الخط الساخن : 01118881009
جلسة 3 مايو 1997
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر – رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: عبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم (39)
القضية رقم 29 لسنة 15 قضائية “دستورية”
1 – دعوى دستورية “مناط المصلحة الشخصية المباشرة – انتفاؤها”.
مناط المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي وذلك بأن يكون الحكم في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع.
2 – تشريع “القانون رقم 36 لسنة 1975 بإنشاء صندوق للخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية: تفويض”:
خلو القانون المذكور من تحديد لنوع الخدمات الصحية والاجتماعية التي كفلها أو مداها – تخويله وزير العدل بعد موافقة المجلس الأعلى للهيئات القضائية أمر بيانها وشروط اقتضائها – من المتعين أن يكون إنفاذ هذه الخدمات متطوراً ومرتبطاً دوماً بموارد الصندوق.
3 – دستور “المادة 144” – لوائح تنفيذية “اختصاص”
متى عهد القانون إلى جهة معينة بإصدار القرارات اللازمة لتنفيذه – إعمالاً لهذه المادة – استقل من عينه القانون دون غيره بإصدارها.
4 – رقابة قضائية “مناطها”:
الرقابة التي تتولاها المحكمة الدستورية العليا في شأن الشرعية الدستورية – مناطها التعارض المدعى به بين نص تشريعي وقاعدة في الدستور – ولا شأن لها بما قد يقع بين التشريعات الأصلية والفرعية من تناقض.
5 – دستور “المادة 17” – تأمين اجتماعي – تشريع “المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981: المبلغ الإضافي”.
كفالة الدولة لمواطنيها – وفقا لهذه المادة من الدستور – خدماتهم التأمينية في الحدود التي يبينها القانون – مظلة التأمين الاجتماعي هي التي تكفل كل مواطن الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية وتوفر لحريته الشخصية مقوماتها ولضمانة الحق في الحياة روافدها – عدم مخالفة النص القانوني المشار إليه فيما قرره من وقف المبلغ الشهري الإضافي إذا مارس العضو مهنة غير تجارية في الداخل، للمادة 17 من الدستور.
6 – دعوى دستورية “استظهار العوار”:
خلو صحيفة الدعوى الدستورية من بيان صور من العوار التي تقوم بها المخالفة الدستورية لا يحول دون استظهار هذه المحكمة لها.
7 – دستور “المادة 13 – حق العمل”.
حق العمل وفقاً لهذا النص لا يجوز تقييده بما يعطل جوهره – أداؤه واجب غير منفصل عن الحق فيه.
8 – دستور “المادة 49” – حرية الإبداع.
كلما كان العمل ذهنياً قائماً على الابتكار كان لصيقاً بحرية الإبداع – حرية الإبداع تمثل جوهر النفس البشرية وأعمق معطياتها – وجوب تشجيع هذا العمل عملاً بنص المادة 49 من الدستور.
9 – دستور “المادتين 32، 34” – ملكية خاصة – حق العمل.
الملكية الخاصة التي كفل الدستور صونها بهاتين المادتين ترتد في الأعم من صورها إلى ضمان حق العمل – الملكية الخاصة عائدة إلى جهد صاحبها غالباً وحرصه بالعمل على إنمائها – اختصاصه دون غيره بثمارها – وقاية الدستور والقانون للملكية من تعرض الأغيار لها.
10 – تشريع “القانون رقم 36 لسنة 1975: حقوق”.
الخدمات التي كفلها هذا القانون لا تعتبر من أعمال التبرع – عدم جواز حجبها أو الرجوع فيها أو وقفها بما يعطل حقوقاً كفلها الدستور لكل مواطن.
11 – تشريع “القانون رقم 36 لسنة 1975 – قرار وزير العدل رقم 440 لسنة 1986: المبلغ الإضافي”.
المبلغ الشهري الإضافي مكمل للمعاش الأصلي للعضو – تضافرهما معاً في مجال ضمان الحد الأدنى لمتطلبات المعيشة – في غير المتصور أن يكون الحق في الحصول على الخدمات الصحية والاجتماعية للعضو معلقاً على شرط الامتناع عن العمل – وهو حق كفله الدستور لكل مواطن.
12 – مبدأ المساواة “صونه”.
مبدأ المساواة، ليس مبدأ جامداً – جواز المغايرة من خلال تنظيم موضوع محدد بين مراكز تتباين في أسسها – ما يصون مبدأ المساواة هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه نصوصه بالأغراض المشروعة التي يتوخاها – انفصال هذه النصوص عن أهدافها يعتبر تمييزاً تعسفياً.
