الخط الساخن : 01118881009
جلسة 3 أغسطس 1996
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر -رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد عبد القادر عبد الله وحضور السيد المستشار الدكتور/ سعيد مرعي عمرو – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم (3)
القضية رقم 37 لسنة 15 قضائية “دستورية”
1- دعوى دستورية “المصلحة: مناطها – مصلحة محتملة”
مناط المصلحة في الدعوى – وهي شرط لقبولها – أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع – الاعتداد بالمصلحة المحتملة في هذا الصدد.
2- تشريع “قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966: بناء على الأرض الزراعية”.
وازن قانون الزراعة – في مجال البناء على الأراضي الزراعية – بين أمرين:
أ – ألا يقع عدوان عليها يخرجها عن الأغراض المقصودة من استغلالها في أغراض التنمية.
ب- ألا يكون حظر البناء عليها مطلقاً، بل مشروطاً بصدور ترخيص به من الجهة المعنية.
3- جزاء جنائي “أثره – انتهاج الوسائل القانونية السليمة”
لكل جزاء جنائي أثر يتمثل في حرمان الشخص من حقه في الحياة أو من حريته أو من ملكه – ضرورة انتهاج التشريعات الجزائية الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الموضوعية والإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية.
4- عقوبة “عدالة”
العقوبة التي يفرضها المشرع في شأن جريمة حدد أركانها تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها.
5- جزاء جنائي “ردع عام – ردع خاص”
مقارنة الفقهاء بين نوعين من الردع: أحدهما ردع عام يستهدف به المشرع – من خلال العقوبة – حمل جناة محتملين على الإعراض عن إتيان الأفعال التي أثمها، ثانيهما ردع خاص يتحقق بالعقوبة التي يفرضها القاضي – تفريداً لها – على من ارتكب الفعل المؤثم.
6- جزاء جنائي “ردع خاص: منظور اجتماعي”
لا يعدو الردع الخاص أن يكون تعبيراً عن مفهوم الجزاء من منظور اجتماعي باعتباره عقاباً منصفاً قدره قاض لشخص معين في شأن جريمة ارتكبها.
7- عقوبة “تفريدها: ارتباط بالوظيفة القضائية”
ارتباط تقدير العقوبة من خلال تفريدها بعوامل موضوعية وبعناصر شخصية. ارتباط سلطة القاضي في تفريد العقوبة – ضماناً لتناسبها مع الجريمة – بمباشرة الوظيفة القضائية. عدم جواز تدخل المشرع للحد من نطاق هذه الوظيفة.
8- عقوبة “تفريدها – استثناء: تقييد الحرية الشخصية”
الأصل في العقوبة هو تفريدها – الاستثناء من هذا الأصل يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة ويقيد الحرية الشخصية دون مقتض.
9- شرط الوسائل القانونية السليمة.
اعتبار المتهمين نظراء بعضهم لبعض لا يعدو أن يكون إخلالاً بشرط الوسائل القانونية السليمة.
10- عقوبة “دستوريتها”
مناط مشروعية العقوبة من زاوية دستورية أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج بها تقديراً لها في الحدود المقررة قانوناً.
11- دستور “حرية شخصية: حق طبيعي”
أعلى الدستور من قدر الحرية الشخصية فاعتبرها من الحقوق الطبيعية.
12- نصوص جنائية “دستوريتها”
دستورية النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها.
13- سلطة تشريعية – سلطة قضائية “عدم التدخل”
عدم جواز تدخل السلطة التشريعية في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية – تعطيل السلطة التشريعية لوظيفة السلطة القضائية – ولو في بعض جوانبها – يعتبر اقتحاماً مخالفاً للدستور.
14- تشريع “المادة 156/ 2 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966”
حظر وقف تنفيذ عقوبة الغرامة – بمقتضى هذه المادة – يحول دون تفريدها ويعطل سلطة القاضي بالتالي.
15- عقوبة “وقف تنفيذها: تفريدها – مفاهيم معاصرة”
السلطة التي يباشرها القاضي في مجال وقف تنفيذ العقوبة فرع من تفريدها – عدم انفصال التفريد عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية.
16- عقوبة الغرامة “تفريدها: كفالة عدالتها”
تفريد عقوبة الغرامة – وهو أكثر مرونة من تفريد العقوبة السالبة للحرية – يجنبها عيوبها باعتباره كافلاً عدالتها.
17- تشريع “المادة 156/ 2 من قانون الزراعة: إخلال بخصائص الوظيفة القضائية”
حظر وقف تنفيذ عقوبة الغرامة وفقاً لهذه المادة إخلال بخصائص الوظيفة القضائية، وقوامها تقدير العقوبة التي تناسب الجريمة محل الدعوى الجنائية، اعتبار ذلك مفترضاً أولياً متطلباً دستورياً لصون موضوعية تطبيقها.
18- عقوبة “محاكمة منصفة”
من غير الجائز للدولة – في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة – أن تنال من الحد الأدنى للحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة تتم إنصافاً.
