الخط الساخن : 01118881009
جلسة 6 نوفمبر سنة 1999
برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال – رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: الدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبد الله وعلي عوض محمد صالح، وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق حسن – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم (49)
القضية رقم 72 لسنة 20 قضائية “دستورية”
1 – دعوى دستورية “المصلحة: مناطها”.
مناط المصلحة في الدعوى الدستورية – وهي شرط لقبولها – ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي – ذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها.
2 – دستور “المادة 13: حق العمل”.
حق العمل وفقاً لنص المادة 13 من الدستور لا يجوز إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره – كلما كان العمل ذهنياً كان لصيقاً بحرية الإبداع وصار تشجيعه مطلوباً عملاً بنص المادة 49 من الدستور.
3 – حق الملكية الخاصة – حق العمل.
ارتداد الملكية الخاصة التي كفل الدستور صونها في الأعم من صورها إلى ضمان حق العمل باعتباره أداة تكوينها – عدم جواز المساس بالملكية الخاصة إلا استثناء وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها.
4 – خدمات اجتماعية وصحية “مبلغ شهري إضافي – معاش تكميلي”.
الخدمات الاجتماعية والصحية التي كفلها الصندوق الخاص بها لأعضاء الهيئات القضائية وأسرهم لا تعتبر من أعمال التبرع – الغاية من تقريرها هو إعانتهم – مع المعاش الأصلي – على إشباع الحد الأدنى من احتياجاتهم – المبلغ الشهري الإضافي الذي تقرر صرفه من الصندوق للأعضاء المتقاعدين مكمل للمعاش الأصلي – من غير المتصور أن يكون الحصول على هذا المبلغ معلقاً على شرط الامتناع عن العمل.
5 – مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون “صونه”.
ما يصون مبدأ المساواة هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها بالأغراض المشروعة التي تتوخاها – انفصال هذه النصوص عن أهدافها أو عدم اتصال الوسائل بالمقاصد؛ أثره: اعتبار التمييز بين أصحاب المراكز عسفاً.
6 – تشريع “المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 المعدل بالقرار رقم 440 لسنة 1986: عوار”.
ما تضمنه هذا النص من وقف صرف المبلغ الشهر الإضافي إذا التحق العضو بعمل داخل البلاد يتقاضى عنه دخلاً يُعد إخلالاً بمبدأ المساواة بين أشخاص تتماثل مراكزهم القانونية، وإهداراً لحق العمل.
1 – المصلحة في الدعوى الدستورية – وهي شرط لقبولها – مناطها ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع.
2 – البين من أحكام الدستور بما يحقق تكاملها ويكفل عدم انعزال بعضها عن بعض في إطار الوحدة العضوية التي تجمعها وتصون ترابطها، أن حق العمل وفقاً لنص المادة 13 من الدستور، لا يمنح تفضلاً، ولا يتقرر إيثاراً، ولا يجوز إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره، بل يعتبر أداؤه واجباً لا ينفصل عن الحق فيه، ومدخلاً إلى حياة لائقة قوامها الاطمئنان إلى غد أفضل، وبها تتكامل الشخصية الإنسانية من خلال إسهامها في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها، بما يصون للقيم الخلقية روافدها. وكلما كان العمل ذهنياً قائماً على الابتكار، كان لصيقاً بحرية الإبداع، وصار تشجيعه مطلوباً عملاً بنص المادة 49 من الدستور التي تكفل لكل مواطن حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي مع ضمان وسائل تشجيعاً، مؤكدة بذلك أن لكل فرد مجالاً حراً لتطوير ملكاته وقدراته، فلا يجوز تنحيتها أو فرض قيود جائرة تحد منها، ذلك أن حرية الإبداع تمثل جوهر النفس البشرية وأعمق معطياتها. وصقل عناصر الخلق فيها وإذكائها، كافل لحيويتها، فلا تكون هامدة، بل إن التقدم في عديد من مظاهره يرتبط بها.
