الخط الساخن : 01118881009
جلسة 4 يناير سنة 1997
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر -رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: عبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم (17)
القضية رقم 2 لسنة 15 قضائية “دستورية”
1- دعوى دستورية “حق التصدي”.
مباشرة المحكمة الدستورية العليا لرخصتها المنصوص عليها في المادة 27 من قانونها، شروطها هي:
– استيفاء الخصومة الأصلية لشرائط قبولها.
– اتصال بعض النصوص القانونية عرضاً بها.
– تأثير الفصل في دستورية هذه النصوص في محصلتها النهائية.
2- دستور “المادة 8” – مبدأ تكافؤ الفرص “إعماله”.
الفرص التي يعنيها الدستور هي تلك التي تتعهد الدولة بتقديمها – إعمال هذا المبدأ يفترض أن يقع التزاحم على هذه الفرص بين المتقدمين إليها – فض التزاحم على تلك الفرص المحدودة لا يتصور إلا بترتيبهم فيما بينهم وفق أسس موضوعية.
3- الإبداع “مفهومه”.
الإبداع عمل ذهني وجهد خلاق – ليس الإبداع إلا موقفاً حراً واعياً يتناول ألواناً من الفنون والعلوم تتعدد أشكالها وطرائق التعبير عنها – الإبداع في حياة الأمم إثراءً لها وهو أداة ارتقائها – الإبداع في العلوم والفنون ليس تسليماً بما هو قائم من ملامحها بل تغييراً فيها وتطويراً لها – الإبداع محل تقدير الأمم وتعمل على تيسير الطريق إليه – الإبداع اتصال بما هو قائم إعمالاً لمحتواه – الإبداع نهج متواصل ونهر متجدد ومتدفق دون انقطاع.
4- دستور “حرية التعبير”
عزز الدستور حرية التعبير بتلك التي يقتضيها إجراء البحوث العلمية وإنماؤها ثم قرنها بالإبداع فنياً وثقافياً – إكماله حلقاتها حين خول كل فرد – بنص المادة 63 – أن يتقدم بظلاماته إلى السلطة العامة لرد ما وقع عليه من الأعمال الجائزة والتعويض عن آثارها.
5- تشريع “القانون رقم 35 لسنة 1978 في شأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية – الإبداع”
البين من أحكام هذا القانون تغييها صون حرية الإبداع من خلال أدواتها في قطاع المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية – الإبداع بذلك لا ينفصل عن حرية التعبير – عدم جواز فصل حرية التعبير عن أدواتها.
6- دستور – حرية الإبداع – حرية التعبير
حرية التعبير عن الآراء ونشرها بالوسائل المنصوص عليها في المادة 47 من الدستور، إنما تمثل الإطار العام لحرية الإبداع التي بلورها الدستور بنص المادة 49، بما يحول دون عرقلتها.
7- نصوص دستورية “تكاملها”.
الأصل في النصوص الدستورية أنها تتكامل مع بعضها بما يكفل تقابلها وتفاعلها.
8- دستور – حرية التعبير – حرية الإبداع – الحرية النقابية.
بعد أن كفل الدستور حرية التعبير – ويندرج تحتها حرية الإبداع – بالمادتين 47، 49 على التوالي، أقام إلى جانبهما – بنص المادة 56 – الحرية النقابية، من اللازم أعمال أحكام هذه المواد جميعاً بافتراض تواصل أجزائها وتضافر توجهاتها.
9- تنظيم نقابي – حرية الاجتماع – الحرية النقابية.
حق العمال والمهنيين في تكوين تنظيمهم النقابي فرع من حرية الاجتماع – استقلال هذا الحق عن الجهة الإدارية – الحرية النقابية تنحل إلى قيمة دستورية في ذاتها لتكفل لكل فرد الحق في الانضمام إلى المنظمة النقابية التي يطمئن إليها.
10- تنظيم نقابي – حرية الإبداع.
التنظيم النقابي لا يعتبر قيداً على حرية الإبداع التي يمارسها العاملون في المهن التمثيلية أو السينمائية والموسيقية.
11- نظم نقابية “خصائصها” دستور “المادة 56”.
المعايير والخصائص التي يقوم عليها التنظيم النقابي هي التي قننها الدستور في المادة 56 التي تحتم إنشاءه وفق أسس ديموقراطية يكون القانون كافلاً لها.
12- تشريع “المادتان 2، 5 من القانون رقم 35 لسنة 1978”.
ما نصت عليه هاتان المادتان من أن يكون لكل من المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية نقابتها قد توخي أن يكون إسهام أعضائها جماعياً بوصفهم شركاء في تقرير نظمها، فلا يكون العمل النقابي – من ثم – إلا تراضياً والتزاماً.
13- تشريع “القانون رقم 35 لسنة 1978: المادة 5/ 3 منه”.
المشرع أقام لكل من المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية – ومن خلال مبدأ الحرية النقابية – إطاراً يؤمن مصالح أعضائها، لهؤلاء الحق في مباشرة الأعمال التي تدخل في نشاطها، لا قيد عليهم في ذلك إلا أن يكون عائداً إلى دستور نقابتهم، لهؤلاء إذا ما استوفوا شروط القيد في غير نقابتهم، حق الانضمام إليها، إذا لم يستوف هذه الشروط أي منهم فالطريق متاح أمامه لمزاولة أعمال تدخل في اختصاصها وفق الأحكام المنصوص عليها في الفقرة الثالثة من المادة (5) من هذا القانون.
14- تشريع “القانون رقم 35 لسنة 1978: استقلال” – الإبداع.
استقلال كل من المهن المشار إليها بنقابتها مبناه أن صور نشاط كل منها منفرد بخصائص تؤكد ذاتيتها – يؤيد ذلك أن قدرة الإبداع إنما تتنوع أشكالها وتتعدد مواقعها.
15- المحكمة الدستورية العليا “تكييف”
عدم تقيد هذه المحكمة إلا بكيوفها هي للعلائق القانونية دون أوصاف المشرع لها.
16- ضريبة – رسم
الضريبة هي الفريضة المالية التي تقتضيها الدولة جبراً من المكلفين بأدائها إسهاماً من جهتهم في أعبائها دون نفع خاص يعود عليهم – مناط استحقاق الرسم أن يكون مقابل خدمة محددة بذلها الشخص العام لمن طلبها عوضاً عن تكلفتها وإن لم يكن بمقدارها.
17- تشريع “نص الفقرة الرابعة من المادة 5 من القانون رقم 35 لسنة 1978: حق العمل – ملكية خاصة”.
ما قرره هذا النص من إلزام طالب التصريح بأداء رسم نسبي مقداره 20% من الأجور والمرتبات التي يحصل عليها نتيجة التصريح المؤقت إلى صندوق الإعانات والمعاشات بالنقابة: عدوان على حق العمل وإخلال بالحماية التي كفلها الدستور للملكية الخاصة.
18- رقابة قضائية – نصوص جنائية – حرية شخصية.
الرقابة القضائية التي تباشرها المحكمة الدستورية العليا على دستورية النصوص الجنائية تضبطها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها – اتصال هذه النصوص مباشرة بالحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها.
19- جزاء “تناسبه – معقوليته”.
شرعية الجزاء جنائياً كان أم مدنياً أم تأديبياً مناطها أن يكون متناسباً مع الأفعال التي أثمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها – الأصل في العقوبة معقوليتها.
20- جزاء جنائي “ضرورة اجتماعية”.
الجزاء الجنائي لا يكون مبرراً إلا إذا كان مفيداً من وجهة اجتماعية – إذا كان مجاوزاً تلك الحدود التي لا يكون فيها ضرورياً غدا مخالفاً للدستور – من غير الجائز أن يؤثم المشرع أفعالاً في غير ضرورة اجتماعية – عدم جواز تقرير المشرع عقوبة بما يجاوز قدر هذه الضرورة.
21- تشريع “المادة 5 مكرراً من القانون رقم 35 لسنة 1978: مجاوزة العقوبة”.