19- تشريع “المادة 156/ 2 من قانون الزراعة – أغراض مالية: نقض الدستور”
أيلولة الغرامات المحكوم بها وفقاً لهذه المادة إلى الهيئة العامة المنصوص عليها في هذا القانون لا يجوز أن ينقض حقوقاً أصلية كفلها الدستور للسلطة القضائية كتلك التي تتعلق بتفريد العقوبة.
1- إن المصلحة في الدعوى – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يقوم ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع؛ وكان الحكم بعدم دستورية النص المطعون فيه يوفر للمدعي مصلحة محتملة في أن تأمر محكمة الموضوع بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة التي نص عليها قانون الزراعة، فيما إذا انتهت إلى إدانته عن الجريمة التي تضمنها قرار الاتهام، فإن مصلحته الشخصية والمباشرة في النزاع الماثل، تكون قد توافرت.
2- إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، قد نظم البناء على الأرض الزراعية، موازناً في ذلك بين أمرين:
أولهما: ألا يقع عدوان عليها يخرجها عن الأغراض المقصودة من استغلالها في أغراض التنمية بوصفها من أهم روافدها وأولاها بالاعتبار، وعلى تقدير أن اقتطاع أجزاء منها للبناء عليها دون ضابط، يؤول بالضرورة إلى التهام الجزء الأكبر من مساحتها أو على الأقل تقليصها، فلا توفر الدولة لمواطنيها – من خلالها – احتياجاتهم الغذائية وفرصهم في العمل، مما يزيد من أعبائها، ويُعجزها عن مواصلة خطاها التي تحقق بها تقدماً أعمق، ورخاء أبعد أثراً.
ثانيهما: أن البناء على الأرض الزراعية وإن كان محظوراً في الأصل، إلا أن هذا الحظر ليس مطلقاً، بل يتعين أن تقدر الضرورة بقدرها، وأن يكون الفصل في توافرها أو تخلفها عائداً إلى ترخيص يصدر عن وزير الزراعة، ليكون البناء على الأرض الزراعية مشروطاً بصدوره. وليس ذلك عدواناً على ملكيتها يحول دون استعمالها واستغلالها، بل هو تنظيم لوظيفتها الاجتماعية، لتظل الأرض الزراعية في يد أجيال يتعاقبون عليها، ويضيفون إليها، فلا تندثر عناصرها.
3، 4- إن لكل جزاء جنائي أثراً مباشراً يرتد إلى طبيعته، يتمثل في حرمان الشخص من حقه في الحياة أو من حريته أو من ملكه؛ وكان منطقياً بالتالي، أن تقيم الدول المتحضرة تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة، تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية، تقمعها أو تقيدها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الدول الديمقراطية في ارتباطها بالمقاييس المعاصرة لمفهوم الجزاء، ومن خلال ما يعكسها من مظاهر سلوكها على اختلافها؛ وكان لازماً على ضوء هذا الاتجاه، أن تقرر الدساتير التقدمية القيود التي ارتأتها على سلطة المشرع في مجال التجريم، تعبيراً عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافاً منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاماً متكامل الملامح يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون – في إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية، بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة، تشويها لأغراضها.
كذلك فإن العقوبة التي يفرضها المشرع في شأن جريمة حدد أركانها، تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها، والتي لا يندرج تحتها رغبة الجماعة أو حرصها على إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها ليكون بطشها بالمتهم تكفيراً عما أتاه، وإن أمكن القول إجمالاً بأن ما يعتبر جزاءً جنائياً، لا يجوز أن يقل في مداه عما يكون لازماً لحمل الفرد على أن ينتهج طريقاً سوياً، لا تكون الجريمة مدخلاً إليه، ولا يكون ارتكابها في تقديره – إذا ما عقد العزم عليها – أكثر فائدة من تجنبها.
5- إن كثيرين من الفقهاء يقارنون بين نوعين من الردع The penal goal of deterrence أحدهما ردع عام، ويتمثل في العقوبة التي يفرضها المشرع في شأن الأفعال التي أثمها، محدداً عقوبتها، ومتدرجاً بوطأتها على ضوء خطورتها، ليَحْمِل من خلال عبئها جناة محتملين potential offenders على الإعراض عن إتيانها وانتباذها. وثانيهما ردع خاص يتحقق في شأن جريمة تم ارتكابها ونسبتها إلى شخص معين، ليحدد قاض نطاق مسئولية عنها Offender level of blameworthness ويقدر عقوبتها تفريداً لها عند الحكم بها The individualized consideration of sentencing ضماناً لتناسبها مع الجريمة التي أتاها، وكرد فعل لها A proportionate to the crime. ومن ثم لا يتعلق هذا النوع من الردع باحتمال تحقق خطورة إجرامية، بل بأفعال تم ارتكابها تقوم بها خطورة فعلية.
6- لا يعدو الردع الخاص، أن يكون تعبيراً عن مفهوم الجزاء – من منظور اجتماعي – باعتباره عقاباً منصفاً قدره قاض لشخص معين في شأن جريمة أتاها، فلا يحدد عقوبتها جزافاً، بل من خلال علاقة منطقية تربطها مباشرة بمن ارتكبها، لتقابل حدود مسئوليته جنائياً عنها، بما يؤكد معقوليتها.