3 – الملكية الخاصة – التي كفل الدستور صونها بنص المادتين 32، 34 – ترتد في عديد من جوانبها ومصادرها؛ وكذلك في الأعم من صورها إلى ضمان حق العمل باعتباره أداة تكوينها ووسيلة تراكمها في الأغلب. وقد جرى قضاء هذه المحكمة، على أن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي – كفل حمايتها لكل فرد، ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها باعتبارها عائدة – في الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها وأحاطها الدستور بما قدره ضرورياً لصونها، معبداً بها وكافلاً من خلالها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية أهم أدواتها، مهيمناً عليها ليختص صاحبها دون غيره بثمارها ومنتجاتها فلا يرده عنها معتد، بل يقيها الدستور والقانون تعرض الأغيار لها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها بما يعينها على أداء دورها.
4 – الخدمات الاجتماعية والصحية التي كفلها الصندوق الخاص بها لأعضاء الهيئات القضائية الحاليين والسابقين وشمل بها أسرهم، لا تعتبر من أعمال التبرع التي يقدمها الصندوق لمستحقيها، بل توخي المشرع بتقريرها أن تعينهم – مع المعاش الأصلي – على إشباع الحد الأدنى من احتياجاتهم بثاً للاطمئنان في نفوسهم، فلا يجوز حجبها أو الرجوع فيها أو وقفها بما يعطل حقوقاً كفلها الدستور لكل مواطن.
ما تقدم مؤداه، أن هذا المبلغ مكمل للمعاش الأصلي لأعضاء الهيئات القضائية، وأنهما معاً يتضافران في مجال ضمان الحد الأدنى لمتطلباتهم المعيشية ولا يجوز بالتالي أن يكون الحق في المبلغ الشهر الإضافي حائلاً دون امتهان عضو الهيئة القضائية – بعد تقاعده – أعمال يمارسها أو تقلده وظائف لا يكون بها طاقة عاطلة. ومن غير المتصور وقد توخى القانون رقم 36 لسنة 1975 المشار إليه – على ما يبين من تقرير اللجنة التشريعية – تقرير قواعد موحدة للرعاية الصحية والاجتماعية تضم أعضاء الهيئات القضائية وأسرهم، أن يكون الحق في الحصول عليها معلقاً على شرط الامتناع عن العمل، وهو أحد الحقوق التي كفلها الدستور لكل مواطن. ولا يسوغ كذلك – في منطق الأمور – أن يرتد النص المطعون فيه عن قيم الحق والعدل، ليحجبها دون سند من الدستور، عن هؤلاء الذين كفلوا دوماً إرساء مقوماتها.
5 – مبدأ المساواة – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – ليس مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للسلطة التشريعية أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد؛ وأن تغاير من خلال هذا التنظيم – ووفقاً لمقاييس منطقية – بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، إلا أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها. فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، أو كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، كان التمييز انفلاتاً وعسفاً، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
6 – النص المطعون فيه، وإن وحد أعضاء الهيئات القضائية في شأن الأسس التي يتم على ضوئها حساب معاشهم التكميلي ممثلاً في المبلغ الشهري الإضافي، إلا أنه كفل اقتضاءه لمن يباشرون عملاً يتقاضون عنه بدلاً أو مكافأة، ومنعه عمن يزاولون عملاً داخل البلاد يتقاضون عنه دخلاً، مخالفاً بذلك مبدأ المساواة بين أشخاص تتماثل مراكزهم القانونية، إذ ليس مفهوماً أن يكون العمل مباحاً إذا كان أجره محدداً في شكل بدل أو مكافأة؛ ومحظوراً إذا اتخذ الأجر تسمية أخرى. وفضلاً عن ذلك فإن النص المطعون فيه يفتح للتحايل أبواباً عريضة، إذ يمكن دائماً تسمية مقابل العمل بالبدل أو المكافأة بغض النظر عن حقيقته، ومن غير المتصور أن يكون التمييز بين صور الأعمال تحكيماً، ولا أن يناهض التمييز التشريعي أحد الحقوق التي كفلها الدستور، وليس حق العمل إلا توثيق الصلة بالملكية وبالحرية الشخصية وبالحق في الإبداع، وجميعها من الحقوق التي حرص الدستور على صونها، وإهدارها أو تقييدها لا يستند إلى مصلحة مشروعة، بل يناقضها.