التجريم المقرر بهذه المادة يتناول أعمالاً إبداعية – العقوبة التي فرضها المشرع على مباشرة هذه الأعمال دون ترخيص بها هي الحبس والغرامة أو إحداهما دون قيد يتعلق بالحد الأقصى لأيهما – تلك العقوبة تعتبر عبئاً باهظاً على أعمال الإبداع – القيود المهنية التي فرضها التنظيم النقابي في شأنها ما كان ينبغي أن تصل وطأتها إلى حد إنفاذها من خلال جزاء جنائي يقيد الحرية الشخصية اعتسافاً – مجاوزة العقوبة قدر الضرورة الاجتماعية التي تتطلبها.
1- قضاء هذه المحكمة في شأن المادة 27 من قانونها، التي تخولها الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارستها لاختصاصاتها، ويتصل النزاع المعروض عليها، مؤداه أن مناط تطبيقها يفترض وجود خصومة أصلية طرح أمرها عليها وفقاً للأوضاع المنصوص عليها في قانون إنشائها، وأن ثمة علاقة منطقية تقوم بين هذه الخصومة، وما قد يثار عرضاً من تعلق الفصل في دستورية بعض النصوص القانونية بها.
ومن ثم تكون الخصومة الأصلية هي المقصودة بالتداعي أصلاً، والفصل في دستورية النصوص القانونية التي تتصل بها عرضاً، مبلوراً إطاراً للخصومة الفرعية التي تدور مع الخصومة الأصلية وجوداً وعدماً، فلا تقبل إلا معها. وهو ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة التي لا تعرض لدستورية النصوص القانونية التي تقوم عليها الخصومة الفرعية إلا بقدر اتصالها بالخصومة الأصلية، وبمناسبتها. وشرط ذلك أن يكون تقرير بطلان هذه النصوص أو صحتها مؤثراً في المحصلة النهائية للخصومة الأصلية أياً كان موضوعها أو أطرافها، بما مؤداه أن مباشرة هذه المحكمة لرخصتها المنصوص عليها في المادة 27 من قانونها، شرطها أولاً: استيفاء الخصومة الأصلية لشرائط قبولها. وثانياً: اتصال بعض النصوص القانونية عرضاً بها. وثالثاً. تأثير الفصل في دستوريتها في محصلتها النهائية.
2- مبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في المادة 8 من الدستور، مؤداه أن الفرص التي يعنيها الدستور، هي تلك التي تتعهد الدولة بتقديمها. ويفترض إعمال هذا المبدأ أن يقع التزاحم عليها بين المتقدمين إليها. ولا يتصور فض التزاحم على هذه الفرص المحدودة، إلا بترتيبهم فيما بينهم وفق أسس موضوعية يتحدد على ضوئها من يكون أولى من غيره بالحصول عليها. متى كان ذلك، وكان إعمال النص المطعون فيه لا يتصل بفرص قائمة يجرى التزاحم عليها، فإن قالة مخالفته لنص المادة 8 من الدستور، لا يكون لها من سند.
3- الإبداع – علمياً كان أم أدبياً أم فنياً أم ثقافياً – ليس إلا موقفاً حراً واعياً يتناول ألواناً من الفنون والعلوم تتعدد أشكالها، وتتباين طرائق التعبير عنها، فلا يكون نقلاً كاملاً عن آخرين، ولا ترديداً لآراء وأفكار يتداولها الناس فيما بينهم – دون ترتيبها أو تصنيفها، أو ربطها ببعض وتحليلها -، بل يتعين أن يكون بعيداً عن التقليد والمحاكاة، وأن ينحل عملاً ذهنياً وجهداً خلاقاً، ولو لم يكن ابتكاراً كاملاً جديداً كل الجدة novelty، وأن يتخذ كذلك ثوباً مادياً – ولو كان رسماً أو صوتاً أو صورة أو عملاً حركياً – فلا ينغلق على المبدع استئثاراً، بل يتعداه إلى آخرين انتشاراً، ليكون مؤثراً فيهم.
ومن ثم كان الإبداع في حياة الأمم إثراءً لا ترفاً، معمقاً رسالتها في تغيير أنماط الحياة بها، بل هو أداة ارتقائها، لا ينفصل عن تراثها، بل يتفاعل مع وجدانها، كافلاً تقدمها من خلال اتصال العلوم والفنون ببعضها، لكون بنيانها أكثر تكاملاً، وحلقاتها أعمق ارتباطاً، ومفاهيمها أبعد عطاءاً.
وما تقدم مؤداه، أن الإبداع في العلوم الفنون – أياً كان لونها – ليس تسليماً بما هو قائم من ملامحها، بل تغييراً فيها تعديلاً لبنيانها، أو تطويراً لها، ليؤكد المبدع بذلك انفراده بإحداثها، فلا يمكن نسبتها لغيره، إذ هو صانعها، ولأن العناصر التي يضيفها لا ينقلها بتمامها عن سواه، إنما تعود أصالتها Originality إلى احتوائها على حد أدنى من عناصر الخلق التي تقارن الابتكار، فلا ينفصل عنها a minimal degree of creativity، بما يؤكد دلالتها على استقلال مبدعها بها، ويبلور نوع وعمق المشاعر التي تفاعل معها، مستثيراً من خلالها قوة العقل ومعطياتها The creative powers of the mind، فلا يكون نبتها إلا إلهاماً بصيراً.
ويتعين على ضوء ما تقدم، أن يكون الإبداع محل تقدير الأمم على تباين مذاهبها وتوجهاتها، وأن تيسر الطريق إليه بكل الوسائل التي تملكها، فلا ينعزل حبيساً أو يتمحض لهواً أو ترفاً، بل ينحل جهداً ذهنياً فاعلاً intellectual labor، ونظراً متوثباً في تلك العلوم والفنون، يعيد تشكيلها، ويطرح أبعاداً جديدة لها، كافلاً ذيوع الحقائق التي تتعلق بتطوير عناصرها، ليكون نتاجها بعثاً من رقاد، وثمارها حقاً عائداً إلى المواطنين في مجموعهم، يملكونها ويفيدون منها، ينقلون عنها ويتأثرون بها، على أن يكون مفهوماً أن الإبداع ليس بالضرورة إحياءً كاملاً أو مبتدءاً، ولا قفزاً في الفراغ، بل اتصالاً بما هو قائم إكمالاً لمحتواه، وانتقالاً بمداه إلى آفاق أرحب.
ومن المتصور بالتالي أن يكون الإبداع وئيداً في خطاه، وإن تعين دوماً أن يكون نهجاً متواصلاً على طريق يمتد أمداً، رانياً لآفاق لا تنحصر أبعادها، مبدداً مفاهيم متعثرة، متخذاً من الابتكار – مهما ضؤل قدره – أسلوباً ثابتاً، وعقيدة لا يتحول عنها، لا امتياز في الاقتناع بها، والدعوة إليها والحض عليها، لأحد على غيره، ليظل نهراً متجدداً، ومتدفقاً دون انقطاع.
4- قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الدستور عزز حرية التعبير بتلك التي يقتضيها إجراء البحوث العلمية وإنماؤها على تباين مناهجها وأنماطها، ثم قرنها بالإبداع فنياً وأدبياً وثقافياً، وأكمل حلقاتها حين خول كل فرد – بنص مادته الثالثة والستين – أن يتقدم بظلاماته إلى السلطة العامة التي يكون بيدها رد ما وقع عليه من الأعمال الجائرة والتعويض عن آثارها على أساس من الحق والعدل.
5، 6- البين من الأحكام التي انتظمها القانون رقم 35 لسنة 1978 المشار إليه، تغييها صون حرية الإبداع من خلال أدواتها في قطاع المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، ليكون لكل منها نقابتها التي ترعى مصالح أعضائها العاملين بها، وتكفل لمواهبهم وملكاتهم الذهنية الفرص التي تلائمها، وعلى الأخص من خلال تشجيعها وتقرير المزايا التي تخصها؛ وكان الإبداع بذلك لا ينفصل عن حرية التعبير، بل هو من روافدها، يتدفق عطاءاً عن طريق قنواتها ويتمحض في عديد من صوره – حتى ما كان منها رمزياً – عن قيم وآراء ومعان يؤمن المبدعون بها ويدعون إليها، ليكون مجتمعهم أكثر وعياً، وبصر أفراده أحد نفاذاً إلى الحقائق والقيم الجديدة التي تحتضنها.