13 – تشريع “المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 المعدل بقراره رقم 440 لسنة 1986: عواره”.
تقرير هذه المبلغ الشهري الإضافي لمن يباشرون عملاً يتقاضون عنه بدلاً أو مكافأة ومنعه عمن يزاولون مهنة غير تجارية – مخالفة هذا النص لمبدأ المساواة بين أشخاص متماثلة مراكزهم القانونية – من غير المتصور أن يكون التمييز بين صور الأعمال تحكمياً – مناهضة هذا التمييز حق العمل.
1 – المصلحة في الدعوى الدستورية – وهي شرط لقبولها – مناطها ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع؛ وكان النزاع الموضوعي يدور حول حرمان المدعي من المبلغ الشهري الإضافي بسبب مزاولته داخل البلاد لمهنة المحاماة، فإن نطاق الطعن الماثل ينحصر فيما يتصل بهذا النزاع من أجزاء المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1980، ولا شأن للدعوى الماثلة بغير ذلك من أحكامها.
2 – القانون رقم 36 لسنة 1975 المشار إليه، وإن أنشأ صندوقاً كافلاً الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية التي عينها، ونص على انصرافها إليهم وإلى أسرهم، إلا أن هذا القانون خلال من كل تحديد لها سواء في نوعها أو مداها، وعهد بتفصيلها وتحديد ضوابطها إلى وزير العدل، مصدراً في شأنها ما يناسبها من القرارات التي يوافق عليها المجلس الأعلى للهيئات القضائية. ولا يعتبر التنظيم الصادر عن وزير العدل في هذا الشأن، منطوياً على حرمان من مزايا كفلها ذلك القانون، إذ يفترض الحرمان منها أن يكون أصلها مقرراً ابتداءً بمقتضى أحكامه، وهو ما لا دليل عليه من نصوصه التي تدخل بها المشرع – لا ليحدد تفصيلاً ماهية الخدمات الصحية والاجتماعية التي قرر ضمانها من خلال الصندوق – بل ليكل إلى وزير العدل بعد موافقة المجلس الأعلى للهيئات القضائية، أمر بيانها وشروط اقتضائها. يؤيد هذا النظر أن الدولة هي التي توفر بنفسها مصادر تمويل هذا الصندوق، وينبغي بالتالي أن يكون إنفاذ الخدمات التي يقدمها وما يترتب عليها من أعباء يتحملها، متطوراً، ومرتبطاً دوماً بموارده.
3، 4 – المادة 144 من الدستور تقضي بأن يصدر رئيس الجمهورية اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها. وله أن يفوض غيره في ذلك. ويجوز أن يعين القانون من يصدر القرارات اللازمة لتنفيذه.
ومن المقرر – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أنه متى عهد القانون إلى جهة معينة بإصدار القرارات اللازمة لتنفيذه، استقل من عينه القانون دون غيره بإصدارها؛ وكان قانون صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية التي حددها، لا يتضمن تحديداً لقواعد الانتفاع بها، فإن بيان وزير العدل لشروط وقفها – إعمالاً لسلطته في مجال تنظيم هذا الصندوق وتقرير قواعد الإنفاق منه – لا يكون منطوياً على تعديل لهذا القانون. هذا فضلاً عما استقر عليه قضاء هذه المحكمة من أن الرقابة التي تتولاها في شأن الشرعية الدستورية، مناطها التعارض المدعى به بين نص تشريعي وقاعدة في الدستور، ولا شأن لها بما قد يقع بين التشريعات الأصلية والفرعية، من تناقض.
5 – إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الدستور إذ ناط بالدولة – وفقاً لمادته السابعة عشرة – أن تكفل لمواطنيها خدماتهم التأمينية – الاجتماعية منها والصحية – بما في ذلك تقرير معاش لمواجهة بطالتهم وعجزهم عن العمل أو شيخوختهم “في الحدود التي بينها القانون”، فذلك لأن مظلة التأمين الاجتماعي التي يمتد نطاقها إلى الأشخاص المشمولين بها، هي التي تكفل لكل مواطن الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية التي لا تمتهن فيها آدميته، والتي توفر لحريته الشخصية متطلباتها ولضمانه الحق في الحياة أهم روافدها، بما يكفل انتماءه للجماعة التي يعيش في محيطها، ويصون مقوماتها. متى كان ذلك؛ وكان مناط طلب الانتفاع بالخدمات الاجتماعية والصحية التي عينها المشرع، أن يكون القانون الصادر بها قد فصلها مبيناً كذلك شروط استحقاقها ليكون سريانها على الأشخاص المشمولين بما لازماً عند تحققها؛ وكان القانون الصادر في شأن صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية التي حددها، قد جاء مجهلاً بنوعها ونطاقها وشروط طلبها، فإن قالة إهدار النص المطعون فيه للمادة 17 من الدستور، لا يكون لها من محل.