الإجراءات
بتاريخ الثاني من إبريل سنة 1998، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 المعدل بالقرار رقم 440 لسنة 1986 فيما تضمنه من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي إذا التحق العضو بعمل داخل البلاد يتقاضى عنه دخلاً.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعي كان قد تقدم لدائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقض بالطلب رقم 92 لسنة 66 قضائية “رجال القضاء” ضد المدعى عليه الثالث وآخرين، طالباً الحكم – وفقاً لطلباته الختامية – أولاً: بأحقيته في صرف معاشه المستحق له كرئيس سابق لمحكمة استئناف القاهرة منذ تعيينه محافظاً للبحيرة في 6/ 5/ 1992 حتى انتهاء عمله بها في 6/ 1/ 1996، ثانياً: أحقيته في صرف متجمد المبلغ الشهري الإضافي من صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية عن ذات المدة. وأبدى المدعي بياناً لطلبه أنه عين رئيساً لمحكمة استئناف القاهرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 306 لسنة 1990، وبتاريخ 2/ 12/ 1990 صدر قرار وزير العدل بتسوية معاشه لبلوغه سن الستين مع بقائه في الخدمة حتى 30/ 6/ 1991، واستمر في تقاضي المعاش الشهري المستحق له حتى أوقفت الهيئة القومية للتأمين والمعاشات صرفه لتعيينه محافظاً للبحيرة في 6/ 5/ 1992، كما امتنع صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية عن صرف المبلغ الشهري الإضافي المقرر بمقتضى نص المادة 34 مكرراً (1) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 المعدل بقراره رقم 440 لسنة 1986، والمستحق للمحالين إلى التقاعد من أعضاء الهيئات القضائية. وأثناء نظر الطلب دفع المدعي بعدم دستورية نص المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل المشار إليه فيما تضمنه عنه دخلاً، وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية، فقد أقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن القانون رقم 36 لسنة 1975 بإنشاء صندوق للخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية يقضي في المادة الأولى منه بأن ينشأ بوزارة العدل صندوق تكون له الشخصية الاعتبارية، وتخصص له الدولة الموارد اللازمة لتمويل وكفالة الخدمات الصحية والاجتماعية للأعضاء الحاليين والسابقين وأسرهم، على أن يصدر بتنظيم هذا الصندوق وقواعد الإنفاق منه قرار من وزير العدل بعد موافقة المجلس الأعلى للهيئات القضائية.
وإعمالاًَ لأحكام هذا القانون أصدر وزير العدل القرار رقم 4853 لسنة 1981 بتنظيم صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية متضمناً الأغراض التي يقوم هذا الصندوق على تحقيقها ووسائل تنفيذها ومتابعتها، وصور الخدمات الصحية والاجتماعية التي يقدمها ومداها. ثم أصدر وزير العدل القرار رقم 440 لسنة 1986 في شأن صرف مبلغ شهري إضافي لأصحاب المعاشات من أعضاء الهيئات القضائية والمستحقين عنهم، مضيفاً بمقتضاه إلى قراراه رقم 4853 لسنة 1981 خمس مواد جديدة من بينها المادتان 34 مكرراً (1) و34 مكرراً (2) اللتان تجريان على النحو الآتي:
مادة 34 مكرراً (1):
“يصرف لكل من استحق أو يستحق معاشاً من أعضاء الهيئات القضائية المنصوص عليها في القانون رقم 36 لسنة 1975 وانتهت خدمته فيها للعجز، أو ترك الخدمة بها لبلوغ سن التقاعد، أو أمضى في عضويتها مدداً مجموعها خمسة عشر عاماً على الأقل، مبلغ شهري إضافي.. عن كل سنة من مدد العضوية وتعويض الدفعة الواحدة، بما فيها المدد المحسوبة بالقرار بقانون رقم 85 لسنة 1971 بجواز إعادة تعيين بعض أعضاء الهيئات القضائية إلى وظائفهم الأصلية، ومدد الإعارة والندب والإجازات والبعثات والمنح والتجنيد والاستبقاء والاستدعاء للاحتياط، دون مضاعفة أية مدة ولا إضافة مدد أخرى زائدة أو اعتبارية أو افتراضية، ويجبر كسر الشهر شهراً وتحسب كسور الجنيه جنيهاً…..”.