The heart of the retribution rationale is that a criminal sentence must be directly related to the personal culpability of the criminal offender
7- سواء أكانت العقوبة التي فرضها المشرع – وبالنظر إلى أهدافها الاجتماعية – غايتها تحقيق ردع خاص، أم كانت تعبيراً عن مفهوم متطور للجزاء باعتباره عقاباً منصفاً لأشخاص أتوا أفعالاً جرمها المشرع، فإن تقديرها من خلال تفريدها يتعلق بعوامل موضوعية تتصل بالجريمة في ذاتها، وبعناصر شخصية تعود إلى مرتكبها، بما مؤداه قيام علاقة حتمية بين سلطة القاضي في تفريد العقوبة، وتناسبها مع الجريمة، وارتباطهما معاً بمباشرة الوظيفة القضائية اتصالاً بجوهر خصائصها.
ولا يجوز بالتالي أن يقيد المشرع من نطاق هذه الوظيفة عن طريق التدخل في مكوناتها، تقديراً بأن الجرائم لا تتحد في خطورتها، ولأن المتهمين لا تتجانس خصائص تكوينهم Heterogenous ولا تتحد بيئتهم، بل يتمايزون على الأخص من حيث تعليمهم وثقافتهم، وقدر ذكائهم واستقلالهم، وتدرج نزعتهم الإجرامية بين لينها أو اعتدالها أو غلوها أو إيغالها.
8- الأصل في العقوبة هو تفريدها Individualization of punishment لا تعميمها Generalization of punishment وتقرير استثناء من هذا الأصل – أياً كانت الأغراض التي يتوخاها – مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم Homogenous وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة – وبصورة مجردة – ليجر ألواناً من المعاناة تخالطها الآم تفتقر لمبرراتها. بعد أن فقدت العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، بما يقيد الحرية الشخصية دون مقتض.
9- اعتبار المتهمين نظراء بعضهم لبعض سواء في نوع جريمتهم أو دوافعها أو خلفيتها، لا يعدو أن يكون إخلالاً بشرط الوسائل القانونية السليمة التي لا يتصور في غيبتها أن يكون للحق في الحياة، أو في الحرية، من قيمة لها اعتبارها.
10- مشروعية العقوبة من زاوية دستورية، مناطها أن يباشر كل قاضٍ سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديراً لها، في الحدود المقررة قانوناً. فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبراً لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبها.
11- إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيداً لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشر أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أثراً.
12، 13- النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها، ولا تزاحمها في تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية؛ وكان الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها، الحماية من جوانبها العملية، لا من معطياتها النظرية؛ وكان الاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية في مجال إقرار القوانين، وما يتصل بها من إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية واختصها بها، وإلا كان مفتئتاً على ولايتها؛ وكان اختصاص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات المطروحة عليها، يقتضيها أن تباشر في شأنها كل الحقوق التي يمكن ربطها عقلاً بالوظيفة القضائية، فلا تنفصل عنها باعتبارها من دخائلها؛ متى كان ذلك، فإن تعطيل السلطة التشريعية لهذه الوظيفة – ولو في بعض جوانبها – يعتبر تحريفاً لها، واقتحاماً مخالفاً للدستور، للحدود التي فصل بها بينها وبين السلطة القضائية.
14 – إن النص المطعون فيه، وإن فرض الحبس والغرامة معاً في شأن الإخلال بالأحكام التي تضمنتها المادة 152 من قانون الزراعة، إلا أنه مايز بين هاتين العقوبتين الأصليتين في مجال وقف التنفيذ، فبينما أجازه في عقوبة الحبس، حظره على إطلاق في عقوبة الغرامة، رغم كونها جزاءً جنائياً حقيقياً، ليحول دون تفريدها، ضماناً لتنفيذها في كل الأحوال – وأياً كان مبلغها – وعن طريق الإكراه البدني عند الاقتضاء، وهو ما يعني انقلابها إلى عقوبة سالبة لحرية المحكوم عليهم بها، مع بقاء كامل الآثار الجنائية المترتبة على الحكم في حقهم، بما مؤداه تغليظ عقوبتهم، وتطبيقها وفق آلية عمياء لا تقيم وزناً لظروفهم، ولا توفر لهم فرص تقويم اعوجاجهم، بل تردهم عن مجتمعهم وتمهد الطريق لعودتهم إلى الإجرام، فلا يكون النص المطعون فيه – وقد عطل سلطة القاضي في نطاق وقف تنفيذ عقوبة الغرامة – أصلح لهم، بل يكون القانون الأصلح هو ذلك الذي يعيد للقاضي هذه السلطة بعد إلغائها.