6 – خلو صحيفة الدعوى الماثلة من بيان صور من العوار التي تقوم بها المخالفة الدستورية، لا يحول دون استظهار هذه المحكمة لها، وتجليتها، تقديراً بأن قضاءها برفض الدعوى الدستورية يفترض اتساق النصوص المطعون عليها وأحكام الدستور جميعها، فلا تصادم أياً منها، وإلا كان الحكم بعدم دستوريتها لازماً.
7 – البين من أحكام الدستور بما يحقق تكاملها ويكفل عدم انعزال بعضها عن بعض في إطار الوحدة العضوية التي تجمعها وتصون ترابطها، أن حق العمل وفقاً لنص المادة 13 من الدستور، لا يمنح تفضلاً، ولا يتقرر إيثاراً، ولا يجوز إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره، بل يعتبر أداؤه واجباً لا ينفصل عن الحق فيه، ومدخلاً إلى حياة لائقة قوامها الاطمئنان إلى غد أفضل، وبها تتكامل الشخصية الإنسانية من خلال إسهامها في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها. بما يصون للقيم الخلقية روافدها.
8 – كلما كان العمل ذهنياً قائماً على الابتكار، وكان لصيقاً بحرية الإبداع، وصار تشجيعه مطلوباً عملاً بنص المادة 49 من الدستور التي تكفل لكل مواطن حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي مع ضمان وسائل تشجيعها، مؤكدة بذلك أن لكل فرد مجالاً حراً لتطوير ملكاته وقدراته، فلا يجوز تنحيتها أو فرض قيود جائرة تحد منها، ذلك أن حرية الإبداع تمثل جوهر النفس البشرية وأعمق معطياتها. وصقل عناصر الخلق فيها وإذكائها، كافل لحيويتها، فلا تكون هامدة، بل إن التقدم في عديد من مظاهره يرتبط بها.
9 – الملكية الخاصة – التي كفل الدستور صونها بنص المادتين 32، 34 – ترتد في عديد من جوانبها ومصادرها؛ وكذلك في الأعم من صورها إلى ضمان حق العمل باعتباره أداة تكوينها ووسيلة تراكمها. وقد جرى قضاء المحكمة على أن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي، كفل حمايتها لكل فرد، ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها باعتبارها عائدة – في الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها، معبداً بها وكافلاً من خلالها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية أهم أدواتها، مهيمناً عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها فلا يرده عنها معتد، بل يقيها الدستور والقانون تعرض الأغيار لها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، بما يُعينها على أداء دورها.
10 – الخدمات الاجتماعية والصحية التي كفلها الصندوق الخاص بها لأعضاء الهيئات القضائية الحاليين والسابقين وشمل بها أسرهم كذلك، لا تعتبر من أعمال التبرع التي يقدمها الصندوق لمستحقيها، بل توخي المشرع بتقريرها أن تعينهم مع المعاش الأصلي على إشباع الحد الأدنى من احتياجاتهم بثاً للاطمئنان في نفوسهم، فلا يجوز حجبها أو الرجوع فيها أو وقفها بما يعطل حقوقاً كفلها الدستور لكل مواطن.
11 – المبلغ الشهري الإضافي مكمل للمعاش الأصلي لأعضاء الهيئات القضائية، ويتضافران معاً في مجال ضمان الحد الأدنى لمتطلباتهم المعيشية. ولا يجوز بالتالي أن يكون الحق في المبلغ الشهري الإضافي حائلاً دون امتهان عضو الهيئة القضائية – بعد تقاعده – أعمالاً يمارسها لا يكون بها طاقة عاطلة تفرض أعباءها على غيرها، ولا يركن باحترافها إلى حياة راكدة وراء جدران مغلقة، تتهادم بها تلك القيم التي تعلو بقدره وتؤكد ارتقاءه. ومن غير المتصور وقد توخي القانون رقم 36 لسنة 1975 – المشار إليه – وعلى ما يبين من تقرير اللجنة التشريعية – تقرير قواعد موحدة للرعاية الصحية والاجتماعية تضم أعضاء الهيئات القضائية وأسرهم، أن يكون الحق في الحصول عليها معلقاً على شرط الامتناع عن العمل، وهو أحد الحقوق التي كفلها الدستور لكل مواطن. ولا يسوغ كذلك – في منطق الأمور – أن يرتد النص المطعون فيه عن قيم الحق والعدل، ليحجبها دون سند من الدستور، عن هؤلاء الذين كفلوا دوماً إرساء مقوماتها.