مادة 34 مكرراً (2) والتي أضحى نصها بعد حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في الدعوى رقم 29 لسنة 15 قضائية “دستورية” كالتالي:
“يوقف صرف المبلغ الشهري الإضافي إذا التحق العضو بعمل داخل البلاد يتقاضى عنه دخلاً عدا المكافآت والبدلات، أو التحق بأي عمل خارجها، أو مارس مهنة تجارية في الداخل أو الخارج، ويعود الحق في صرفه في حالة ترك العمل أو المهنة.
ويمتنع صرف المبلغ الشهري الإضافي لمن أنهيت خدمته بحكم جنائي أو تأديبي، ومن أحيل إلى المعاش أو نقل إلى وظيفة أخرى لسبب يتصل بتقارير الكفاية أو لفقد الثقة والاعتبار أو فقد أسباب الصلاحية لغير الأسباب الصحية، ولمن استقال أثناء نظر الدعوى التأديبية أو الطلب المتعلق بالصلاحية أو أثناء اتخاذ أية إجراءات جنائية ضده”.
وحيث إن من المقرر – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن المصلحة في الدعوى الدستورية – وهي شرط لقبولها – مناطها ارتباطها بصلة منطقية بالمصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم الصادر في المسألة الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة أمام محكمة الموضوع؛ وكان النزاع الموضوعي يدور حول حرمان المدعي من المبلغ الشهري الإضافي بسبب التحاقه بعمل داخل البلاد يتقاضى عنه مرتباً – وهو تعيينه محافظاً للبحيرة في الفترة من 6/ 5/ 1992 حتى 16/ 1/ 1996 – فإن نطاق الطعن الماثل ينحصر فيما ينص عليه صدر المادة 34 مكرراً (2) المشار إليها من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي إذا التحق العضو بأي عمل داخل البلاد يتقاضى عنه دخلاً ولا يمتد إلى غير ذلك من أحكامها.
وحيث إن المدعي ينعى على النص المطعون فيه – محدداً إطاراً على النحو المتقدم – أنه يضع قيوداً جائزة على حق العمل بالمخالفة لحكمة المادة 13 من الدستور، كما أنه يتضمن اعتداء على الملكية الخاصة التي كفل الدستور صونها بنص المادتين 32، 34 سيما وأن حق العمل يعد أداة تكوين هذه الملكية في الأغلب من الأحوال، إضافة إلى ما تضمنه النص الطعين من إخلال بمبدأ المساواة المنصوص عليه في المادة 40 من الدستور إذ أنه يقضي بمنح المبلغ الشهري الإضافي لبعض أعضاء الهيئات القضائية الذين يزاولون أعمالاً يتقاضون عنها مقابلاً مادياً يتمثل في مكافأة أو بدل في حين حجب صرفه عن زملائهم الذين قد يزاولون ذات العمل إذا كانوا يتقاضون مقابلاً مادياً في غير صورة المكافأة أو البدل.
