مخصص لحومها للاستهلاك الآدمي خارج المجازر العامة المخصصة للذبح؛ وثانيتهما: عرضه للبيع شيئاً من أغذية الإنسان (لحوم) فاسداً مع علمه بذلك, فقضى غيابياً بمعاقبته – عما نسب إليه – بالحبس ستة أشهر والنشر في صحيفتين يوميتين على نفقته والمصادرة، فطعن في هذا الحكم بطريق المعارضة التي قضي بقبولها شكلاً وفي الموضوع برفضها وتأييد الحكم المعارض فيه. وقد استأنف هذا الحكم, وقضى غيابياً بسقوط الحق في الاستئناف، فعارض في هذا الحكم الأخير, ودفع بعدم دستورية نص المادة 25 من القرار الوزاري المشار إليه. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه، وصرحت له بالطعن بعدم الدستورية, فقد أقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة 25 من قرار نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة والأمن الغذائي رقم 517 لسنة 1986 بشأن ذبح الحيوانات وتجارة اللحوم، تنص على أنه: فقرة أولى “يحظر أن تعرض أو تباع لحوم أو أجزاء أو أعضاء أو أحشاء أو دهون الحيوانات المريضة, أو التالفة غير الصالحة للاستهلاك الآدمي”.
فقرة ثانية “وتعتبر أجزاء الذبائح – الغير مختومة بخاتم المجزر الرسمي، والمعروضة للبيع غير صالحة للاستهلاك الآدمي، ويتعين إعدامها”.
وحيث إن المدعي ينعى على الفقرة الثانية من المادة 25 المطعون عليها, افتراضها عدم صلاحية أجزاء الذبائح المعروضة للبيع – وغير المختومة بخاتم المجزر الرسمي – للاستهلاك الآدمي, وكذلك افتراض علم عارضها للبيع بفسادها وبذلك يكون هذا النص قد مس الحرية الشخصية, وأهدر افتراض البراءة، وأخل بحق الدفاع، وجاوز حدود ولاية المشرع، ونقض استقلال السلطة القضائية ومبدأ الفصل بين السلطات، مما يصم هذا النص بمخالفته أحكام المواد 41 و67 و69 و86 و165 من الدستور.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها ارتباطها بالمصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات المرتبطة بها, والمطروحة أمام محكمة الموضوع. متى كان ذلك, وكان الثابت من الأوراق أن التهمة الثانية التي نسبتها النيابة العامة إلى المتهم، ترتكز في أساسها على الفقرة الثانية من المادة 25 من قرار وزير الزارعة والأمن الغذائي رقم 517 لسنة 1986 آنف البيان, وذلك فيما تقوم عليه من افتراض عدم صلاحية أجزاء الذبائح التي ضبط المدعي يعرضها للبيع, دون ختمها بخاتم المجزر الرسمي, للاستهلاك الآدمي فإن هذه الفقرة وحدها هي التي ينحصر فيها نطاق الطعن.
وحيث إن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، من أولى المهام التي تقوم عليها الدولة تنفيذاً لخدماتها الصحية التي ألزمها الدستور بالوفاء بها وفقاً لنص المادتين 16 و17 ويندرج تحت ذلك ضمان خلوها من الأمراض, والتحقق من توافر مواصفاتها الصحية التي تنفي تلوثها أو فسادها, وكذلك مراقبة المشتغلين بها سواء في وسائل تصنيعها، أو نقلها أو عرضها وطرحها للبيع, ومن ثم فصل القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها – في مادته الثانية والثالثة – الأحوال التي تعتبر فيها الأغذية غير صالحة للاستهلاك الآدمي – سواء لإضرارها بالصحة أو فسادها أو تلفها.
وعملاً بالمادة 4 من هذا القانون، تعتبر الأغذية ضارة بالصحة في الأحوال الآتية:
1 – إذا كانت ملوثة بميكروبات أو طفيليات من شأنها إحداث المرض بالإنسان.
2 – إذا كانت تحتوي على مواد سامة تحدث ضرراً لصحة الإنسان إلا في الحدود المقررة بالمادة 11.
3 – إذا تداولها شخص, مريض بأحد الأمراض المعدية التي تنتقل عدواها إلى الإنسان عن طريق الغذاء أو الشراب أو حامل لميكروباتها, وكانت هذه الأغذية معرضة للتلوث.
