الخط الساخن : 01118881009
جلسة 3 يوليو سنة 1999
برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال – رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: فاروق عبد الرحيم غنيم وحمدي محمد علي وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري، وحضور السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق حسن – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم (39)
القضية رقم 104 لسنة 20 قضائية “دستورية”
1 – دعوى دستورية “استقلال”.
استقلال كل من الدعويين الدستورية والموضوعية عن الأخرى في موضوعها، وكذلك في مضمون الشروط التي يتطلبها القانون لجواز رفعها.
2 – المحكمة الدستورية العليا “ولاية: مسائل دستورية”.
ليس من مهام هذه المحكمة الفصل في شروط اتصال الدعوى الموضوعية بمحكمة الموضوع وفقاً للأوضاع المقررة أمامها – انحصار ولايتها فيما يعرض عليها من المسائل الدستورية لتقرير صحة النصوص المطعون عليها أو بطلانها.
3 – دعوى دستورية “نطاقها”.
من غير الجائز قصر نطاق الدعوى الدستورية على النص المطعون فيه بل يشتمل نطاقها بالضرورة على أصل القاعدة التي تفرغ عنها هذا النص.
4 – تحكيم “اتفاق”.
التحكيم لا يكون إجبارياً يذعن إليه أحد الطرفين إنفاذاً لقاعدة قانونية آمرة – التحكيم مصدره الاتفاق وإليه ترتد السلطة الكاملة التي يباشرها المحكمون عند البت في الحقوق المتنازع عليها.
5 – حق التقاضي “غايته: ترضية قضائية – قيود”.
لحق التقاضي غاية نهائية يتوخاها تمثلها الترضية القضائية التي يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التي أصابتهم من جراء العدوان على الحقوق التي يطلبونها – إخلال القيود التي تعسر الحصول عليها بالحماية التي كفلها الدستور لهذا الحق.
6 – تشريع المادة 57 من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963: تحكيم قسري”.
فرض التحكيم قسراً على أصحاب البضاعة بموجب هذه المادة يخل بحق التقاضي.
1، 2 – لكل من الدعويين الموضوعية والدستورية ذاتيتها ومقوماتها، ذلك أنهما لا تختلطان ببعضهما ولا تتحدان في شرائط قبولهما، بل تستقل كل منهما عن الأخرى في موضوعها، وكذلك في مضمون الشروط التي يتطلبها القانون لجواز رفعها. وليس من بين المهام التي ناطها المشرع بالمحكمة الدستورية العليا، الفصل في شروط اتصال الدعوى الموضوعية وفقاً للأوضاع المقررة أمامها. وإنما تنحصر ولايتها فيما يعرض عليها من المسائل الدستورية لتقرير صحة النصوص المطعون عليها أو بطلانها.
3 – إن الرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة في شأن دستورية النصوص القانونية المطعون فيها، لا تحول بينها ورد هذه النصوص إلى الأصول التي أنبتتها كلما آل إبطالها إلى زوال ما تفرغ عنها واتصل بها اتصال قرار؛ إذ كان ذلك، وكان النص المطعون فيه قد صدر تنفيذاً للمادة 57 من قانون الجمارك مستمداً قواعده وأحكامه منها، فإنه يغدو مرتبطاً عضوياً بهذه المادة، وبالتالي لا يجوز قصر نطاق الدعوى الدستورية الماثلة على النص المطعون عليه فيها وحده، بل يكون نطاقها مشتملاً بالضرورة على أصل القاعدة التي تفرع هذا النص عنها متمثلاً في المادة 57 المشار إليها.
4 – الأصل في التحكيم هو عرض نزاع معين بين طرفين على مُحَكّم من الأغيار يُعيَّن باختيارهما أو بتفويض منهما أو على ضوء شروط يحددانها، ليفصل هذا المحكم في ذلك النزاع بقرار يكون نائياً عن شبهة الممالأة، مجرداً من التحامل، وقاطعاً لدابر الخصومة في جوانبها التي أحالها الطرفان إليه، بعد أن يدلي كل منهما بوجهة نظره تفصيلاً من خلال ضمانات التقاضي الرئيسية. ولا يجوز بحال أن يكون التحكيم إجباراً يُذعن إليه أحد الطرفين إنفاذاً لقاعدة قانونية آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها، وذلك سواء كان موضوع التحكيم نزاعاً قائماً أو محتملاً، ذلك أن التحكيم مصدره الاتفاق، إذ يحدده طرفاه – وفقاً لأحكامه – نطاق الحقوق المتنازع عليها بينهما، أو المسائل الخلافية التي يمكن أن تَعْرِض لهما، وإليه ترتد السلطة الكاملة التي يباشرها المحكمون عند البت فيها. ويلتزم المحتكمون بالنزول على القرار الصادر فيه، وتنفيذه تنفيذاً كاملاً وفقاً لفحواه. ليؤول التحكيم إلى وسيلة فنية لها طبيعة قضائية غايتها الفصل في نزاع مبناه علاقة محل اهتمام من أطرافها وركيزته اتفاق خاص يستمد المحكمون منه سلطاتهم، ولا يتولون مهامهم بالتالي بإسناد من الدولة.
5 – إن الدستور قد كفل لكل مواطن – بنص مادته الثامنة والستين – حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي مخولاً إياه بذلك أن يسعى بدعواه إلى قاض يكون بالنظر إلى طبيعتها، وعلى ضوء مختلف العناصر التي لابستها، مهيئاً دون غيره للفصل فيها، كذلك فإن لحق التقاضي غاية نهائية يتوخاها تمثلها الترضية القضائية، التي يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التي أصابتهم من جراء العدوان على الحقوق التي يطلبونها، فإذا أرهقها المشرع بقيود تعسر الحصول عليها أو تحول دونها كان ذلك إخلالاً بالحماية التي كفلها الدستور لهذا الحق وإنكاراً لحقائق العدل في جوهر ملامحها.