ومن ثم كان الإبداع عملاً إنشائياً إيجابياً، حاملاً لرسالة محددة، أو ناقلاً لمفهوم معين، مجاوزاً حدود الدائرة التي يعمل المبدع فيها، كافلاً الاتصال الآخرين تأثيراً فيهم، وإحداثاً لتغيير قد لا يكون مقبولاً من بعض فئاتهم.
وما ذلك إلا لأن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يتعين أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها. ولا يتصور بالتالي أن يكون الإبداع على خلافها، إذ هو من مداخلها، بل أن قهر الإبداع عدوان مباشر عليها، بما مؤداه أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها بكل الوسائل المنصوص عليها في المادة 47 من الدستور، إنما تمثل الإطار العام لحرية الإبداع التي بلورها بنص المادة 49 بما يحول دون عرقلتها، بل إنها توفر لإنفاذ محتواها وسائل تشجيعها – ليكون ضمانها التزاماً على الدولة بكل أجهزتها.
7، 8- الأصل في النصوص الدستورية أنها تتكامل مع بعضها، لتجمعها وحدة عضوية تضم أجزاءها، وتوحد بين قيمها فلا تنعزل عن محيطها، ولا ينظر إلى بعضها استقلالاً عن سواها، بل تتناغم فيما بينها بما يكفل تقابلها وتفاعلها، لا تعارضها وتهادمها، وكان الدستور بعد أن كفل حرية التعبير – ويندرج تحتها حرية الإبداع – بالمادتين 47 و49 على التوالي، أقام إلى جانبهما – وبنص المادة 56 – الحرية النقابية، فقد غدا لازماً إعمال أحكامها جميعاً، بافتراض تواصل أجزائها وتضافر توجهاتها.
9- قضاء المحكمة الدستورية العليا مضطرد على أن حق العمال والمهنيين في تكوين تنظيمهم النقابي،، فرع من حرية الاجتماع، وأن هذا الحق يتعين أن يتمحض تصرفاً إرادياً حراً لا تتدخل فيه الجهة الإدارية، بل يستقل عنها، ليظل بعيداً عن سيطرتها، ومن ثم تنحل الحرية النقابية، إلى قاعدة أولية في التنظيم النقابي، تمنحها بعض الدول – ومن بينها جمهورية مصر العربية – قيمة دستورية في ذاتها، لتكفل لكل عامل حق الانضمام إلى المنظمة النقابية التي يطمئن إليها وانتقاء واحدة أو أكثر من بينها – عن تعددها – ليكون عضواً فيها، وفي أن ينعزل عنها جميعاً، فلا يلج أياً من أبوابها، وكذلك في أن يعدل عن البقاء فيها منهياً عضويته بها.
10- التنظيم النقابي لا يعتبر قيداً على حرية الإبداع التي يمارسها العاملون في المهن التمثيلية أو السينمائية أو الموسيقية، بل هو يثريها من خلال رد كل عدوان عليها، وتعميق مستوياتها وفق أكثر القيم تطويراً لمجتمعها – وهو اتجاه تبناه القانون المنظم لهذه المهن حين أجاز – بعد أن أنشأ لكل منها نقابتها – إسناد أعمال بذواتها لغير العاملين فيها أو تخويلهم في القيام بها خلال زمن محدد، وذلك كلما كان أداؤها مطلوباً بالنظر إلى خبرة القائمين بتنفيذها، أو تميز ملكاتهم أو عمق وعيهم، أو ندرة مواهبهم، ليكون الإبداع – وجوهره الابتكار والتجديد – قوامها.
11- المعايير والخصائص التي يقوم عليها التنظيم النقابي، هي التي قننها الدستور بنص المادة 56، التي تحتم إنشاءه وفق أسس ديمقراطية يكون القانون كافلاً لها، راعياً لدوره في تنفيذ الخطط والبرامج الاجتماعية التي استهدفها، مرتقياً بكفايتها، اعترافاً من الدستور بأهمية وخطورة المصالح التي يمثلها، وعمق اتصالها بالحقوق المقررة قانوناً لأعضاء هذا التنظيم، وما ينبغي أن يتخذ من التدابير للدفاع عنها في مجموعها، وتوكيداً لضرورة أن يظل العمل النقابي تقدمياً، فلا ينحاز لمصالح جانبية أو ضيقة محدودة أهميتها – قطاعاً أو أثراً Sectional or Influential Interests ، بل يكون متبنياً نهجاً أصيلاً مقبولاً من جموعهم، قابلاً للتغيير على ضوء إراداتهم.
12- ما تنص عليه المادتان 2 و5 من القانون رقم 35 لسنة 1978 من أن يكون لكل من المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية نقابتها التي تدير سياستها وتكفل استيفاء أهدافها، قد توخي أن يكون إسهام أعضائها جماعياً بوصفهم شركاء في تقرير نظمها وبرامجها، وتحديد أولوياتهم وطرائق تنفيذها، فلا تكون السيادة إلا لجموعهم، ولا تفرض قوة من بينهم – بعيداً عن وزن أصواتها – هيمنتها على شئونهم، بل يكون القرار بأيديهم، نابعاً من قناعتهم كافلاً ضمان مصالحهم – سواء في جوهر بنيانها أو عن طريق إنفاذ وسائل الدفاع عنها ودعمها – فلا يكون العمل النقابي – ومبناه بالضرورة الحوار والإقناع على ضوء تعدد الآراء وتنوعها ومقابلتها ببعض والتوفيق بينها قدر الإمكان – إملاء أو التواء، بل تراضياً والتزاماً، وإلا كان مجاوزاً حدوده Ultra vires Actions.
13- أقام المشرع لكل من المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية – ومن خلال مبدأ الحرية النقابية – إطاراً يؤمن مصالح أعضائها الذي استوفوا شروط القيد بها، وحق لهم بالتالي مباشرة كل الأعمال التي تدخل في نشاطها، لا قيد عليهم في ذلك إلا أن يكون عائداً إلى دستور نقابتهم.
ويظل لهؤلاء دوماً – إذا ما استوفوا شروط القيد في غير نقابتهم – حق الانضمام إليها كذلك، فلا يكون أيهم عندئذ دخيلاً عليها بل عضواً فاعلاً فيها، فإذا لم يستوفها، وأراد أن يزاول أعمالاً تدخل في اختصاصها، فإن الطريق إليها يظل متاحاً في الحدود التي يصدر بها تصريح بمباشرتها وفق الأحكام المنصوص عليها في الفقرة الثالثة من المادة 5 المطعون عليها، التي تدل بنصها على أنه فيما عدا الأحوال التي يصدر التصريح فيها لأغراض التبادل الثقافي بين مصر والدول العربية وغيرها، أو لأوضاع اقتصادية تتعلق بالإنتاج، فإن إصداره لمباشرة عمل محدد أو خلال فترة زمنية محددة، يظل جائزاً لهؤلاء الذين يتميزون بخبراتهم المتفردة أو مواهبهم الواعية، أو الذين يمثلون عنصر الندرة بين أقرانهم، أو لا يقابلهم نظراء في فنهم، لتظل لحرية الإبداع مكناتها وأدواتها، وقدراتها الفاعلة، فلا ترتد على عقبيها، بل يكون التمكين من أسبابها وتعميقها، لازماً.
14- إن استقلال كل من هذه المهن بنقابتها، مبناه أن صور نشاط كل منها تنفرد بخصائص رئيسية تؤكد ذاتيتها واستقلالها عن غيرها، فلا تمتزج هذه المهن ببعضها، ولو كان الإبداع مدارها. يؤيد ذلك أن قدرة الإبداع أو ملكتها، تتنوع أشكالها وتتعدد مواقعها. ولو جاز القول بأن المبدعين جميعهم – وأياً كان مجال إبداعهم – تتحد مصالحهم، لصار لازماً أن يشملهم تنظيم نقابي واحد يكون كافلاً لها مهيمناً عليها، وغدا لغواً أن يكون لبعض المهن تنظيمها الخاص بها.
15- إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على ألا تتقيد إلا بكيوفها هي للعلائق القانونية على اختلافها، ودون ما اعتداد بأوصافها التي أطلقها المشرع عليها.
16- 17- الضريبة هي تلك الفريضة المالية التي تقتضيها الدولة جبراً من المكلفين بأدائها، إسهاماً من جهتهم في أعبائها، ودون أن يقابلها نفع خاص يعود عليهم من وراء التحمل بها؛ وكان مناط استحقاق الرسم قانوناً – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن يكون مقابل خدمة محددة بذلها الشخص العام لمن طلبها، عوضاً عن تكلفتها، وإن لم يكن بمقدارها؛ وكانت نقابة المهن التمثيلية لا تقدم لمن سعى إليها لمباشرة أعمال تدخل في اختصاصها، غير الترخيص بمزاولتها، ولا شأن لها بالأعمال التي أداها بعد صدوره، ولا بقيمتها، أو زمن إنجازها، ولا بقبولها ممن يتلقونها أو إعراضهم عنها، بل يعود الجهد فيها – ابتداء وانتهاء – إلى من قام بإفراغها في إطار من الخلق والابتكار، فلا كون اقتطاعها – ولحسابها – جزءاً من أجوره عنها، مقابلاً لنشاط خاص بذلته من جانبها لمصلحته، بل عدواناً من جهتها على حق العمل والانفراد بعائده، وإخلالاً بالحماية التي كفلها الدستور للملكية الخاصة التي جرى قضاء هذه المحكمة على اتساعها للأموال جميعها، فلا يجوز لأحد أن يجردها من عناصرها، ولا اعتصار منتجاتها أو ملحقاتها أو ثمارها، ولا أن يفصل عنها بعض الأجزاء التي تكونها، ولا أن ينال من أصلها أو يعدل من طبيعتها، ولا أن يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، لتظهر الملكية الخاصة ومصادرتها بتمامها أو من خلال اغتيال بعض أجزائها على طرفي نقيض، تقديراً بأن وجودها وانعدامها لا يستويان، فلا يتلاقيا في آن واحد.
18- الرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة في شأن دستورية النصوص الجنائية، تضبطها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها، ولا تزاحمها في تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية، ذلك أن هذه النصوص تتصل مباشرة بالحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها، وألحقها دون غيرها بالحقوق الطبيعية باعتبارها من جنسها، ليكون صونها إعلاء لقدر النفس البشرية، متصلاً بأعماقها، ومنحها بذلك الرعاية الأوفى والأشمل توكيداً لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشرة أو غير مباشرة – أخطر القيود وأبلغها أثراً، لتعطل ممارستها، أو ترهقها – دون ما ضرورة – بما ينافيها.
19- 20- قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرعية الجزاء – جنائياً كان أم مدنياً أم تأديبياً – مناطها أن يكون متناسباً مع الأفعال التي أثمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها، وأن الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل بها إلا بقدر لزومها، نأياً بها عن أن تكون إيلاماً غير مبرر يؤكد قسوتها في غير ضرورة، ولا يجوز بالتالي أن تناقض – بمداها أو طرائق تنفيذها – القيم التي ارتضتها الأمم المتحضرة مؤكدة بها ارتقاء حسها، تعبيراً عن نضجها على طريق تقدمها، واستواء فهمها لمعايير الحق والعدل التي لا يصادم تطبيقها ما يراه أوساط الناس تقييماً خلقياً واعياً لمختلف الظروف ذات الصلة بالجريمة.
ذلك أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم بعض العلائق التي يرتبط بها الأفراد فيما بين بعضهم البعض، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، إلا أن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد – ومن منظور اجتماعي – ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعياً ممكناً. بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبرر إلا إذا كان مفيداً من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزاً تلك الحدود التي لا يكون معها ضرورياً، غدا مخالفاً للدستور.
ومفاد ما تقدم، أنه كلما كان الجزاء الجنائي بغيضاً أو عاتياً، أو كان متصلاً بأفعال لا يجوز تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع الأفعال التي أثمها المشرع، فإن هذا الجزاء لا يكون مبرراً، ذلك أن السلطة التي يملكها المشرع في مجال التجريم، حدها قواعد الدستور، فلا يجوز أن يؤثم المشرع أفعالاً في غير ضرورة اجتماعية، ولا أن يقرر عقوباتها بما يجاوز قدر هذه الضرورة.
21- إن قانون نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، بعد أن حدد حصراً ما يخص كلا منها من الأعمال المهنية التي قصر مباشرتها – أصلاً – على المقيدين بجداولها، عاقب بنص المادة 5 مكرراً، غير أعضائها الذين يقحمون أنفسهم على نشاطها، دون تصريح منها يخولهم مباشرة بعض جوانبه؛ وكان التجريم – وباعتباره واقعاً في هذه الحدود – يتناول في الأعم أعمالا إبداعية تمثل بمكوناتها عطاءً دافقاً، ونهراً متجدداً بعناصر الخلق التي تؤثر في بناء الفرد روحياً وعقلياً؛ وكانت العقوبة التي فرضها المشرع على مباشرة هذه الأعمال دون ترخيص بها، هي الحبس والغرامة أو إحداهما – على إطلاق – دون قيد يتعلق بالحد الأقصى لأيهما، فإنها تكون عبئاً باهظاً على أعمال الإبداع، لتجاوز قسوتها ما يفترض أصلاً من تشجيعها وإنمائها والحض عليها بكل الوسائل، عملاً بنص المادة 49 من الدستور، ولأن الأصل هو جوازها لولا القيود المهنية التي فرضها التنظيم النقابي في شأنها. وهي بعد قيود ما كان ينبغي أن تصل وطأتها إلى حد إنفاذها من خلال جزاء جنائي يقيد الحرية الشخصية اعتسافاً، مجاوزاً بذلك قدر الضرورة الاجتماعية التي لا يجوز أن يكون بنيان التجريم منفصلاً عن متطلباتها.
الإجراءات
بتاريخ الثاني عشر من يناير سنة 1993، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً الحكم بعدم دستورية المادة 5 من القانون رقم 35 لسنة 1978 في شأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، وذلك فيما تضمنته من قصر إخراج العمل المسرحي على المخرج المسرحي دون السينمائي.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة اختتمتها بطلب الحكم أصلياً بعدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة. وبجلسة الثالث من يوليو سنة 1995 قررت المحكمة إعادة الدعوى إلى هيئة المفوضين لاستكمال تحضيرها في شأن مدى دستورية الفقرتين الثالثة والرابعة من المادة 5 المطعون عليها، وكذلك المادة 5 مكرراً من القانون رقم 35 لسنة 1978 المشار إليه.
وقد أودعت هيئة المفوضين تقريرها التكميلي في الدعوى، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعي – وهو مخرج سينمائي مقيد بجدول نقابة المهن السينمائية – كان قد أخرج مسرحية “حب في التخشيبة” لصالح فرقة ثلاثي أضواء المسرح دون أن يكون مقيداً بنقابة المهن التمثيلية، وبغير أن يحصل على تصريح منها بذلك؛ فأقام نقيبها ضده – وبطريق الادعاء المباشر – الجنحة رقم 5510 لسنة 1992 جنح الأزبكية؛ طالباً – فضلاً عن التعويض المؤقت – أن توقع عليه أقصى العقوبة المنصوص عليها في المادة 5 مكرراً من القانون رقم 35 لسنة 1978 في شأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية.
وبجلسة 10/ 12/ 1992 – المحددة لنظر تلك الجنحة – دفع المدعي بعدم دستورية المادة 5 من هذا القانون، وذلك فيما تضمنته من قصر إخراج الأعمال المسرحية على المخرج المسرحي. وإذ صرحت محكمة الموضوع للمدعي برفع دعواه الدستورية، فقد أقامها.