4 – إذا كانت ناتجة من حيوان مريض بأحد الأمراض التي تنتقل إلى الإنسان أو من حيوان نافق.
5 – إذا امتزجت بالأتربة أو بالشوائب بنسبة تزيد على النسب المقررة, أو كان يستحيل تنقيتها منها.
6 – إذا احتوت على مواد ملوثة, أو مواد حافظة أو أية مواد أخرى محظور استعمالها.
7 – إذا كانت عبواتها أو لفائفها, تحتوي على مواد ضارة بالصحة.
وتنص المادة 5 من هذا القانون على أن تعتبر الأغذية فاسدة أو تالفة إذا تغير تركيبها أو خواصها الطبيعية من حيث طعمها أو رائحتها أو مظهرها نتيجة تحليلها كيماوياً أو ميكروبياً. وكذلك إذا انتهى التاريخ المحدد لاستعمالها, أو احتوت على يرقات، أو ديدان, أو حشرات, أو فضلات, أو مخلفات حيوانية.
وحيث إن البين من القانون رقم 53 لسنة 1966 بإصدار قانون الزراعة, أنه نظم الثروة الزراعية ومكافحة آفاتها, ثم عرج للثروة الحيوانية لضمان تنميتها وحمايتها, وتناول في الباب الثاني من الكتاب الثاني الصحة الحيوانية, وعرض في الفصل الأول منه لمكافحة الحيوان, وفي الفصل الثاني للحجر البيطري, وفي الفصل الثالث لذبح الحيوانات وسلخها وحفظ جلودها, وصدَّره بالمادة 136 التي تنص على أنه: “لا يجوز في المدن والقرى التي يوجد بها أماكن مخصصة رسمياً للذبح أو مجازر عامة, ذبح أو سلخ الحيوانات المخصصة لحومها للاستهلاك العام خارج تلك الأماكن أو المجازر المعدة لذلك, وتحدد هذه الأماكن بقرار من وزير الزراعة” ثم أتبعها بالمادة 137 التي تخول وزير الزراعة أن يصدر القرارات المنفذة لأحكام هذا الفصل, وبوجه خاص:
( أ ) ما تعلق منها بتحديد شرط ذبح الحيوانات ونقل لحومها ومخلفاتها وعرضها للبيع, والرسوم التي تمنح على الذبح.
وتنص المادة 139 من هذا القانون على أن لمأمور الضبط القضائي ضبط لحوم الحيوانات التي تذبح بالمخالفة للمادة 136 أو بالبند ( أ ) من المادة 137… فإذا تبين عدم صلاحيتها للاستهلاك، وجب إعدامها.
وحيث إنه بناء على التفويض التشريعي الذي تضمنه البند ( أ ) من المادة 137 من قانون الزراعة, أصدر وزير الزراعة والأمن الغذائي, القرار رقم 517 لسنة 1986 المشار إليه، وبعد أن نص هذا القرار في المادة 23 منه على أن تضبط لحوم الحيوانات التي تذبح بالمخالفة لأحكام المواد 109, 136, 137 ( أ ) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، ويتم إعدامها إذا كانت غير صالحة للاستهلاك الآدمي، فإذا كانت صالحة، وجب بيعها على أن يودع ثمن بيعها في أقرب خزينة لحساب الهيئة العامة للخدمة البيطرية، ولا يرد صاحبها إلا بعد ثبوت براءته من التهمة الموجهة إليه؛ قضى في الفقرة الثانية من المادة 25 بأن تعتبر أجزاء الذبائح غير المختومة بخاتم المجزر الرسمي, والمعروضة للبيع, غير صالحة للاستهلاك الآدمي, ويتعين إعدامها.
وحيث إن البين من أحكام القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها, أن الأغذية لا تعتبر صالحة للاستهلاك الآدمي إلا في أحوال بذاتها حددها هذا القانون حصراً، وتناولها تفصيلاً بالبيان, فلا تكون الأغذية ضارة بالصحة، أو فاسدة، أو تالفة إلا وفق عناصر موضوعية, تقوم بهذا الأغذية، أو تتصل بها, ويكون ثبوتها مانعاً من تداولها، وقاطعاً بانتفاء صلاحيتها لاستهلاكها آدمياً.