15- إن السلطة التي يباشرها القاضي في مجال وقف تنفيذ العقوبة، فرع من تفريدها؛ وكان التفريد لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها المشرع بصورة مجردة، شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية جميعها. ولا يتصور بالتالي أن يكون إنزالها “بنصها” على الواقعة الإجرامية محل التداعي، ملائماً لكل أحوالها ومتغيراتها وملابساتها؛ وكان ما يراه القاضي مسوغاً لاعتقاده بأن المحكوم عليه لن يعود مستقبلاً إلى مخالفة القانون – سواء بالنظر إلى سنه أو خلقه أو ماضيه أو طبيعة الجريمة التي ارتكبها، وظروفها – مبناه عناصر واقعية يمحصها تحرياً لحقيقتها، فلا ينتزعها، بل يلحظها ويقيمها على دعائم من القرائن وعيون الأوراق، ليقدر على ضوئها جميعاً، عقوبتها – سواء في نوعها أو قدرها – وبما لا إخلال فيه بالحدود المقررة قانوناً لها؛ وكان تنفيذ العقوبة المحكوم بها، أو الأمر بإيقافها، مما يدخل في تحديد “مبلغها”، بل إن تنفيذها – وليس مجرد نوعها أو مدتها – هو الذي يحقق الإيلام المقصود بها، ليتهيأ بتطبيقها خطر الاتصال بمذنبين آخرين ربما كانوا أكثر عتواً وأفدح إجراماً. متى كان ذلك، فإن سلطة تفريد العقوبة – ويندرج تحتها الأمر بإيقافها – هي التي تخرجها من قوالبها الصماء، وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها، ويتصل بهما اتصال قرار.
16، 17- إن تفريد عقوبة الغرامة – وهو أكثر مرونة من تفريد العقوبة السالبة للحرية – يجنبها عيوبها باعتباره كافلاً عدالتها، ميسراً تحصيلها، حائلاً دون أن تكون وطأتها على الفقراء أثقل منها على الأغنياء؛ وكان فرض تناسبها في شأن جريمة بذاتها، إنصافاً لواقعها وحال مرتكبها The relevant facets of the character and record of the individual offender ، يتحقق بوسائل متعددة يندرج تحتها أن يفاضل القاضي – وفق أسس موضوعية – بين الأمر بتنفيذها أو إيقافها. ولئن كان النص المطعون فيه قد أجاز ذلك بالنسبة إلى عقوبة الحبس، إلا أنه سلب القاضي هذه السلطة ذاتها في شأن عقوبة الغرامة، التي لا تتكافأ مع العقوبة المقيدة للحرية في تهوينها من قدر الإنسان ومساسها بآدميته، بل هي دونها تجريحاً، وهو ما يعني – في نطاق النزاع الماثل – الإخلال بخصائص الوظيفة القضائية، وقوامها في شأن الجريمة محل الدعوى الجنائية، تقدير العقوبة التي تناسبها، باعتبار أن ذلك يعد مفترضاً أولياً متطلباً دستورياً لصون موضوعية تطبيقها.
A constitutional prerequisite to the proportionate imposition of penalty
18- لا يجوز للدولة – في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صوناً لنظامها الاجتماعي – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة تتم إنصافاً، غايتها إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة وفقاً لمتطلباتها التي بينتها المادة 67 من الدستور؛ وكان من المقرر أن “شخصية العقوبة” “وتناسبها مع الجريمة محلها” مرتبطتان “بمن يكون قانوناً مسئولاً عن ارتكابها” على ضوء دوره فيها، ونواياه التي قارنتها، وما نجم عنها من ضرر، ليكون الجزاء عنها موافقاً لخياراته بشأنها. متى كان ذلك، وكان تقدير هذه العناصر جميعها، داخلاً في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية، باعتباره من مكوناتها؛ فإن حرمان من يباشرونها من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة بما يوائم “بين الصيغة التي أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها في حالة بذاتها” مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة، ولا يكون إنفاذها “إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها” دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل.
19- إن حصيلة الغرامات المحكوم بها وفقاً للنص المطعون فيه، وإن كانت تؤول جميعها بقوة القانون إلى الهيئة العامة المنصوص عليها في المادة 159 من قانون الزراعة، لتعيد بها إلى الأرض الزراعية خصوبتها بعد تجريفها أو لتعمل من خلالها على تحسينها وزيادة معدل كفاءتها وإنتاجيتها، إلا أن اعتماد هذه الهيئة على تلك الغرامات، لا يجوز أن ينقض حقوقاً أصيلة كفلها الدستور للسلطة القضائية واختصها بها، ولا أن يعدل من بنيانها، كذلك التي تتعلق بتفريد العقوبة لتطويعها من منظور موضوعي يبلور تناسبها مع الجريمة محلها واتساقها وأحوال مرتكبها، فلا تهيم في فراغ، ولا تكون إنفاذاً حرفياً للنصوص التي فرضتها، بما يحيل تطبيقها عدواناً على كرامة الإنسان وحريته، وهما تضربان بجذورهما عمقاً صوناً لآدميته، وتعلوان قدراً على مجرد الأغراض المالية، ولا يتصور بالتالي أن تكون هذه الأغراض قيداً على أيتهما.