12 – مبدأ المساواة، ليس مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للسلطة التشريعية أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد؛ وأن يغاير من خلال هذا التنظيم – ووفقاً لمقاييس منطقية – بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، إلا أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها. فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، أو كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، كان التمييز انفلاتاً وعسفاً، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
13 – النص المطعون فيه، وإن وحد بين أعضاء الهيئات القضائية في شأن الأسس التي يتم على ضوئها حساب معاشهم التكميلي ممثلاً في المبلغ الشهري الإضافي، إلا أنه كفل اقتضاءه لمن يباشرون عملاً يتقاضون عنه بدلاً أو مكافأة، ومنعه عمن يزاولون مهنة غير تجارية، مخالفاً بذلك مبدأ المساواة بين أشخاص تتماثل مراكزهم القانونية، إذ ليس مفهوماً أن يكون العمل مباحاً إذا كان أجره محدداً في شكل بدل أو مكافأة؛ ومحظوراً إذا اتخذ الأجر تسمية أخرى.
بل إن النص المطعون فيه يفتح للتحايل أبواباً عريضة، إذ يمكن دائماً تسمية مقابل العمل بالبدل أو المكافأة بغض النظر عن حقيقته. ومزاولة إحدى المهن غير التجارية، لا يعدو أن يكون عملاً شأنها في ذلك شأن أي عمل آخر، ومن غير المتصور أن يكون التمييز بين صور الأعمال تحكمياً، ولا أن يناهض التمييز التشريعي أحد الحقوق التي كفلها الدستور، وليس حق العمل إلا وثيق الصلة بالملكية وبالحرية الشخصية وبالحق في الإبداع، وجميعها من الحقوق التي حرص الدستور على صونها. وإهدارها أو تقييدها لا يستند إلى مصلحة مشروعة، بل يناقضها.
الإجراءات
بتاريخ 14 أغسطس سنة 1993، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً الحكم بعدم دستورية المادة 34 مكرراً (3) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 المعدل بقراره رقم 440 لسنة 1986. فيما تضمنته من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي لمن يمارس مهنة غير تجارية.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعي كان قد عين بهيئة قضايا الدولة بوظيفة مندوب مساعد اعتباراً من 16/ 10/ 1956، وظل يتدرج وظائفها إلى أن أحيل إلى التقاعد اعتباراً من 22/ 4/ 1987، ثم قيد بجدول المحامين في 28/ 10/ 1987. وبتاريخ 17/ 12/ 1989 تقدم إلى السيد المستشار رئيس مجلس إدارة صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية طالباً صرف المبلغ الشهري الإضافي المقرر بمقتضى نص المادة 34 مكرراً (1) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 المعدل بقراره رقم 440 لسنة 1986، والمستحق للمحالين إلى التقاعد من أعضاء الهيئات القضائية. وإذ لم يتلق رداً على طلبه خلال ستين يوماً من تاريخ تقديمه، فقد أقام الدعوى رقم 3423 لسنة 44 قضائية أمام محكمة القضاء الإداري طالباً الحكم بأحقيته في صرف المبلغ المشار إليه اعتباراً من نوفمبر 1987.
وبجلسة 14 يونيه سنة 1993، دفع المدعي بعدم دستورية المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل المشار إليه فيما تضمنته من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي بالنسبة لمن يمارس – بعد إحالته إلى التقاعد – مهنة غير تجارية – فقررت المحكمة بجلسة 26 يوليه 1993 تأجيل نظر الدعوى لجلسة 18/ 10/ 1993 لإقامة الدعوى الدستورية، فأقام دعواه الماثلة. وعقب قيدها، قضت المحكمة المذكرة بجلسة 8/ 11/ 1993، بوقف الدعوى الموضوعية إلى حين الفصل في المسألة الدستورية.