وحيث إن المادة الثانية من القانون رقم 35 لسنة 1978- آنف البيان – تنص على أن تضم نقابة المهن التمثيلية جميع المشتغلين بفنون التمثيل للسينما والمسرح والتليفزيون والإذاعة والإخراج المسرحي وإدارة المسرح والمكياج والتلقين وتصميم المناظر والملابس المسرحية والفنون الشعبية والباليه ومؤدى ولاعبي العرائس وغيرهم ممن تنص عليهم اللائحة الداخلية للنقابة.
وتضم نقابة المهن السينمائية جميع المشتغلين بفنون الإخراج والسيناريو والتصوير وإدارة الإنتاج والمونتاج والمناظر والمكياج والصوت والمعامل وذلك في قطاعات السينما والإذاعة المرئية والتليفزيون.
وتضم نقابة المهن الموسيقية جميع المشتغلين بفنون الغناء بأنواعه المختلفة والعزف بأنواعه المختلفة والتأليف الموسيقي والتلحين والتوزيع الموسيقى وقيادة الفرق الموسيقية والتاريخ الموسيقي.
ويجوز أن تضم كل نقابة إلى عضويتها النقاد المسرحيين والسينمائيين والموسيقيين وكتاب النصوص المسرحية والسينمائية والموسيقية بما يتفق وتخصص كل منهم.
وتحدد اللائحة الشروط الواجب توافرها لعضوية هذه النقابات.
كما تنص المادة 5 من القانون ذاته، على أن ينشأ في كل نقابة من النقابات سالفة الذكر جدول عام يقيد فيه أسماء الأعضاء العاملين في النقابة.
ولا يجوز لأحد أن يشتغل بفنون المسرح أو السينما أو الموسيقى على النحو المنصوص عليه في المادة 2 من هذا القانون ما لم يكن عضواً عاملاً بالنقابة.
ويجوز لمجلس النقابة التصريح بصفة مؤقتة لعمل محدد أو لفترة محددة قابلة للتجديد لغير الأعضاء العاملين وذلك تيسيراً لإظهار المواهب الكبيرة الواعية ولاستمرار الخبرات المتميزة أو مراعاة لظروف الإنتاج المشترك أو تشجيعاً للتبادل الثقافي بين مصر والبلاد العربية وغيرها أو بسبب الندرة أو عدم وجود نظير من أعضاء النقابة لطالب التصريح. ولا يُكسب هذا التصريح الطالب أي حق من الحقوق أو أية ميزة من الميزات المكفولة للأعضاء العاملين في هذا القانون.
وعلى طالب التصريح مصرياً كان أو أجنبياً أن يؤدي إلى صندوق الإعانات والمعاشات بالنقابة رسماً نسبياً مقداره 20% من الأجور والمرتبات التي يحصل عليها نتيجة التصريح المؤقت.
وحيث إن المدعي ينعي على الفقرة الثانية من المادة 5 من القانون رقم 35 لسنة 1978 المشار إليه، إخلالها بأحكام المواد 8 و40 و47 و49 من الدستور، تأسيساً على أن الإبداع الفني لا يمكن أن يزدهر وينهض شامخاً راسياً إلا على ضوء الوعي والحرية، ليكون الفنان مدركاً لكل القيم الإنسانية والاجتماعية والحضارية، متمثلاً حركة النشاط الإنساني نحو التقدم، واثقاً من أن هذا الوعي لا يمكن أن يؤتى ثماره إلا في ظل حرية التعبير والممارسة الفنية ضد كل الضغوط والعوائق التي تشكل قيداً على الإبداع.
وقد حال النص المطعون دون إسناد الإخراج المسرحي إلى المخرج السينمائي المقيد في جدول نقابة المهن السينمائية، وقصر هذا العمل على المقيدين في نقابة المهن التمثيلية. مخالفاً بذلك القاعدة الأصولية المنصوص عليها في المادة 49 من الدستور التي تكفل حرية الإبداع الأدبي والفني والثقافي، مع تشجيعها بكل الوسائل.
هذا فضلاً عن أن الدستور أطلق حرية الإبداع ولم يجز تنظيمها بقانون. ولو قيل بجواز ذلك، فإن حرية الإبداع لا يسوغ تقييدها بما يعطلها أو يخل بجوهرها أو يرهقها بأعباء تجعل ممارستها أمراً عسراً، بما مؤداه وجوب مساواة المخرجين السينمائيين بالمسرحيين في مجال الإخراج المسرحي، وإلا انتقص المشرع من مضمون حرية الإبداع التي تعد من أشكال حرية التعبير، وتقع ممارستها جميعاً في إطار من تكافؤ الفرص.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة في شأن المادة 27 من قانونها، التي تخولها الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة يعرض لها بمناسبة ممارستها لاختصاصاتها، ويتصل النزاع المعروض عليها، مؤداه أن مناط تطبيقها يفترض وجود خصومة أصلية طرح أمرها عليها وفقاً للأوضاع المنصوص عليها في قانون إنشائها، وأن ثمة علاقة منطقية تقوم بين هذه الخصومة، وما قد يثار عرضاً من تعلق الفصل في دستورية بعض النصوص القانونية بها.
ومن ثم تكون الخصومة الأصلية هي المقصودة بالتداعي أصلاً، والفصل في دستورية النصوص القانونية التي تتصل بها عرضاً، مبلوراً إطاراً للخصومة الفرعية التي تدور مع الخصومة الأصلية وجوداً وعدماً، فلا تقبل إلا معها. وهو ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة التي لا تعرض لدستورية النصوص القانونية التي تقوم عليها الخصومة الفرعية إلا بقدر اتصالها بالخصومة الأصلية، وبمناسبتها. وشرط ذلك أن يكون تقرير بطلان هذه النصوص أو صحتها مؤثراً في المحصلة النهائية للخصومة الأصلية أياً كان موضوعها أو أطرافها، بما مؤداه أن مباشرة هذه المحكمة لرخصتها المنصوص عليها في المادة 27 من قانونها، شرطها أولاً: استيفاء الخصومة الأصلية لشرائط قبولها. وثانياً: اتصال بعض النصوص القانونية عرضاً بها. وثالثاً. تأثير الفصل في دستوريتها في محصلتها النهائية.
وحيث إن الفص في دستورية الفقرة الثانية من المادة 5 – المطعون عليها – وثيق الصلة بفقرتيها الثالثة والرابعة، وكذلك بالمادة 5 مكرراً من هذا القانون، وبغيرها من النصوص التي تضمنها مفصلاً بها الشروط التي يتعين توافرها فيمن يزاولون الأعمال التمثيلية أو السينمائية وأحوال الاستثناء منها، فإن أحكام هاتين المادتين متضاممتين مع تلك الشروط، تمثل جميعها منظومة متكاملة يتعين على هذه المحكمة أن تجيل بصرها فيها على ضوء نظرة شاملة تحيط بها، وتتحدد على ضوئها دستوريتها، وإلا انفرط عقدها وانماع مفهومها.
وحيث إن ما ينعاه المدعي من إخلال النص المطعون فيه بمبدأ تكافؤ الفرص المنصوص عليه في المادة 8 من الدستور، مردود بأن الفرص التي يعنيها الدستور، هي تلك التي تتعهد الدولة بتقديمها. ويفترض إعمال هذا المبدأ أن يقع التزاحم عليها بين المتقدمين إليها. ولا يتصور فض التزاحم على هذه الفرص المحدودة، إلا بترتيبهم فيما بينهم وفق أسس موضوعية يتحدد على ضوئها من يكون أولى من غيره بالحصول عليها. متى كان ذلك، وكان إعمال النص المطعون فيه لا يتصل بفرص قائمة يجرى التزاحم عليها، فإن قالة مخالفته لنص المادة 8 من الدستور، لا يكون لها من سند.