إذ كان ذلك، وكان المتهم قد قدم إلى المحاكمة الجنائية لعرضه للبيع شيئاً من أغذية الإنسان (لحوم) فاسداً مع علمه بذلك, وكان المحضر الذي حرره مأمورو الضبط القضائي عن الواقعة محل الاتهام، يتضمن عرضه للبيع لحماً ذبح خارج المجازر العامة, واعتبر ذلك غير صالح آدمياً للتناول عملاً بالفقرة الثانية من المادة 25 من قرار وزير الزراعة رقم 517 لسنة 1986 التي تنص على أن تعتبر أجزاء الذبائح غير المختومة بالخاتم الرسمي, والمعروض للبيع, غير صالحة لاستهلاكها آدمياً, فإن حكم هذه الفقرة يكون منسحباً إلى أمرين: أولهما: أن اللحوم المعروضة للبيع تعتبر فاسدة لمجرد عدم ختمها بالخاتم الرسمي لأحد المجازر العامة. ثانيهما: أن عارضها يعلم بفسادها، بما مؤداه أن القرينة القانونية التي تضمنها النص المطعون فيه لا تقوم على مجرد افتراض القصد الجنائي, بل تجاوز ذلك إلى افتراض مادية الأفعال التي تتكون الجريمة منها.
وحيث إن الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم, ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها, ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها, ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها, بما يحول دون تدخل أي منها في أعمال السلطة الأخرى, أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التي ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقاً لأحكامه، فنص في المادة 86 على أن “يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع, ويقر السياسة العامة للدولة, والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية, والموازنة العامة للدولة, كما يمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية, وذلك كله على الوجه المبين في الدستور” ونصت المادة 66 من الدستور تنص على أنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون” وهو ما لا يعدو توكيداً لما جرى عليه العمل، من قيام المشرع بإسناد الاختصاص إلى السلطة التنفيذية بإصدار قرارات لائحية تحدد بها بعض جوانب التجريم والعقاب, وذلك في الحدود التي يبينها القانون, ولاعتبارات يقتضها الصالح العام. وإذ يعهد المشرع إلى السلطة التنفيذية بهذا الاختصاص, فإن عملها لا يعتبر من قبيل اللوائح التفويضية المنصوص عليها في المادة 108 من الدستور, ولا يندرج كذلك تحت اللوائح التنفيذية التي نظمتها المادة 144 منه، وإنما يقوم هذا الاختصاص على تفويض بالتشريع استناداً لنص المادة 66 من الدستور, لتحديد بعض جوانب التجريم والعقاب.
ومن جهة أخرى فقد عهد الدستور إلى السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور، فنص في المادة 165 على أن “السلطة القضائية مستقلة, وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها, وتصدر أحكامها وفق القانون” .
وحيث إن الدستور – في اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة, ومتابعة خطاها, والتقيد بمناهجها التقدمية – نص في المادة 66, على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلى بناء على قانون, ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها, وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره, يتمثل أساساً في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي, مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء – في زواجره ونواهيه – هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً, ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه, محورها الأفعال ذاتها, في علامتها الخارجية, ومظاهرها الواقعية, وخصائصها المادية, إذ هي مناط التأثيم وعلته, وهي التي يتصور إثباتها ونفيها, وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضه البعض, وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها, وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي, فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها، قاطعاً واضحاً, ولكنها تجيل بصرها فيها, منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيراً خارجياً ومادياً عن إرادة واعية. ولا يتصور بالتالي وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي, ولا أن يقوم الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم، والنتائج التي أحدثها بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. لازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته – تعتبر واقعة في منطقة التجريم, كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها, وتم التعبير عنها خارجياً في صورة مادية لا تخطئها العين, فليس ثمة جريمة.
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بإقرار القواعد القانونية ابتداء، أو تفويض السلطة التنفيذية في إصدارها في الحدود التي بينها الدستور، لا يخول أيتهما التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها, وإلا كان هذا افتئاتاً على ولايتها, وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات.
وحيث إن الدستور كفل في مادته السابعة والستين، الحق في المحاكمة المنصفة بما تنص عليه من أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وهو حق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادتيه العاشرة والحادية عشرة, التي تقرر أولاهما أن لكل شخص حقاً مكتملاً ومتكافئاً مع غيره في محاكمة علنية, ومنصفة، تقوم عليها محكمة مستقلة محايدة, تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية, أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه, وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولى – حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية، في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية, توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه.