الإجراءات
بتاريخ 19 ديسمبر سنة 1993، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً في ختامها الحكم بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966 المعدل بالقانون رقم 116 لسنة 1983، من عدم جواز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة في جميع الأحوال.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت في ختامها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن النيابة العامة كانت قد اتهمت الدكتور سامي منصور أحمد، بأنه أقام بناء على أرض زراعية بدون ترخيص، وطلبت عقابه بالمادتين 152 و156 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966 المعدل بالقانون رقم 116 لسنة 1983، وقيدت الواقعة جنحة تحت رقم 2724 لسنة 1990 جنح عابدين. وإذ قضى فيها غيابياً من محكمة عابدين الجزئية “دائرة الجنح” بمعاقبته بالحبس شهراً وكفالة خمسين جنيهاً وبتغريمه عشرة آلاف جنيه والإزالة، فقد طعن في هذا الحكم بالمعارضة. بيد أن محكمة الطعن قضت بتأييد الحكم المعارض فيه، فاستأنف حكمها أمام محكمة الجنح المستأنفة، ثم دفع أمامها بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، وذلك فيما نصت عليه في عجزها من عدم جواز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة.
وإذ قررت محكمة الجنح المستأنفة بجلستها المعقودة في 10/ 11/ 1993، تأجيل نظر الدعوى الجنائية المعروضة عليها لجلسة 29/ 12/ 1993، ليتخذ وكيل المتهم إجراءات الطعن بعدم الدستورية كطلبه، وتقديم ما يفيد ذلك، فقد أقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة 156 من قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966 تنص على أن “يعاقب على مخالفة أي حكم من أحكام المادة 152 من هذا القانون أو الشروع فيها بالحبس وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه وتتعدد العقوبة بتعدد المخالفات”. كما تنص فقرتها الثانية على ما يأتي “ويجب أن يتضمن الحكم الصادر بالعقوبة، الأمر بإزالة أسباب المخالفة على نفقة المخالف. وفي جميع الأحوال لا يجوز الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة”.
وحيث إن المدعي ينعي على الفقرة الثانية المشار إليها، مخالفتها للمواد 86 و119 فقرة أولى و165 و166 من الدستور، وذلك فيما نصت عليه من أن الحكم الصادر بالعقوبة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة 156 من قانون الزراعة، لا يجوز في أية حال أن يتضمن وقف تنفيذ عقوبة الغرامة، مؤسساً منعاه على دعامتين:
أولاهما: أن تقدير العقوبة، بما في ذلك وقف تنفيذها – من سلطة القاضي. والاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل في عقيدة القاضي، وغل يده عن استعمال سلطته في إنزال العقوبة أو تقديرها. ومن ثم يمثل النص المطعون فيه حجراً على حرية القاضي في أن يقدر لكل جريمة العقوبة التي تناسبها بما يعد افتئاتاً من السلطة التشريعية على السلطة القضائية، وتدخلاً في شئون العدالة.
ثانيتهما: أن السلطة التشريعية تمارس ولايتها في مجال إقرار القوانين، غير مقيدة في ذلك إلا بالضوابط التي ألزمها الدستور بمراعاتها. وتنظيمها لموضوع على خلافها، يعني إهدارها أحكام الدستور، فضلاً عن أن السياسة التي انتهجها قانون الزراعة لمواجهة صور العدوان على الأرض الزراعية، لم تكن غايتها الردع أو الإيلام، بل كانت الأغراض التمويلية، هي التي استلهمتها، ضمناناً لأن يوفر المشرع الموارد التي يقتضيها دعم الأغراض التي تقوم عليها الهيئة العامة المنصوص عليها في المادة 195 من هذا القانون، والتي تعمل على صون الأراضي الزراعية سواء من خلال إعادة خصوبتها بعد تجريفها أو عن طريق تحسينها وزيادة معدل كفاءتها، بما مؤداه إنشاء ضريبة بغير قانون ينظم أوضاعها.
وحيث إن المصلحة في الدعوى – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يقوم ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية، لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع؛ وكان الحكم بعدم دستورية النص المطعون فيه يوفر للمدعي مصلحة محتملة في أن تأمر محكمة الموضوع بوقف تنفيذ عقوبة الغرامة التي نص عليها قانون الزراعة، فيما إذا انتهت إلى إدانته عن الجريمة التي تضمنها قرار الاتهام، فإن مصلحته الشخصية والمباشرة في النزاع الماثل، تكون قد توافرت.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، قد نظم البناء على الأرض الزراعية، موازناً في ذلك بين أمرين:
أولَهما: ألا يقع عدوان عليها يخرجها عن الأغراض المقصودة من استغلالها في أغراض التنمية بوصفها من أهم روافدها وأولاها بالاعتبار، وعلى تقدير أن اقتطاع أجزاء منها للبناء عليها دون ضابط، يؤول بالضرورة إلى التهام الجزء الأكبر من مساحتها أو على الأقل تقليصها، فلا توفر الدولة لمواطنيها – من خلالها – احتياجاتهم الغذائية وفرصهم في العمل، مما يزيد من أعبائها، ويُعجزها عن مواصلة خطاها التي تحقق بها تقدماً أعمق، ورخاء أبعد أثراً.