وحيث إن هذا النعي سديد في جوهره، ذلك أن البين من أحكام الدستور بما يحقق تكاملها ويكفل عدم انعزال بعضها عن بعض في إطار الوحدة العضوية التي تجمعها وتصون ترابطها، أن حق العمل وفقاً لنص المادة 13 من الدستور، لا يمنح تفضلاً، ولا يتقرر إيثاراً، ولا يجوز إهداره أو تقييده بما يعطل جوهره، بل يعتبر أداؤه واجباً لا ينفصل عن الحق فيه، ومدخلاً إلى حياة لائقة قوامها الاطمئنان إلى غد أفضل، وبها تتكامل الشخصية الإنسانية من خلال إسهامها في تقدم الجماعة وإشباع احتياجاتها، بما يصون للقيم الخلقية روافدها، وكلما كان العمل ذهنياً قائماً على الابتكار، كان لصيقاً بحرية الإبداع، وصار تشجيعه مطلوباً عملاً بنص المادة 49 من الدستور التي تكفل لكل مواطن حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي مع ضمان وسائل تشجيعاً، مؤكدة بذلك أن لكل فرد مجالاً حراً لتطوير ملكاته وقدراته، فلا يجوز تنحيتها أو فرض قيود جائرة تحد منها، ذلك أن حرية الإبداع تمثل جوهر النفس البشرية وأعمق معطياتها. وصقل عناصر الخلق فيها وإذكائها، كافل لحيويتها، فلا تكون هامدة، بل إن التقدم في عديد من مظاهره يرتبط بها.
وحيث إن الملكية الخاصة – التي كفل الدستور صونها بنص المادتين 32، 34 – ترتد في عديد من جوانبها ومصادرها؛ وكذلك في الأعم من صورها إلى ضمان حق العمل باعتباره أداة تكوينها ووسيلة تراكمها في الأغلب. وقد جرى قضاء هذه المحكمة، على أن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي – كفل حمايتها لكل فرد، ولم يجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها باعتبارها عائدة – في الأعم من الأحوال – إلى جهد صاحبها بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها وأحاطها الدستور بما قدره ضرورياً لصونها، معبداً بها وكافلاً من خلالها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية أهم أدواتها، مهيمناً عليها ليختص صاحبها دون غيره بثمارها ومنتجاتها فلا يرده عنها معتد، بل يقيها الدستور والقانون تعرض الأغيار لها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها بما يُعينها على أداء دورها.
وحيث إن الخدمات الاجتماعية الصحية التي كفلها الصندوق الخاص بها لأعضاء الهيئات القضائية الحاليين والسابقين وشمل بها أسرهم، لا تعتبر من أعمال التبرع التي يقدمها الصندوق لمستحقيها، بل توخى المشرع بتقريرها أن تعينهم – مع المعاش الأصلي – على إشباع الحد الأدنى من احتياجاتهم بثاً للاطمئنان في نفوسهم، فلا يجوز حجبها أو الرجوع فيها أو وقفها بما يعطل حقوقاً كفلها الدستور لكل مواطن.
وحيث إن الأمانة العامة للمجلس الأعلى للهيئات القضائية، كانت قد أعدت مذكرة عرضتها على هذا المجلس في 30 من يناير سنة 1986 مرفقاًًً بها مشروع القرار المطعون فيه، متضمناً تعديل القرار السابق عليه، وكافلاً – ولأول مرة – تقرير مبلغ شهري إضافي لأعضاء الهيئات القضائية باعتباره معاشاً تكميلياً يواجهون به الارتفاع المتزايد في الأسعار، فضلاً عن انتقاص دخولهم بدرجة كبيرة بعد إحالتهم إلى التقاعد، مما اقتضى موازنتها بهذا المبلغ الشهري الإضافي.
وحيث إن ما تقدم مؤداه، أن هذا المبلغ مكمل للمعاش الأصلي لأعضاء الهيئات القضائية، وأنهما معاً يتضافران في مجال ضمان الحد الأدنى لمتطلباتهم المعيشية. ولا يجوز بالتالي أن يكون الحق في المبلغ الشهر الإضافي حائلاً دون امتهان عضو الهيئة القضائية – بعد تقاعده – أعمال يمارسها أو تقلده وظائف لا يكون بها طاقة عاطلة. ومن غير المتصور وقد توخى القانون رقم 36 لسنة 1975 المشار إليه – على ما يبين من تقرير اللجنة التشريعية – تقرير قواعد موحدة للرعاية الصحية والاجتماعية تضم أعضاء الهيئات القضائية وأسرهم، أن يكون الحق في الحصول عليها معلقاً على شرط الامتناع عن العمل، وهو أحد الحقوق التي كفلها الدستور لكل مواطن. ولا يسوغ كذلك – في منطق الأمور – أن يرتد النص المطعون فيه عن قيم الحق والعدل، ليحجبها دون سند من الدستور، عن هؤلاء الذين كفلوا دوماً إرساء مقوماتها.