وحيث إن الإبداع – علمياً كان أم أدبياً أم فنياً أم ثقافياً – ليس إلا موقفا حراً واعياً يتناول ألواناً من الفنون والعلوم تتعدد أشكالها، وتتباين طرائق التعبير عنها، فلا يكون نقلاً كاملاً عن آخرين، ولا ترديداً لآراء وأفكار يتداولها الناس فيما بينهم – دون ترتيبها أو تصنيفها، أو ربطها ببعض وتحليلها -، بل يتعين أن يكون بعيداً عن التقليد والمحاكاة، وأن ينحل عملاً ذهنياً وجهداً خلاقاً، ولو لم يكن ابتكاراً كاملاً جديداً كل الجدة novelty، وأن يتخذ كذلك ثوباً مادياً – ولو كان رسماً أو صوتاً أو صورة أو عملاً حركياً – فلا ينغلق على المبدع استئثاراً، بل يتعداه إلى آخرين انتشاراً، ليكون مؤثراً فيهم.
ومن ثم كان الإبداع في حياة الأمم إثراءً لا ترفاً، معمقاً رسالتها في تغيير أنماط الحياة بها، بل هو أداة ارتقائها، لا ينفصل عن تراثها، بل يتفاعل مع وجدانها، كافلاً تقدمها من خلال اتصال العلوم والفنون ببعضهما، ليكون بنيانها أكثر تكاملاً، وحلقاتها أعمق ارتباطاً، ومفاهيمها أبعد عطاءاً.
وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن الإبداع في العلوم الفنون – أياً كان لونها – ليس تسليماً بما هو قائماً من ملامحها، بل تغييراً فيها تعديلاً لبنيانها، أو تطويراً لها، ليؤكد المبدع بذلك انفراده بإحداثها، فلا يمكن نسبتها لغيره، إذ هو صانعها، ولأن العناصر التي يضيفها لا ينقلها بتمامها عن سواه، إنما تعود أصالتها Originality إلى احتوائها على حد أدنى من عناصر الخلق التي تقارن الابتكار، فلا ينفصل عنها a minimal degree of creativity، بما يؤكد دلالتها على استقلال مبدعها بها، ويبلور نوع وعمق المشاعر التي تفاعل معها، مستثيراً من خلالها قوة العقل ومعطياتها The creative powers of the mind، فلا يكون نبتها إلا إلهاماً بصيراً.
ويتعين على ضوء ما تقدم، أن يكون الإبداع محل تقدير الأمم على تباين مذاهبها وتوجهاتها، وأن تيسر الطريق إليه بكل الوسائل التي تملكها، فلا ينعزل حبيساً أو يتمحض لهواً أو ترفاً، بل ينحل جهداً ذهنياً فاعلاً intellectual labor، ونظراً متوثباً في تلك العلوم والفنون، يعيد تشكيلها، ويطرح أبعاداً جديدة لها، كافلاً ذيوع الحقائق التي تتعلق بتطوير عناصرها، ليكون نتاجها بعثاً من رقاد، على أن يكون مفهوماً أن الإبداع ليس بالضرورة إحياءً كاملاً أو مبتدءاً، ولا قفزاً في الفراغ، بل اتصالاً بما هو قائم إكمالاً لمحتواه، وانتقالاً بمداه إلى آفاق أرحب.
ومن المتصور بالتالي أن يكون الإبداع وئيداً في خطاه، وأن تعين دوماً أن يكون نهجاً متواصلاً على طريق يمتد أمداً، رانياً لآفاق لا تنحصر أبعادها، مبدداً مفاهيم متعثرة، متخذاً من الابتكار – مهما ضؤل قدره – أسلوباً ثابتاً، وعقيدة لا يتحول عنها، لا امتياز في الاقتناع بها، والدعوة إليها والحض عليها، لأحد على غيره، ليظل نهراً متجدداً، ومتدفقاً دون انقطاع.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الدستور عزز حرية التعبير بتلك التي يقتضيها إجراء البحوث العلمية وإنماؤها على تباين مناهجها وأنماطها، ثم قرنها بالإبداع فنياً وأدبياً وثقافياً، وأكمل حلقاتها حين خول كل فرد – بنص مادته الثالثة والستين – أن يتقدم بظلاماته إلى السلطة العامة التي يكون بيدها رد ما وقع عليه من الأعمال الجائرة والتعويض عن آثارها على أساس من الحق والعدل.
وحيث إن البين من الأحكام التي انتظمها القانون رقم 35 لسنة 1978 المشار إليه، تغييها صون حرية الإبداع من خلال أدواتها في قطاع المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، ليكون لكل منها نقابتها التي ترعى مصالح أعضائها العاملين بها، وتكفل لمواهبهم وملكاتهم الذهنية الفرص التي تلائمها، وعلى الأخص من خلال تشجيعها وتقرير المزايا التي تخصها؛ وكان الإبداع لا ينفصل عن حرية التعبير، بل هو من روافدها، يتدفق عطاءاً عن طريق قنواتها، ويتمحض في عديد من صوره – حتى ما كان منها رمزياً – عن قيم وآراء ومعان يؤمن المبدعون بها ويدعون إليها، ليكون مجتمعهم أكثر وعياً، وبصر أفراده أحد نفاذاً إلى الحقائق والقيم الجديدة التي تحتضنها.
ومن ثم كان الإبداع عملاً إنشائياً إيجابياً، حاملاً لرسالة محددة، أو ناقلاً لمفهوم معين، مجاوزاً حدود الدائرة التي يعمل المبدع فيها، كافلاً الاتصال بالآخرين تأثيراً فيهم، وإحداثاً لتغيير قد لا يكون مقبولاً من بعض فئاتهم.
وما ذلك إلا لأن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يتعين أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها. ولا يتصور بالتالي أن يكون الإبداع على خلافها، إذ هو من مداخلها، بل أن قهر الإبداع عدوان مباشر عليها، بما مؤداه أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها بكل الوسائل المنصوص عليها في المادة 47 من الدستور، إنما تمثل الإطار العام لحرية الإبداع التي بلورها نص المادة 49 بما يحول دون عرقلتها، بل إنها توفر لإنفاذ محتواها وسائل تشجيعها. ليكون ضمانها التزاماً على الدولة بكل أجهزتها.
وحيث إن النعي على نص المادة الثانية من قانون نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية بمخالفتها للدستور، بمقولة أن هذه المهن لا يجوز فصلها عن بعض، إذ تجمعها عوامل الإبداع التي تتوافر لأعضائها، ويتعين بالتالي أن تتداخل صور نشاطها على تباينها، وأن يكون لأعضائها – في مجموعهم، ودون تمييز فيما بينهم – حق مباشرتها، مردود أولاً: بأن الأصل في النصوص الدستورية أنها تتكامل مع بعضها، لتجمعها وحدة عضوية تضم أجزاءها، وتوحد بين قيمها فلا تنعزل عن محيطها، ولا ينظر إلى بعضها استقلالاً عن سواها، بل تتناغم فيما بينها بما يكفل تقابلها وتفاعلها، لا تعارضها وتهادمها، وكان الدستور بعد أن كفل حرية التعبير – ويندرج تحتها حرية الإبداع – بالمادتين 47 و49 على التوالي، أقام إلى جانبهما – وبنص المادة 56 – الحرية النقابية؛ فقد غدا لازماً إعمال أحكامها جميعاً، بافتراض تواصل أجزائها وتضافر توجهاتها.
ومردود ثانياً: بأن قضاء المحكمة الدستورية العليا مضطرد على أن حق العمال والمهنيين في تكوين تنظيمهم النقابي، فرع من حرية الاجتماع، وأن هذا الحق يتعين أن يتمحض تصرفاً إرادياً حراً لا تتدخل فيه الجهة الإدارية، بل يستقل عنها، ليظل بعيداً عن سيطرتها، ومن ثم تنحل الحرية النقابية، إلى قاعدة أولية في التنظيم النقابي، تمنحها بعض الدول – ومن بينها جمهورية مصر العربية – قيمة دستورية في ذاتها، لتكفل لكل عامل حق الانضمام إلى المنظمة النقابية التي يطمئن إليها، وانتقاء واحدة أو أكثر من بينها – عند تعددها – ليكون عضواً فيها، وفي أن ينعزل عنها جميعاً، فلا يلج أياً من أبوابها، وكذلك في أن يعدل عن البقاء فيها منهياً عضويته بها.