وهذه الفقرة هي التي تستمد منها المادة 67 من الدستور أصلها, وهي تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية, وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية تكفل بتكاملها مفهومها للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة. وهي بذلك تتصل بتشكيل المحكمة، وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها, وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائي وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي قضى الدستور في المادة 41، بأنها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز بالتالي تفسير هذه القاعدة تفسيراً ضيقاً، إذ هي ضمان مبدئي لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية, وهي التي تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة, ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائي, وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، إلا أن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزوماً في الدعوى الجنائية, وذلك أياً كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها.
وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة, إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية, وأكثرها تهديداً لحقه في الحياة، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية, وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى, ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائي معرفاً بالتهمة, مبيناً طبيعتها, مفصلا أدلتها, وكافة العناصر المرتبطة بها, وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون, وأن تجري المحاكمة علانية, وخلال مدة معقولة، وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة – إذا خلصت إليها – إلى موضوعية التحقيق الذي تجربه، وإلى عرض متجرد للحقائق, وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة. وذلك جميعها من الضمانات الجوهرية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها. ومن ثم كفلها الدستور في المادة 67، وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها, هما افتراض البراءة من ناحية, وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائي من ناحية أخرى. وهو حق عززته المادة 69 من الدستور بنصها على أن حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة مكفول.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلته الحماية من جوانبها العملية وليس من معطياتها النظرية, وكان استيثاق المحكمة من مراعاة القواعد المنصفة أنفة البيان، عند فصلها في الاتهام الجنائي، تحقيقاً لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة, لا يعدو أن يكون ضمانة أولية لعدم المساس بالحرية الشخصية – التي كفلها الدستور لكل مواطن – بغير الوسائل القانونية التي لا يترخص أحد في التقيد بها, والنزول عليها. وكان افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها, وليس بنوع العقوبة المقررة لها, وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها, وعلى امتداد إجراءاتها، فقد غدا من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها.
ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها, وأن تقول هي وحدها كلمتها فيها, وألا تفرض عليها أي جهة أخرى مفهوماً محدداً لدليل بعينه, وأن يكون مرد الأمر دائماً إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى, وحصلته من أوراقها، غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم, تتمثل ضوابط المحاكمة المتصلة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاماً متكامل الملامح, يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية, ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها. وذلك انطلاقاً من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة, وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية. ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صوناً للنظام الاجتماعي، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية, التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفاً مقصوداً لذاته, أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها, مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة. بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التي لا يجوز النزول عنها, أو الانتقاص منها. وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية في الأصل – إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية, ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء, وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67، مؤكداً بمضمونها ما قررته المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما سلف بيانه, والمادة السادسة من الاتفاقية الأوربية, لحماية حقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبهاً فيه، أو متهماً، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها – لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين – وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد، إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام, ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي لازم الفرد دوماً ولا يزايله, سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة، أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها, وأياً كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين, بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة انتفاء التهمة, وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفذ طرق الطعن فيه, وصار باتاً.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية, ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلاً في الواقعة مصدر الحق المدعي به, إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة، هي التي يعتبر إثباتها إثباتاً للواقعة الأولى بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور. فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلاً عنهاInnocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption It does not rest on any other proved it is assumed وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها, فقد ولد حراً من الخطيئة أو المعصية. ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لا زال كامناً فيه, مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال, إلى أن تنقض محكمة الموضوع هذا الافتراض, بقضاء جازم يصدر على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها, وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلباً فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة, إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، وبعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل, واضحة وضوح الحقيقة ذاتها, تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإرادة العدالة الجنائية, ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية, وليوفر من خلالها لكل فرد، الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل, بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل, ويما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئوها.