ثانيهما: أن البناء على الأرض الزراعية وإن كان محظوراً في الأصل، إلا أن هذا الحظر ليس مطلقاً، بل يتعين أن تقدر الضرورة بقدرها، وأن يكون الفصل في توافرها أو تخلفها عائداً إلى ترخيص يصدر عن وزير الزراعة، ليكون البناء على الأرض الزراعية مشروطاً بصدوره. وليس ذلك عدواناً على ملكيتها يحول دون استعمالها واستغلالها، بل هو تنظيم لوظيفتها الاجتماعية، لتظل الأرض الزراعية في يد أجيال يتعاقبون عليها، ويضيفون إليها، فلا تندثر عناصرها.
وحيث إن لكل جزاء جنائي أثراً مباشراً يرتد إلى طبيعته، يتمثل في حرمان الشخص من حقه في الحياة أو من حريته أو من ملكه؛ وكان منطقياً بالتالي، أن تقيم الدول المتحضرة تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة، تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية، تقمعها أو تقيدها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الدول الديمقراطية في ارتباطها بالمقاييس المعاصرة لمفهوم الجزاء، ومن خلال ما يعكسها من مظاهر سلوكها على اختلافها؛ وكان لازماً على ضوء هذا الاتجاه، أن تقرر الدساتير التقدمية القيود التي ارتأتها على سلطة المشرع في مجال التجريم، تعبيراً عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافاً منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاماً متكامل الملامح يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون – في إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية، بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة، تشويهاً لأغراضها.
وحيث إن العقوبة التي يفرضها المشرع في شأن جريمة حدد أركانها، تبلور مفهوماً للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها، والتي لا يندرج تحتها رغبة الجماعة أو حرصها على إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها ليكون بطشها بالمتهم تكفيراً عما أتاه، وإن أمكن القول إجمالاً بأن ما يعتبر جزاءً جنائياً، لا يجوز أن يقل في مداه عما يكون لازماً لحمل الفرد على أن ينتهج طريقاً سوياً، لا تكون الجريمة مدخلاً إليه، ولا يكون ارتكابها في تقديره – إذا ما عقد العزم عليها – أكثر فائدة من تجنبها.
وسواء أكان هذا الجزاء مؤدياً لتقويم من أصابهم، أو كافلاً ردع غيرهم، أو مباعداً بين الجناة ومجتمعهم، ليكون الآخرون أكثر أمناً واطمئناناً، أو كان كل ذلك جميعاً، فإن كثيرين – من الفقهاء يقارنون بين نوعين من الردع The real goal of deterrence أحدهما ردع عام، ويتمثل في العقوبة التي يفرضها المشرع في شأن الأفعال التي أثمها، محدداً عقوبتها، ومتدرجاً بوطأتها على ضوء خطورتها، ليَحْمِل من خلال عبئها جناة محتملين potential offenders على الإعراض عن إتيانها وانتباذها. وثانيهما ردع خاص يتحقق في شأن جريمة تم ارتكابها ونسبتها إلى شخص معين، ليحدد قاض نطاق مسئولية عنها Offender level of blameworthness ، ويقدر عقوبتها تفريداً لها عند الحكم بها The individualized consideration of sentencing ضماناً لتناسبها مع الجريمة التي أتاها، وكرد فعل لها A proportionate response to the crime. ومن ثم لا يتعلق هذا النوع من الردع باحتمال تحقق خطورة إجرامية، بل بأفعال تم ارتكابها تقوم بها خطورة فعلية.
ولا تعدو هذه الصورة من صور الردع، أن تكون تعبيراً عن مفهوم الجزاء – من منظور اجتماعي – باعتباره عقاباً منصفاً قدره قاض لشخص معين في شأن جريمة أتاها، فلا يحدد عقوبتها جزافاً، بل من خلال علاقة منطقية تربطها مباشرة بمن ارتكبها، لتقابل حدود مسئوليته جنائياً عنها، وبقدرها، بما يؤكد معقوليتها.
The heart of the retribution rationale is that a criminal sentence must be directly related to the personal culpability of the criminal offendes·
وحيث إن ما تقدم مؤداه، أنه سواء أكانت العقوبة التي فرضها المشرع – وبالنظر إلى أهدافها الاجتماعية – غايتها تحقيق ردع خاص، أم كانت تعبيراً عن مفهوم متطور للجزاء باعتباره عقاباً منصفاً لأشخاص أتوا أفعالاً جرمها المشرع، فإن تقديرها من خلال تفريدها يتعلق بعوامل موضوعية تتصل بالجريمة في ذاتها، وبعناصر شخصية تعود إلى مرتكبها، بما مؤداه قيام علاقة حتمية بين سلطة القاضي في تفريد العقوبة، وتناسبها مع الجريمة، وارتباطهما معاً بمباشرة الوظيفة القضائية اتصالاً بجوهر خصائصها.
ولا يجوز بالتالي أن يقيد المشرع من نطاق هذه الوظيفة عن طريق التدخل في مكوناتها، تقديراً بأن الجرائم لا تتحد في خطورتها، ولأن المتهمين لا تتجانس خصائص تكوينهم Heterogenous ولا تتحد بيئتهم، بل يتمايزون على الأخص من حيث تعليمهم وثقافتهم، وقدر ذكائهم واستقلالهم، وتدرج نزعتهم الإجرامية بين لينها أو اعتدالها أو غلوها أو إيغالها.