وحيث إن المادة الأولى من القانون رقم 36 لسنة 1975 بإنشاء صندوق للخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية، تقضي بأن ينشأ بوزارة العدل صندوق تكون له الشخصية الاعتبارية، تخصص له الدولة الموارد اللازمة لتمويل وكفالة الخدمات الصحية والاجتماعية للأعضاء الحاليين والسابقين للهيئات القضائية التي حددتها – وهي القضاء والنيابة العامة، ومجلس الدولة، وإدارة قضايا الحكومة والنيابة الإدارية – على أن يصدر بتنظيم هذا الصندوق، وقواعد الإنفاق منه، قرار من وزير العدل بعد موافقة المجلس الأعلى للهيئات القضائية.
وحيث إن وزير العدل أصدر بعدئذ القرار رقم 4853 لسنة 1981 بتنظيم صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية؛ متضمناً تحديد الأغراض التي يقوم عليها هذا الصندوق ووسائل تنفيذها ومتابعتها؛ وصور الخدمات الصحية والاجتماعية التي يقدمها ومداها؛ وما يخرج من نطاق ما يتحمله الصندوق من تكلفتها. ثم أصدر وزير العدل القرار رقم 440 لسنة 1986 في شأن صرف مبلغ شهري إضافي لأصحاب المعاشات من أعضاء الهيئات القضائية والمستحقين عنهم، مضيفاً بمقتضاه إلى قراره رقم 4853 لسنة 1981 خمس مواد جديدة، من بينها المادتان 34 مكرراً (1) و34 مكرراً (2) اللتان تجريان على النحو الآتي:
مادة 34 مكرراً (1):
يصرف كل من استحق أو يستحق معاشاً من أعضاء الهيئات القضائية المنصوص عليها في القانون رقم 36 لسنة 1975 وانتهت خدمته فيها للعجز، أو ترك الخدمة بها لبلوغ سن التقاعد، أو أمضى في عضويتها مدداً مجموعها خمسة عشر عاماً على الأقل، مبلغ شهري إضافي مقداره خمسة جنيهات عن كل سنة من مدد العضوية ومدد الاشتغال بعد التخرج بعمل نظير أو بالمحاماة التي حسبت في المعاش وتعويض الدفعة الواحدة، بما فيها المدد المحسوبة بالقرار بقانون رقم 85 لسنة 1971 بجواز إعادة تعيين بعض أعضاء الهيئات القضائية، وبالقانون رقم 43 لسنة 1973 بشأن إعادة بعض أعضاء الهيئات القضائية إلى وظائفهم الأصلية ومدد الإعارة والندب والإجازات والبعثات والمنح والتجنيد والاستبقاء والاستدعاء للاحتياط، دون مضاعفة أية مدة ولا إضافة مدد أخرى زائدة أو اعتبارية أو افتراضية، ويجبر كسر الشهر شهراً وتحسب كسور الجنيه جنيهاً، ويكون مقدار الحد الأدنى لإجمالي المبلغ الشهري الإضافي خمسين جنيهاً.
فإذا كان العضوية يتقاضى – بالإضافة إلى معاشه – معاشاً استثنائياً أو معاشاً آخر صرف له بعد ترك الخدمة عن عمل التحق به أو مهنة مارسها، خصمت قيمته من المبلغ الشهري الإضافي.
مادة 34 مكرراً (2):
يوقف صرف المبلغ الشهري الإضافي إذا التحق العضو بعمل داخل البلاد يتقاضى عند دخلاً عدا المكافآت والبدلات، أو التحق بأي عمل خارجها، أو مارس مهنة تجارية أو غير تجارية في الداخل أو الخارج، ويعود الحق في صرفه في حالة ترك العمل أو المهنة.
ويمتنع صرف المبلغ الشهري الإضافي لمن أنهيت خدمته بحكم جنائي أو تأديبي، ومن أحيل إلى المعاش أو نقل إلى وظيفة أخرى لسبب يتصل بتقارير الكفاية أو لفقد الثقة والاعتبار أو فقد أسباب الصلاحية لغير الأسباب الصحية، ولمن استقال أثناء نظر الدعوى التأديبية أو الطلب المتعلق بالصلاحية أو أثناء اتخاذ أية إجراءات جنائية ضده.
وحيث إن من المقرر – وعلى ما جرى به قضاء المحكمة – أن المصلحة في الدعوى الدستورية – وهي شرط لقبولها – مناطها ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع؛ وكان النزاع الموضوعي يدور حول حرمان المدعي من المبلغ الشهري الإضافي بسبب مزاولته داخل البلاد لمهنة المحاماة، فإن نطاق الطعن الماثل ينحصر فيما يتصل بهذا النزاع من أجزاء المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1980، ولا شأن للدعوى الماثلة بغير ذلك من أحكامها.