وحيث إن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة التي كفل حمايتها في المادتين 32 و34 وتوكيدا لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي – كفل حمايتها لكل فرد – وطنياً كان أم أجنبياً – ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء, وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة – في الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها, بذل من أجلها الوقت والعرق والمال, وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها, وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها, معبداً بها الطريق إلى التقدم، كافلاً للتنمية أهم أدواتها, محققاً من خلالها إرادة الإقدام, هاجعاً إليها لتوفر ظروفاً أفضل لحرية الاختيار والتقرير, مطمئناً في كنفها إلى يومه وغده, مهيمناً عليها ليختص دون غيره بثمارها، ومنتجاتها وملحقاتها, فلا يرده عنها معتد، ولا يناجز سلطته في شأنها خصيم ليس بيده سند ناقل لها، وليعتصم بها من دون الآخرين، وليلتمس من الدستور وسائل حمايتها التي تعينها على أداء دورها, وتقيها تعرض الأغيار لها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها. ولم يعد جائزاً بالتالي أن ينال المشرع من عناصرها, ولا أن يغير من طبيعتها, أو يجردها من لوازمها، ولا أن يفصلها عن أجزائها، أو يدمر أصلها, أو يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. ودون ذلك تفقد الملكية ضماناتها الجوهرية, ويكون العدوان عليها غصباً، وافتئاتاً على كيانها أدخل إلى مصادرتها. وبقدر اتساع قاعدة الملكية تتعدد روافدها, وتتنوع استخداماتها، لتشكل نهراً يتدفق بمصادر الثروة القومية التي لا يجوز إهدارها, أو التفريط فيها أو بعثرتها تبديدً لقيمتها ولا تنظيمها بما يخل بالتوازن بين نطاق حقوق الملكية المقررة عليها, وضرورة تقييدها نأياً بها عن الانتهاز, أو الإضرار بحقوق الآخرين. ذلك أن الملكية – في إطار النظم الوضعية التي تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة – لم تعد حقاً مطلقاً ولا هي عصية على التنظيم التشريعي. وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها.
ومن ثم ساغ تحميلها بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية. وهي وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ, ولا تفرض نفسها تحكماً، بل تمليها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التي ينبغي رصدها عليها, محددة على ضوء واقع اجتماعي معين في بيئة بذاتها لها توجهاتها ومقوماتها, وبمراعاة أن القيود التي يفرضها الدستور على حق الملكية للحد من إطلاقها, لا تعتبر مقصودة لذاتها, بل غايتها خير الفرد والجماعة.
وحيث إن الفقرة الثانية من المادة 25 من القرار الوزاري رقم 517 لسنة 1986 – بنصها على أن تعتبر أجزاء الذبائح الغير مختومة بخاتم المجزر الرسمي, والمعروضة للبيع, غير صالحة للاستهلاك الآدمي، ويعين إعدامها, قد قطعت بأن اللحوم التي يتم عرضها على هذا النحو، يفترض فيها – ولمجرد عدم ختمها بذلك الخاتم – إضرارها بالصحة، أو فسادها، أو تلفها، وذلك بالمخالفة لنص فقرتها الأولى التي لا تجيز عرض اللحوم أو بيعها إذا كانت لا تصلح “في ذاتها” لاستهلاكها آدمياً, ولنص المادة 23 من هذا القرار التي لا تجيز إعدام لحوم الحيوانات التي تذبح بالمخالفة لأحكام المواد 109 و136 و137 ( أ ) من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966 إلا إذا كانت غير صالحة للاستهلاك الآدمي, فإن كانت صالحة لذلك, وجب بيعها ورد ثمنها إلى صاحبها إذا حكم نهائياً ببراءته, وكذلك لنص المادة 136 من هذا القانون, التي يبين منها أن المجازر الرسمية لا توجد في كل مدن مصر وقراها، بل في عدد منها.
وحيث إن الفقرة الثانية المطعون عليها، تناقض كذلك ما قرره القانون رقم 10 لسنة 1961 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها, من قواعد قانونية حدد بها حصراً الأحوال التي تعتبر فيها الأغذية ضارة بالصحة أو تالفة أو فاسدة، إذ يبين منها أن اللحوم لا تعتبر كذلك, إلا لعوار كامن فيها, أو اتصل بها, بما يئول إلى تلويثها أو يغير من تركيبها أو قوامها. أو يخرجها بوجه عام من طبيعتها, لتتمحض إضراراً بمن يتناولها، بما مؤداه أن هذا العوار يلحق الأغذية ذاتها, ولا يقوم مستقلاً عن كوامن إصابتها, بل يعتبر متصلاً بها اتصال قرار, ليكون ثبوتها أو انتفاؤها دليل عدم صلاحيتها آدمياً لاستهلاكها، أو مدار برئها من أمراضها.