ويستحيل بالتالي معاملتهم بوصفهم نمطاً ثابتاً، أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحدة تجمعهم لتصبهم في قالبها، بما مؤداه أن الأصل في العقوبة هو تفريدها Individualization of punishment لا تعميمها Generalization of punishment وتقرير استثناء من هذا الأصل – أياً كانت الأغراض التي يتوخاها – مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم Homogenous وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة – وبصورة مجردة – ليجر ألواناً من المعاناة تخالطها الآم تفتقر لمبرراتها. بعد أن فقدت العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها، بما يقيد الحرية الشخصية دون مقتض.
كذلك فإن اعتبار المتهمين نظراء بعضهم لبعض سواء في نوع جريمتهم أو دوافعها أو خلفيتها، لا يعدو أن يكون إخلالاً بشرط الوسائل القانونية السليمة التي لا يتصور في غيبتها أن يكون للحق في الحياة، أو في الحرية، من قيمة لها اعتبارها.
ولازماً ما تقدم أن مشروعية العقوبة من زاوية دستورية، مناطها أن يباشر كل قاض سلطته في مجال التدرج بها وتجزئتها، تقديراً لها، في الحدود المقررة قانوناً. فذلك وحده الطريق إلى معقوليتها وإنسانيتها جبراً لآثار الجريمة من منظور موضوعي يتعلق بها وبمرتكبها.
وحيث إن الدستور أعلى قدر الحرية الشخصية، فاعتبرها من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، الغائرة في أعماقها، والتي لا يمكن فصلها عنها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيداً لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشر أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أثراً؛ وكانت دستورية النصوص الجنائية تحكمها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها، ولا تزاحمها في تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية؛ وكان الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها، الحماية من جوانبها العملية، لا من معطياتها النظرية؛ وكان الاختصاص المقرر دستورياً للسلطة التشريعية في مجال إقرار القوانين، وما يتصل بها من إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها، لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية واختصها بها، وإلا كان مفتئتاً على ولايتها؛ وكان اختصاص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات المطروحة عليها، يقتضيها أن تباشر في شأنها كل الحقوق التي يمكن ربطها عقلاً بالوظيفة القضائية، فلا تنفصل عنها باعتبارها من دخائلها؛ متى كان ذلك، فإن تعطيل السلطة التشريعية لهذه الوظيفة – ولو في بعض جوانبها – يعتبر تحريفاً لها، واقتحاماً مخالفاً للدستور، للحدود التي فصل بها بينها وبين السلطة القضائية.
وحيث إن النص المطعون فيه، وإن فرض الحبس والغرامة معاً في شأن الإخلال بالأحكام التي تضمنتها المادة 152 من قانون الزراعة، إلا أنه مايز بين هاتين العقوبتين الأصليتين في مجال وقف التنفيذ، فبينما أجازه في عقوبة الحبس، حظره على إطلاق في عقوبة الغرامة، رغم كونها جزاءً جنائياً حقيقياً، ليحول دون تفريدها، ضماناً لتنفيذها في كل الأحوال – وأياً كان مبلغها – وعن طريق الإكراه البدني عند الاقتضاء، وهو ما يعني انقلابها إلى عقوبة سالبة لحرية المحكوم عليهم بها، مع بقاء كامل الآثار الجنائية المترتبة على الحكم في حقهم، بما مؤداه تغليظ عقوبتهم، وتطبيقها وفق آلية عمياء لا تقيم وزناً لظروفهم، ولا توفر لهم فرص تقويم اعوجاجهم، بل تردهم عن مجتمعهم وتمهد الطريق لعودتهم إلى الإجرام، فلا يكون النص المطعون فيه – وقد عطل سلطة القاضي في نطاق وقف تنفيذ عقوبة الغرامة – أصلح لهم، بل يكون القانون الأصلح هو ذلك الذي يعيد للقاضي هذه السلطة بعد إلغائها.
وحيث إن السلطة التي يباشرها القاضي في مجال وقف تنفيذ العقوبة، فرع من تفريدها؛ وكان التفريد لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، ويتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة فرضها المشرع بصورة مجردة، شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية جميعها. ولا يتصور بالتالي أن يكون إنزالها “بنصها” على الواقعة الإجرامية محل التداعي، ملائماً لكل أحوالها ومتغيراتها وملابساتها؛ وكان ما يراه القاضي مسوغاً لاعتقاده بأن المحكوم عليه لن يعود مستقبلاً إلى مخالفة القانون – سواء بالنظر إلى سنه أو خلقه أو ماضيه أو طبيعة الجريمة التي ارتكبها، وظروفها – مبناه عناصر واقعية يمحصها تحرياً لحقيقتها، فلا ينتزعها، بل يلحظها ويقيمها على دعائم من القرائن وعيون الأوراق، ليقدر على ضوئها جميعاً، عقوبتها – سواء في نوعها أو قدرها – وبما لا إخلال فيه بالحدود المقررة قانوناً لها؛ وكان تنفيذ العقوبة المحكوم بها، أو الأمر بإيقافها، مما يدخل في تحديد “مبلغها”، بل إن تنفيذها – وليس مجرد نوعها أو مدتها – هو الذي يحقق الإيلام المقصود بها، ليتهيأ بتطبيقها خطر الاتصال بمذنبين آخرين ربما كانوا أكثر عتواً وأفدح إجراماً. متى كان ذلك، فإن سلطة تفريد العقوبة – ويندرج تحتها الأمر بإيقافها – هي التي تخرجها من قوالبها الصماء، وتردها إلى جزاء يعايش الجريمة ومرتكبها، ويتصل بهما اتصال قرار.