وحيث إن مبدأ المساواة – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – ليس مبدأ تلقينياً جامداً منافياً للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء تنبذ صور التمييز جميعها، ولا كافلاً لتلك الدقة الحسابية التي تقتضيها موازين العدل المطلق بين الأشياء. وإذا جاز للسلطة التشريعية أن تتخذ بنفسها ما تراه ملائماً من التدابير، لتنظيم موضوع محدد؛ وأن تغاير من خلال هذا التنظيم – ووفقاً لمقاييس منطقية – بين مراكز لا تتحد معطياتها، أو تتباين فيما بينها في الأسس التي تقوم عليها، إلا أن ما يصون مبدأ المساواة، ولا ينقض محتواه، هو ذلك التنظيم الذي يقيم تقسيماً تشريعياً ترتبط فيه النصوص القانونية التي يضمها، بالأغراض المشروعة التي يتوخاها. فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، أو كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهياً، كان التمييز انفلاتاً وعسفاً، فلا يكون مشروعاً دستورياً.
وحيث إن النص المطعون فيه، وإن وحد أعضاء الهيئات القضائية في شأن الأسس التي يتم على ضوئها حساب معاشهم التكميلي ممثلاً في المبلغ الشهري الإضافي، إلا أنه كفل اقتضاءه لمن يباشرون عملاً يتقاضون عنه بدلاً أو مكافأة، ومنعه عمن يزاولون عملاً داخل البلاد يتقاضون عنه دخلاً، مخالفاً بذلك مبدأ المساواة بين أشخاص تتماثل مراكزهم القانونية، إذ ليس مفهوماً أن يكون العلم مباحاً إذا كان أجره محدداً في شكل بدل أو مكافأة؛ ومحظوراً إذا اتخذ الأجر تسمية أخرى. وفضلاً عن ذلك فإن النص المطعون فيه يفتح للتحايل أبواباً عريضة، إذ يمكن دائماً تسمية مقابل العمل بالبدل أو المكافأة بغض النظر عن حقيقته، ومن غير المتصور أن يكون التمييز بين صور الأعمال تحكيماً، ولا أن يناهض التمييز التشريعي أحد الحقوق التي كفلها الدستور، وليس حق العمل إلا توثيق الصلة بالملكية وبالحرية الشخصية وبالحق في الإبداع، وجميعها من الحقوق التي حرص الدستور على صونها، وإهدارها أو تقييدها لا يستند إلى مصلحة مشروعة، بل يناقضها.
وحيث إن النص المطعون فيه – فيما قرره من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي بالنسبة لمن يلتحق بعمل داخل البلاد يتقاضى عنه دخلاً – قد جاء بذلك مخالفاً لأحكام المواد 13، 32، 34، 40، 41، 49 من الدستور.
وحيث إن القضاء بعدم دستورية النص الطعين يؤدي لزاماً إلى سقوط عبارة “عدا المكافآت أو البدلات”، إذ لا تعدو أن تكون استثناء من الحكم الوارد بذات النص، فيسقط الاستثناء تبعاً للقضاء بعدم دستورية ذلك النص.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 34 مكرراً (2) من قرار وزير العدل رقم 4853 لسنة 1981 بتنظيم صندوق الخدمات الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية، المعدل بالقرار رقم 440 لسنة 1986، وذلك فيما تضمنه من وقف صرف المبلغ الشهري الإضافي إذا التحق العضو بعمل داخل البلاد يتقاضى عنه دخلاً، وبسقوط عبارة “المكافآت والبدلات”، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
وسوم : حكم دستورية