وحيث إن المدعي ينعي على النص المطعون فيه – محدداً إطاراً على النحو المتقدم – مخالفته للمادة 122 من الدستور التي تنص على أن يعين القانون قواعد منح المرتبات والمعاشات والتعويضات والإعانات والمكافآت التي تتقرر على خزانة الدولة، وينظم القانون أحوال الاستثناء منها والجهات التي تتولى تطبيقها؛ وذلك تأسيساً على أن القانون رقم 36 لسنة 1975 قد كفل لأعضاء الهيئات القضائية الخدمات الصحية والاجتماعية التي حددها – ومن بينها المبلغ الشهري الإضافي – فلا يجوز لأداة أدنى مرتبة من القانون ممثلة في قرار وزير العدل المشار إليه، أن تعدل من قواعد استحقاقها، وإلا كان ذلك منها عملاً مخالفاً للدستور.
وحيث إن القانون رقم 36 لسنة 1975 المشار إليه، وإن أنشأ صندوقاً كافلاً الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية التي عينها، ونص على انصرافها إليهم وإلى أسرهم، إلا أن هذا القانون خلال من كل تحديد لها سواء في نوعها أو مداها، وعهد بتفصيلها وتحديد ضوابطها إلى وزير العدل، مصدراً في شأنها ما يناسبها من القرارات التي يوافق عليها المجلس الأعلى للهيئات القضائية. ولا يعتبر التنظيم الصادر عن وزير العدل في هذا الشأن، منطوياً على حرمان من مزايا كفلها ذلك القانون، إذ يفترض الحرمان منها أن يكون أصلها مقرراً ابتداءً بمقتضى أحكامه، وهو ما لا دليل عليه من نصوصه التي تدخل بها المشرع – لا ليحدد تفصيلاً ماهية الخدمات الصحية والاجتماعية التي قرر ضمانها من خلال الصندوق – بل ليكل إلى وزير العدل بعد موافقة المجلس الأعلى للهيئات القضائية، أمر بيانها وشروط اقتضائها. يؤيد هذا النظر أن الدولة هي التي توفر بنفسها مصادر تمويل هذا الصندوق، وينبغي بالتالي أن يكون إنفاذ الخدمات التي يقدمها وما يترتب عليها من أعباء يتحملها، متطوراً، ومرتبطاً دوماً بموارده.
وحيث إن المدعي قد ذهب إلى أن الأصل في اللوائح التنفيذية أنها لا تعدل أحكاماً تضمنتها قوانين قائمة؛ وإن ما قرره النص المطعون فيه من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي إذا مارس العضو داخل البلاد أو خارجها مهنة غير تجارية، يتضمن خروجاً على هذا الأصل.
وحيث إن المادة 144 من الدستور تقضي بأن يصدر رئيس الجمهورية اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها. وله أن يفوض غيره في ذلك. ويجوز أن يعين القانون من يصدر القرارات اللازمة لتنفيذه.
وحيث إن من المقرر – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أنه متى عهد القانون إلى جهة معينة بإصدار القرارات اللازمة لتنفيذ، استقل من عينه القانون دون غيره بإصدارها؛ وكان قانون صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية التي حددها، لا يتضمن تحديداً لقواعد الانتفاع بها، فإن بيان وزير العدل لشروط وقفها – إعمالاً لسلطته في مجال تنظيم هذا الصندوق وتقرير قواعد الإنفاق منه – لا يكون منطوياً على تعديل لهذا القانون. هذا فضلاً عما استقر عليه قضاء هذه المحكمة من أن الرقابة التي تتولاها في شأن الشرعية الدستورية، مناطها التعارض المدعى به بين نص تشريعي وقاعدة في الدستور، ولا شأن لها بما قد يقع بين التشريعات الأصلية والفرعية، من تناقض.