ومردود ثالثاً: بأن التنظيم النقابي لا يعتبر قيداً على حرية الإبداع التي يمارسها العاملون في المهن التمثيلية أو السينمائية أو الموسيقية، بل هو يثريها من خلال رد كل عدوان عليها، وتعميق مستوياتها وفق أكثر القيم تطويراً لمجتمعها – وهو اتجاه تبناه القانون المنظم لهذه المهن حين أجاز – بعد أن أنشأ لكل منها نقابتها – إسناد أعمال بذواتها لغير العاملين فيها أو تخويلهم حق القيام بها خلال زمن محدد، وذلك كلما كان أداؤها مطلوباً بالنظر إلى خبرة بتنفيذها، أو تميز ملكاتهم أو عمق وعيهم، أو ندرة مواهبهم، ليكون الإبداع – وجوهره الابتكار والتجديد – قوامها.
ومردود رابعاً: بأن المعايير والخصائص التي يقوم عليها التنظيم النقابي، هي التي قننها الدستور بنص المادة 56، التي تحتم إنشاءه وفق أسس ديمقراطية يكون القانون كافلاً لها، راعياً لدوره في تنفيذ الخطط والبرامج الاجتماعية التي استهدفها، مرتقياً بكفايتها، اعترافاً من الدستور بأهمية وخطورة المصالح التي يمثلها، وعمق اتصالها بالحقوق المقررة قانوناً لأعضاء هذا التنظيم، وما ينبغي أن يتخذ من التدابير للدفاع عنها في مجموعها، وتوكيداً لضرورة أن يظل العمل النقابي تقدمياً، فلا ينحاز لمصالح جانبية أو ضيقة محدودة أهميتها – قطاعاً أو أثراً Sectional or Influential Interests ، بل يكون متبنياً نهجاً أصيلاً مقبولاً من جموعهم، قابلاً للتغيير على ضوء إراداتهم.
ومردود خامساً: بأن ما تنص عليه المادتان 2 و5 من القانون رقم 35 لسنة 1978 من أن يكون لكل من المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية نقابتها التي تدير سياستها وتكفل استيفاء أهدافها، قد توخي أن يكون إسهام أعضائها جماعياً بوصفهم شركاء في تقرير نظمها وبرامجها، وتحديد أولوياتهم وطرائق تنفيذها، فلا تكون السيادة إلا لجموعهم، ولا تفرض قوة من بينهم – بعيداً عن وزن أصواتها – هيمنتها على شئونهم، بل يكون القرار بأيديهم، نابعاً من قناعتهم، كافلاً ضمان مصالحهم – سواء في جوهر بنيانها أو عن طريق إنفاذ وسائل الدفاع عنها ودعمها – فلا يكون العمل النقابي – ومبناه بالضرورة الحوار والإقناع على ضوء تعدد الآراء وتنوعها ومقابلتها ببعض والتوفيق بينها قدر الإمكان – إملاء أو التواء، بل تراضياً والتزاماً، وإلا كان مجاوزاً حدوده Ultra vires Actions.
ومردود سادساً: بأن المشرع أقام لكل من المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية – ومن خلال مبدأ الحرية النقابية – إطاراً يؤمن مصالح أعضائها الذين استوفوا شروط القيد بها، وحق لهم بالتالي مباشرة كل الأعمال التي تدخل في نشاطها، لا قيد عليهم في ذلك إلا أن يكون عائداً إلى دستور نقابتهم.
ويظل لهؤلاء دوماً إذا ما استوفوا شروط القيد في غير نقابتهم – حق الانضمام إليها كذلك، فلا يكون أيهم عندئذ دخيلاً عليها بل عضواً فاعلاً فيها، فإذا لم يستوفها، وأراد أن يزاول أعمالاً تدخل في اختصاصها، فإن الطريق إليها يظل متاحاً في الحدود التي يصدر بها تصريح بمباشرتها وفق الأحكام المنصوص عليها في الفقرة الثالثة من المادة 5 المطعون عليها، التي تدل بنصها على أنه فيما عدا الأحوال التي يصدر التصريح فيها لأغراض التبادل الثقافي بين مصر والدولة العربية وغيرها، أو لأوضاع اقتصادية تتعلق بالإنتاج، فإن إصداره لمباشرة عمل محدد أو خلال فترة زمنية محددة، يظل جائزاً لهؤلاء الذي يتميزون بخبراتهم المتفردة أو مواهبهم الواعية، أو الذين يمثلون عنصر الندرة بين أقرانهم، أو لا يقابلهم نظراء في فنهم، لتظل لحرية الإبداع مكناتها وأدواتها، وقدراتها الفاعلة، فلا ترتد على عقبيها، بل يكون التمكين من أسبابها وتعميقها، لازماً.
ومردود سابعاً: بأن استقلال كل من هذه المهن بنقابتها، مبناه أن صور نشاط كل منها تنفرد بخصائص رئيسية تؤكد ذاتيتها واستقلالها عن غيرها، فلا تمتزج هذه المهن ببعضها، ولو كان الإبداع مدارها. يؤيد ذلك أن قدرة الإبداع أو ملكتها، تتنوع أشكالها وتتعدد مواقعها. ولو جاز القول بأن المبدعين جميعهم – وأياً كان مجال إبداعهم – تتحدد مصالحهم، لصار لازماً أن يشملهم تنظيم نقابي واحد يكون كافلاً لها مهيمناً عليها، وغدا لغواً أن يكون لبعض المهن تنظيمها الخاص بها.
وحيث إن هذه المحكمة تصدت للفصل في دستورية الفقرتين 3 و4 من المادة 5 وكذلك المادة 5 مكرراً من القانون رقم 35 لسنة 1978 المشار إليه، وكانت الفقرة الثالثة من المادة 5 من هذا القانون، بعد أن أجازت لغير العاملين في نقابة المهن التمثيلية الاشتغال بفنون المسرح بناءً على تصريح بذلك يصدر بصفة مؤقتة لعمل محدد أو لفترة محددة قابلة للتجديد؛ قررت في فقرتها الرابعة بأن على طالب التصريح مصرياً كان أم أجنبياً، أن يؤدي إلى صندوق الإعانات والمعاشات بالنقابة، رسماً نسبياً مقداره 20% من الأجور والمرتبات التي يحصل عليها نتيجة التصريح المؤقت.
وحيث إن مفاد الفقرتين 3 و4 من المادة 5 من هذا القانون، أن الأعضاء العاملين بنقابة المهن السينمائية المقيدين بجداولها، لا يجوز أن يباشروا أعمالاً تختص بها نقابة المهن التمثيلية إلا بناءً على تصريح منها يصدر في الأحوال التي نص عليها ذلك القانون، ومقابل مبلغ من المال اعتبره المشرع رسماً منسوباً إلى الأجور التي حصل عليها من استصدر هذا التصريح عن الأعمال التي قام بها بعد صدوره. فإذا لم يقم بشيء منها على الإطلاق، أو قام بالأعمال المرخص بها بغير أن يتقاضى أجراً عنها، فإن الرسم لا يستحق أصلاً، إذ يدور وجوداً عدماً مع أجور هذه الأعمال؛ ومن ثم كان متصاعداً مع مبلغها، ونسبياً بالتالي باعتبار أن وعاءه هو هذه الأجور ذاتها – وبقدرها – فلا يعد بذلك رسماً ثابتاً لا يتأثر بتفاوتها. وهو ما يعني أن استحقاق هذا الرسم لا يرتبط بواقعة إصدار التصريح في ذاتها، بل يستقل تماماً عنها، فلا يكون مقابلاً لإصداره.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على ألا تتقيد إلا بكيوفها هي للعلائق القانونية على اختلافها، ودون ما اعتداد بأوصافها التي أطلقها المشرع عليها.