وحيث إنه متى كان ذلك, وكانت التهمة الثانية التي نسبتها النيابة العامة إلى المتهم، تقوم على عرضه للبيع شيئاً فاسداً من أغذية الإنسان مع علمه بذلك, وكان الافتراض المقرر بالفقرة الثانية المطعون عليها, مبناه قرينة قانونية, أحل بها المشرع واقعة عدم ختم الذبائح المعروضة للبيع بالخاتم الرسمي, محل مادية الأفعال محل الاتهام، وإرادة ارتكابها مع العلم بالوقائع التي تعطيها دلالتها الإجرامية، ليكون ثبوت الواقعة البديلة, دالاً على وقوع الجريمة في ماديتها, واقترانها بالقصد الجنائي، فإن النص المطعون فيه يكون معفياً للنيابة العامة من التزامها الأصيل بالتدليل على قيام كل ركن يتصل ببيان الجريمة, ويكون من عناصرها.
وحيث إنه فضلاً عما تقدم, فإن الجريمة محل الاتهام من الجرائم العمدية, التي يتعين أن يكون الدليل على توافر عناصرها جميعها يقينياً، لا ظنياً أو افتراضياً, وكان الاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم, وتقدير عقوباتها, لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد محكمة الموضوع عن القيام بمهمتها الأصلية في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التي عينها المشرع إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, وكان الأصل في القرائن القانونية – قاطعة كانت أم غير قاطعة – هو أنها من عمل المشرع، إذ يحدد مضمونها على ضوء ما يكون في تقديره معبراً عما يقع غالباً في الحياة العمليةI’ idée de probabilité، وكانت القرينة القانونية التي أنشأها النص المطعون فيه – حتى بافتراض جواز الاحتجاج بالقرائن القانونية في المجال الجنائي – لا تعتبر كذلك, ذلك أن الأصل في الذبائح هو خلوها من أمراضها أو مما يخرجها بوجه عام عن طبيعتها. والأمر العارض هو انتفاء سلامتها وتعييبها. ولا يكون ذلك إلا بالوسائل العلمية وحدها يباشرها أهل الخبرة المتخصصون. وما ذلك إلا حملاً على قاعدة أصولية ثابتة مفادها أن الأصل في الصفات العارضة العدم. وقد نقض المشرع بالقرينة التي أحدثها ما يفترض أصلاً في الذبائح, وهو صلاحية استهلاكها آدمياً. وكان يجب على النيابة العامة – وهي تدعي خلاف الأصل – أن تقيم الدليل على ادعائها، إلا أن النص المطعون فيه أعفاها من التزامها هذا, وأحلها كذلك من التدليل على توافر القصد الجنائي في الجريمة محل الاتهام, منحياً بذلك محكمة الموضوع عن تحقيق أركانها، وهو ما يعد انتحالاً تشريعياً لاختصاص مخول للسلطة القضائية, وإهداراً لافتراض البراءة من التهمة التي نسبتها النيابة العامة إلى المتهم في كل وقائعها وعناصرها. وإخلالاً بالحرية الشخصية التي اعتبرها الدستور حقاً طبيعياً لكل إنسان.
وحيث إن من المقرر كذلك, أن افتراض البراءة يقترن دائماً من الناحية الدستورية – ولضمان فعاليته – بوسائل إجرائية إلزامية, تعتبر من زاوية دستورية وثيقة الصلة بالحق في الدفاع, من بينها حق المتهم في مواجهة الأدلة التي طرحتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة, وكذلك الحق في نفيها بأدلة النفي التي يقدمها, وكان النص المطعون فيه قد أخل بهذه الوسائل الإجرائية، وذلك بأن جعل المتهم مواجهاً بواقعة أثبتتها القرينة في حقه دون دليل يظاهرها, ومكلفاً بنفيها خلافاً للأصل في الأشياء، وبما يناقض افتراض البراءة ويجرده من محتواه عملاً, ويخل بضمانه الدفاع التي لا يجوز في غيابها تحقيق الواقعة محل الاتهام الجنائي, أو إدانة المتهم عنها, وكان النص المطعون فيه, فوق هذا, قد حتم إعدام الذبائح التي اعتبرها “حُكْماً” فاسدة أو تالفة أو مضرة بالصحة, وهو ما يعد عدواناً منه على حق الملكية الخاصة التي كفل الدستور صونها، فإن هذا النص يكون مخالفاً لأحكام المواد 32 و34 و41 و66 و67 و69 و165 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 25 من قرار نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة والأمن الغذائي رقم 517 لسنة 1986 بشأن ذبح الحيوانات وتجارة اللحوم، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
وسوم : حكم دستورية