وحيث إن المدعي ينعي على النص المطعون فيه، مخالفته للمادة 17 من الدستور التي تقضي بأن تكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعي والصحي، ومعاشات العجز عن العمل، والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعاً وذلك وفقاً للقانون.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن الدستور إذ ناط بالدولة – وفقاً لمادته السابعة عشرة – أن تكفل لمواطنيها خدماتهم التأمينية – الاجتماعية منها والصحية – بما في ذلك تقرير معاش لمواجهة بطالتهم وعجزهم عن العمل أو شيخوختهم “في الحدود التي بينها القانون”، فذلك لأن مظلة التأمين الاجتماعي التي يمتد نطاقها إلى الأشخاص المشمولين بها، هي التي تكفل لكل مواطن الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية التي لا تمتهن فيها آدميته، والتي توفر لحريته الشخصية متطلباتها ولضمانه الحق في الحياة أهم روافدها، بما يكفل انتماءه للجماعة التي يعيش في محيطها، ويصون مقوماتها. متى كان ذلك؛ وكان مناط طلب الانتفاع بالخدمات الاجتماعية والصحية التي عينها المشرع، أن يكون القانون الصادر بها قد فصلها مبيناً كذلك شروط استحقاقها ليكون سريانهم على الأشخاص المشمولين بها لازماً عند تحققها؛ وكان القانون الصادر في شأن صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية التي حددها، قد جاء مجهلاً بنوعها ونطاقها وشروط طلبها، فإن قالة إهدار النص المطعون فيه للمادة 17 من الدستور، لا يكون لها من محل.
وحيث إن خلو صحيفة الدعوى الماثلة من بيان صور من العوار التي تقوم بها المخالفة الدستورية، لا يحول دون استظهار هذه المحكمة لها، وتجليتها، تقديراً بأن قضاءها برفض الدعوى الدستورية يفترض اتساق النصوص المطعون عليها وأحكام الدستور جميعها، فلا تصادم أياً منها، وإلا كان الحكم بعدم دستوريتها لازماً.
وحيث إن البين من أحكام الدستور بما يحقق تكاملها ويكفل عدم انعزال بعضها عن بعض في إطار الوحدة العضوية التي تجمعها وتصون ترابطها، أن حق العمل وفقاً لنص المادة 13 من الدستور، لا يمنح تفضلاً، ولا يتقرر إيثاراً، ولا يجوز إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره، بل يعتبر أداؤه واجباً لا ينفصل عن الحق فيه، ومدخلاً إلى حياة لائقة قوامها الاطمئنان إلى غد أفضل، وبها تتكامل الشخصية الإنسانية من خلال إسهامها في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها. بما يصون للقيم الخلقية روافدها.
وكلما كان العمل ذهنياً قائماً على الابتكار، وكان لصيقاً بحرية الإبداع، وصار تشجيعه مطلوباً عملاً بنص المادة 49 من الدستور التي تكفل لكل مواطن حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي مع ضمان وسائل تشجيعه، مؤكدة بذلك أن لكل فرد مجالاً حراً لتطوير ملكاته وقدراته، فلا يجوز تنحيتها أو فرض قيود جائرة تحد منها، ذلك أن حرية الإبداع تمثل جوهر النفس البشرية وأعمق معطياتها. وصقل عناصر الخلق فيها وإذكائها، كافل لحيويتها، فلا تكون هامدة، بل إن التقدم في عديد من مظاهره يرتبط بها.
وحيث إن الملكية الخاصة – التي كفل الدستور صونها بنص المادتين 32، 34 – ترتد في عديد من جوانبها ومصادرها؛ وكذلك في الأعم من صورها إلى ضمان حق العمل باعتباره أداة تكوينها ووسيلة تراكمها في الأعم. وقد جرى قضاء المحكمة على أن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي، كفل حمايتها لكل فرد، ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها باعتبارها عائدة – غالباً – إلى جهد صاحبها بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها، معبداً بها وكافلاً من خلالها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية أهم أدواتها، مهيمناً عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها فلا يرده عنها معتد، بل يقيها الدستور والقانون تعرض الأغيار لها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، بما يُعينها على أداء دورها.
وحيث الخدمات الاجتماعية والصحية التي كفلها الصندوق الخاص بها لأعضاء الهيئات القضائية الحاليين والسابقين وشمل بها أسرهم كذلك، لا تعتبر من أعمال التبرع التي يقدمها الصندوق لمستحقيها، بل توخي المشرع بتقريرها أن تعينهم مع المعاش الأصلي على إشباع الحد الأدنى من احتياجاتهم بثاً للاطمئنان في نفوسهم، فلا يجوز حجبها أو الرجوع فيها أو وقفها بما يعطل حقوقاً كفلها الدستور لكل مواطن.