وحيث إن الضريبة هي تلك الفريضة المالية التي تقتضيها الدولة جبراً من المكلفين بأدائها، إسهاماً من جهتهم في أعبائها، ودون أن يقابلها نفع خاص يعود عليهم من وراء التحمل بها؛ وكان مناط استحقاق الرسم قانوناً – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن يكون مقابل خدمة محددة بذلها الشخص العام لمن طلبها، عوضاً عن تكلفتها، وإن لم يكن بمقدارها؛ وكانت نقابة المهن التمثيلية لا تقدم لمن سعى إليها لمباشرة أعمال تدخل في اختصاصها، غير الترخيص بمزاولتها، ولا شأن لها بالأعمال التي أداها بعد صدوره، ولا بقيمتها، أو زمن إنجازها، ولا بقبولها ممن يتلقونها أو إعراضهم عنها، بل يعود الجهد فيها – ابتداءً وانتهاءً – إلى من قام بإفراغها في إطار من الخلق والابتكار، فلا كون اقتطاعها – ولحسابها – جزءاً من أجوره عنها، مقابلاً لنشاط خاص بذلته من جانبها لمصلحته، بل عدواناً من جهتها على حق العمل والانفراد بعائده، وإخلالاً بالحماية التي كفلها الدستور للملكية الخاصة التي جرى قضاء هذه المحكمة على اتساعها للأموال جميعها، فلا يجوز لأحد أن يجردها من عناصرها، ولا اعتصار منتجاتها أو ملحقاتها أو ثمارها، ولا أن يفصل عنها بعض الأجزاء التي تكونها، ولا أن ينال من أصلها أو يعدل من طبيعتها، ولا أن يقيد من مباشرة الحقوق التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية، لتظهر الملكية الخاصة ومصادرتها بتمامها أو من خلال اغتيال بعض أجزائها على طرفي نقيض، تقديراً بأن وجودها وانعدامها لا يستويان، فلا يتلاقيان في آن واحد.
وحيث إن المادة 5 مكرراً من القانون، تعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من زاول عملاً من الأعمال المهنية المنصوص عليها في المادة 2 من هذا القانون، ولم يكن من المقيدين بجداول النقابة، أو كان ممنوعاً من مزاولة المهنة ما لم يكن حاصلاً على تصريح مؤقت للعمل طبقاً للمادة 5 من هذا القانون.
وحيث إن الرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة في شأن دستورية النصوص الجنائية، تضبطها مقاييس صارمة تتعلق بها وحدها، ومعايير حادة تلتئم مع طبيعتها، ولا تزاحمها في تطبيقها ما سواها من القواعد القانونية، ذلك أن هذه النصوص تتصل مباشرة بالحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها، وألحقها دون غيرها بالحقوق الطبيعية باعتبارها من جنسها، ليكون صونها إعلاء لقدر النفس البشرية، متصلاً بأعماقها، ومنحها بذلك الرعاية الأولى والأشمل توكيداً لقيمتها، وبما لا إخلال فيه بالحق في تنظيمها، وبمراعاة أن القوانين الجنائية قد تفرض على هذه الحرية – بطريق مباشرة أو غير مباشر – أخطر القيود وأبلغها أثراً، لتعطل ممارستها، أو ترهقها – دون ما ضرورة – بما ينافيها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرعية الجزاء – جنائياً كان أم مدنياً أم تأديبياً – مناطها أن يكون متناسباً مع الأفعال التي أثمها المشرع، أو حظرها أو قيد مباشرتها، وأن الأصل في العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل بها إلا بقدر لزومها، نأياً بها أن تكون إيلاماً غير مبرر يؤكد قسوتها في غير ضرورة، ولا يجوز بالتالي أن تناقض – بمداها أو طرائق تنفيذها – القيم التي ارتضتها الأمم المتحضرة مؤكدة بها ارتقاء حسها، تعبيراً عن نضجها على طريق تقدمها، واستواء فهمها لمعايير الحق والعدل التي لا يصادم تطبيقها ما يراه أوساط الناس تقييماً خلقياً واعياً لمختلف الظروف ذات الصلة بالجريمة.
ذلك أن القانون الجنائي، وإن اتفق مع غيره من القوانين في تنظيم بعض العلائق التي يرتبط بها الأفراد فيما بين بعضهم البعض، أو من خلال مجتمعهم بقصد ضبطها، إلا أن القانون الجنائي يفارقها في اتخاذه العقوبة أداة لتقويم ما يصدر عنهم من أفعال نهاهم عن ارتكابها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد – ومن منظور اجتماعي – ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، وأن يسيطر عليها بوسائل يكون قبولها اجتماعياً ممكناً. بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مبرراً إلا إذا كان مفيداً من وجهة اجتماعية، فإن كان مجاوزاً تلك الحدود التي لا يكون معها ضرورياً، غدا مخالفاً للدستور.
وحيث إن مفاد ما تقدم، أنه كلما كان الجزاء الجنائي بغيضاً أو عاتياً، أو كان متصلاً بأفعال لا يجوز تجريمها، أو مجافياً بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسباً مع الأفعال التي أثمها المشرع، فإن هذا الجزاء لا يكون مبرراً، ذلك أن السلطة التي يملكها المشرع في مجال التجريم، حدها قواعد الدستور، فلا يجوز أن يؤثم المشرع أفعالاً في غير ضرورة اجتماعية، ولا أن يقرر عقوباتها بما يجاوز قدر هذه الضرورة.
وحيث إن قانون نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، بعد أن حدد حصراً ما يخص كلا منها من الأعمال المهنية التي قصر مباشرتها – أصلاً – على المقيدين بجداولها، عاقب بنص المادة 5 مكرراً، غير أعضائها الذين يقحمون أنفسهم على نشاطها، دون تصريح منها يخولهم مباشرة بعض جوانبه؛ وكان التجريم – وباعتباره واقعاً في هذه الحدود – يتناول في الأعم أعمالاً إبداعية تمثل بمكوناتها عطاءً دافقاً، ونهراً متجدداً بعناصر الخلق التي تؤثر في بناء الفرد روحياً وعقلياً؛ وكانت العقوبة التي فرضها المشرع على مباشرة هذه الأعمال دون ترخيص بها، هي الحبس والغرامة أو إحداهما – على إطلاق – دون قيد يتعلق بالحد الأقصى لأيهما، فإنها تكون عبئاً باهظاً على أعمال الإبداع، لتجاوز قسوتها ما يفترض أصلاً من تشجيعها وإنمائها والحض عليها بكل الوسائل، عملاً بنص المادة 49 من الدستور، ولأن الأصل هو جوازها لولا القيود المهنية التي فرضها التنظيم النقابي في شأنها. وهي بعد قيود ما كان ينبغي أن تصل وطأتها إلى حد إنفاذها من خلال جزاء جنائي يقيد الحرية الشخصية اعتسافاً، مجاوزاً بذلك قدر الضرورة الاجتماعية التي لا يجوز أن يكون بنيان التجريم منفصلاً عن متطلباتها.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، فإن الفقرة 4 من المادة 5 من قانون نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، وكذلك المادة 5 مكرراً من هذا القانون، تكونان قد خالفتا أحكام المواد 13 و34 و41 و47 و49 و64 و65 و66 من الدستور، وذلك لإخلالهما بالحق في الانفراد بعائد العمل، والحرية الشخصية، وبحرية التعبير والإبداع، وبالحماية التي كفلها الدستور للملكية الخاصة، وبمبدأ سيادة القانون والخضوع لمقتضاه، وبضرورة أن يقدر المشرع لكل جريمة عقوبتها بما يكفل تناسبها مع الأفعال التي أثمها.
فلهذا الأسباب
حكمت المحكمة:
أولاً: بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الرابعة من المادة الخامسة من القانون رقم 35 لسنة 1978 في شأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية من إلزام طالب التصريح بأن يؤدي إلى صندوق الإعانات والمعاشات بالنقابة رسماً نسبياً مقداره 20% من الأجور والمرتبات التي يحصل عليها نتيجة التصريح المؤقت.
ثانياً: بعدم دستورية المادة الخامسة مكرراً من هذا القانون.
وثالثاً: بإلزام الحكومة المصروفات، ومائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
صدر هذا الحكم من الهيئة المبينة بصدره، أما السيد المستشار محمد عبد القادر عبد الله الذي سمع المرافعة وحضر المداولة ووقع مسودة الحكم، فقد جلس بدله السيد المستشار نهاد عبد الحميد خلاف.
وسوم : حكم دستورية