وحيث إن من الثابت كذلك، أن تفريد عقوبة الغرامة – وهو أكثر مرونة من تفريد العقوبة السالبة للحرية – يجنبها عيوبها باعتباره كافلاً عدالتها، ميسراً تحصيلها، حائلاً دون أن تكون وطأتها على الفقراء أثقل منها على الأغنياء؛ وكان فرض تناسبها في شأن جريمة بذاتها، إنصافاً لواقعها وحال مرتكبها The relevant facets of the character and record of the individual offender ، يتحقق بوسائل متعددة يندرج تحتها أن يفاضل القاضي – وفق أسس موضوعية – بين الأمر بتنفيذها أو إيقافها. ولئن كان النص المطعون فيه قد أجاز ذلك بالنسبة إلى عقوبة الحبس، إلا أنه سلب القاضي هذه السلطة ذاتها في شأن عقوبة الغرامة، التي هي دونها تجريحاً، وهو ما يعني – في نطاق النزاع الماثل – الإخلال بخصائص الوظيفة القضائية، وقوامها في شأن الجريمة محل الدعوى الجنائية، تقدير العقوبة التي تناسبها، باعتبار أن تلك يعد مفترضاً أولياً متطلباً دستورياً لصون موضوعية تطبيقها.
A constitutional prerequisite to the proportionate imposition of penalty
وحيث إنه فضلاً عما تقدم، لا يجوز للدولة – في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صوناً لنظامها الاجتماعي – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة تتم إنصافاً، غايتها إدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة وفقاً لمتطلباتها التي بينتها المادة 67 من الدستور؛ وكان من المقرر أن “شخصية العقوبة” “وتناسبها مع الجريمة محلها” مرتبطتان “بمن يكون قانوناً مسئولاً عن ارتكابها” على ضوء دوره فيها، ونواياه التي قارنتها، وما نجم عنها من ضرر، ليكون الجزاء عنها موافقاً لخياراته بشأنها. متى كان ذلك، وكان تقدير هذه العناصر جميعها، داخلاً في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية، باعتباره من مكوناتها؛ فإن حرمان من يباشرونها من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة بما يوائم “بين الصيغة التي أفرغت فيها ومتطلبات تطبيقها في حالة بذاتها” مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة، ولا يكون إنفاذها “إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها” دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل.
وحيث إن حصيلة الغرامات المحكوم بها وفقاً للنص المطعون فيه، وإن كانت تؤول جميعها بقوة القانون إلى الهيئة العامة المنصوص عليها في المادة 159 من قانون الزراعة، لتعيد بها إلى الأرض الزراعية خصوبتها بعد تجريفها أو لتعمل من خلالها على تحسينها وزيادة معدل كفاءتها وإنتاجيتها، إلا أن اعتماد هذه الهيئة على تلك الغرامات، لا يجوز أن ينقض حقوقاً أصيلة كفلها الدستور للسلطة القضائية واختصها بها، ولا أن يعدل من بنيانها، كذلك التي تتعلق بتفريد العقوبة لتطويعها من منظور موضوعي يبلور تناسبها مع الجريمة محلها واتساقها وأحوال مرتكبها، فلا تهيم في فراغ، ولا تكون إنفاذاً حرفياً للنصوص التي فرضتها، بما يحيل تطبيقها عدواناً على كرامة الإنسان وحريته، وهما تضربان بجذورهما عمقاً صوناً لآدميته، وتعلوان قدراً على مجرد الأغراض المالية، ولا يتصور بالتالي أن تكون هذه الأغراض قيداً على أيتهما.
وحيث إن النص المطعون فيه – وعلى ضوء ما تقدم – يكون قد أهدر من خلال إلغاء سلطة القاضي في تفريد العقوبة – جوهر الوظيفة القضائية، منطوياً كذلك على تدخل من شئون العدالة، مقيداً الحرية الشخصية في غير ضرورة، ونائياً عن ضوابط المحاكمة المنصفة، ليقع مخالفا لأحكام المواد 41 و67 و165 و166 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 156 من قانون الزراعة بالقانون رقم 53 لسنة 1966 من عدم جواز وقف تنفيذ عقوبة الغرامة، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
– استناداً إلى الحجية المطلقة لهذا الحكم، قضت المحكمة – خلال الفترة التي صدر عنها هذا الجزء من أحكام الحكمة – باعتبار الخصومة منتهية في الدعوى المماثلة رقم 88 لسنة 18 ق دستورية جلسة 5/ 4/ 1997.
وسوم : حكم دستورية