وحيث إن الأمانة العامة للمجلس الأعلى للهيئات القضائية، كانت قد أعدت مذكرة عرضتها على هذا المجلس في 30 من يناير سنة 1986 مرفقاً بها مشروع القرار المطعون فيه، متضمناً تعديل القرار السابق عليه، وكافلاً – ولأول مرة – تقرير مبلغ شهري إضافي لأعضاء الهيئات القضائية باعتباره معاشاً تكميلياً يواجهون به الارتفاع المتزايد في الأسعار، فضلاً عن انحدار دخولهم إلى أكثر من نصفها بعد إحالتهم إلى التقاعد، مما أقتضى موازنتها بهذا المبلغ الشهري الإضافي.
وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن هذا المبلغ مكمل للمعاش الأصلي لأعضاء الهيئات القضائية، وأنهما معاً يتضافران في مجال ضمان الحد الأدنى لمتطلباتهم المعيشية. ولا يجوز بالتالي أن يكون الحق في المبلغ الشهري الإضافي حائلاً دون امتهان عضو الهيئة القضائية – بعد تقاعده – أعمالاً يمارسها لا يكون بها طاقة عاطلة تفرض أعباءها على غيرها، ولا يركن باحترافها إلى حياة راكدة وراء جدران مغلقة، تتهادم بها تلك القيم التي تعلو بقدره وتؤكد ارتقاءه. ومن غير المتصور وقد توخي القانون رقم 36 لسنة 1975 – المشار إليه – وعلى ما يبين من تقرير اللجنة التشريعية – تقرير قواعد موحدة للرعاية الصحية والاجتماعية تضم أعضاء الهيئات القضائية وأسرهم، أن يكون الحق في الحصول عليها معلقاً على شرط الامتناع عن العمل، وهو أحد الحقوق التي كفلها الدستور لكل مواطن. ولا يسوغ كذلك – في منطق الأمور – أن يرتد النص المطعون فيه عن قيم الحق والعدل، ليحجبها دون سند من الدستور، عن هؤلاء الذين كفلوا دوماً إرساء مقوماتها.
وحيث إن المدعي ينعي كذلك على النص المطعون تمييزه من جهة بين من يمارسون أعمالاً يتقاضون عنها مكافأة أو بدلاً، وبين من يزاولون مهنة غير تجارية، ذلك أنه كفل للأولين دون الآخرين الحق في المبلغ الشهري الإضافي بالمخالفة لنص المادة 40 من الدستور.
وحيث إن مبدأ المساواة، ليس مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للسلطة التشريعية أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد؛ وأن تغاير من خلال هذا التنظيم – ووفقاً لمقاييس منطقية – بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، إلا أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها. فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، أو كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، كان التمييز انفلاتاً وعسفاً، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
وحيث إن النص المطعون فيه، وإن وحد بين أعضاء الهيئات القضائية في شأن الأسس التي يتم على ضوئها حساب معاشهم التكميلي ممثلاً في المبلغ الشهري الإضافي، إلا أنه كفل اقتضاءه لمن يباشرون عملاً يتقاضون عنه بدلاً أو مكافأة، ومنعه عمن يزاولون مهنة غير تجارية، مخالفاً بذلك مبدأ المساواة بين أشخاص تتماثل مراكزهم القانونية، إذ ليس مفهوماً أن يكون العمل مباحاً إذا كان أجره محدداً في شكل بدل أو مكافأة؛ ومحظوراً إذا اتخذ الأجر تسمية أخرى.
بل إن النص المطعون فيه يفتح للتحايل أبواباً عريضة، إذ يمكن دائماً تسمية مقابل العمل بالبدل أو المكافأة بغض النظر عن حقيقته. ومزاولة إحدى المهن غير التجارية، لا تعدو أن تكون عملاً شأنها في ذلك شأن أي عمل آخر، ومن غير المتصور أن يكون التمييز بين صور الأعمال تحكمياً، ولا أن يناهض التمييز التشريعي أحد الحقوق التي كفلها الدستور، وليس حق العمل إلا وثيق الصلة بالملكية وبالحرية الشخصية وبالحق في الإبداع، وجميعها من الحقوق التي حرص الدستور على صونها. وإهدارها أو تقييدها لا يستند إلى مصلحة مشروعة، بل يناقضها.
وحيث إن النص المطعون فيه – فيما قرره من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي بالنسبة لمن يزاولون بعد انتهاء خدمتهم مهنة غير تجارية – قد جاء بذلك مخالفاً لأحكام المواد 13 و32 و34 و40 و41 و49 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 بتنظيم صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية المعدل بالقرار رقم 440 لسنة 1986، وذلك فيما نصت عليه من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي إذا مارس العضو مهنة غير تجارية في الداخل، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
وسوم : حكم دستورية