6 – إن النصوص الطعينة – بالتحديد السالف بيانه – قد فرضت التحكيم قسراً على أصحاب البضاعة، وخلعت قوة تنفيذية على القرارات التي تصدرها لجان التحكيم في حقهم عند وقوع الخلاف بينهم وبين مصلحة الجمارك حول نوع البضاعة أو منشئها أو قيمتها، وكان هذا النوع من التحكيم – على ما تقدم – منافياً للأصل فيه، باعتبار أن التحكيم لا يتولد إلا عن الإرادة الحرة ولا يجوز إجراؤه تسلطاً وكرهاً، بما مؤداه أن اختصاص جهات التحكيم التي أنشأتها النصوص الطعينة بنظر المنازعات التي أدخلتها جبراً في ولايتها يكون منتحلاً ومنعدماً وجوداً من زاوية دستورية، ومنطوياً بالضرورة على إخلال بحق التقاضي بحرمان المتداعين من اللجوء – في واقعة النزاع الموضوعي الماثل – إلى محاكم القانون العام بوصفها قاضيها الطبيعي بالمخالفة للمادة 68 من الدستور.
الإجراءات
بتاريخ السابع عشر من مايو سنة 1998، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالباً الحكم بعدم دستورية المادة الخامسة من قرار وزير المالية رقم 228 لسنة 1985 بشأن نظام التحكيم في المنازعات بين أصحاب البضائع ومصلحة الجمارك، الصادر تطبيقاً للمادة 57 من قانون الجمارك وبسقوط أحكام تلك المادة.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم أصلياً بعدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعي كان قد أقام الدعوى رقم 7963 لسنة 1993 مدني أمام محكمة جنوب القاهرة الابتدائية مختصماً فيها المدعى عليهما الرابع والخامس ابتغاء الحكم أولاً: بخضوع خيوط البوليستر المحلولة غير المتضخمة وخيوط النايلون المستمرة المحلولة غير المتضخمة للبند 51/ 1 فقرة (ب) من قرار رئيس الجمهورية رقم 305 لسنة 1989 بتعديل التعريفة الجمركية وتحصيل الرسوم المقررة طبقاً له.
ثانياً: بإلزام جمارك الإسكندرية والمنطقة الغربية برد قيمة 14% المدفوعة على سبيل الأمانة خصماً من خطاب الضمان الصادر من البنك التجاري الدولي البالغ قيمته 363194.66 جنيهاً. وقال المدعي شرحاً لتلك الدعوى أن شركة القطب للصناعة والتجارة التي يمثلها كانت قد استوردت رسائل من تلك الخيوط، وعند تسلمها من ميناء الإسكندرية ثار خلاف بينها وبين مصلحة الجمارك حول الرسوم الجمركية المستحقة عليها، فتمسكت الشركة بإدراجها تحت البند 51/ 1 فقرة (ب) من التعريفة الجمركية الصادر بها قرار رئيس الجمهورية رقم 351 لسنة 1986 المعدل بالقرارين رقمي 304 و305 لسنة 1989؛ بينما ارتأت مصلحة الجمارك إخضاع تلك الرسائل للبند 51/ 1 فقرة ( أ ) من هذه التعريفة، وحتى تتمكن الشركة من تسلم بضاعتها قامت بسداد الرسوم الجمركية وفق ما انتهى إليه رأي الجمارك. وإذ قُضي في تلك الدعوى بعدم جواز نظرها لسابقة الفصل فيها بالتحكيم الجمركي على سند من المادة 57 من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963 وقرار وزير المالية رقم 228 لسنة 1985 المنفذ لأحكامها، فقد طعن المدعي في ذلك الحكم بالاستئناف رقم 9743 لسنة 114 قضائية، وأثناء نظره دفع بعدم دستورية المادة الخامسة من قرار وزير المالية رقم 228 لسنة 1985 بشأن نظام التحكيم في المنازعات بين أصحاب البضائع ومصلحة الجمارك، وبعد أن قدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، صرحت للمدعي برفع الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت بعدم قبول هذه الدعوى، تأسيساً على أنها لم تتصل بالمحكمة الدستورية العليا طبقاً للأوضاع المقررة قانوناً، قولاً منها بأن المحكمة التي قدرت جدية الدفع بعدم الدستورية وصرحت برفع الدعوى الدستورية غير مختصمة بنظر النزاع الموضوعي بعد أن تم حسمه نهائياً بقرار صدر عن لجنة التحكيم المنصوص عليها في المادة الخامسة من قرار وزير المالية رقم 228 لسنة 1985 تطبيقاً للمادة 57 من قانون الجمارك رقم 66 لسنة 1963 وتأيد ذلك بقضاء المحكمة الابتدائية، وبالتالي فإن الدعوى الدستورية الماثلة تكون غير مرتبطة بطلبات موضوعية قائمة ومطروحة على محكمة الموضوع.
وحيث إن هذا الدفع مردود أولاً: بما جرى عليه قضاء هذه المحكمة من أن لكل من الدعويين الموضوعية والدستورية ذاتيتها ومقوماتها، ذلك أنهما لا تختلطان ببعضهما ولا تتحدان في شرائط قبولهما، بل تستقل كل منهما عن الأخرى في موضوعها، وكذلك في مضمون الشروط التي يتطلبها القانون لجواز رفعها. وليس من بين المهام التي ناطها المشرع بالمحكمة الدستورية العليا، الفصل في شروط اتصال الدعوى الموضوعية بمحكمة الموضوع وفقاً للأوضاع المقررة أمامها. وإنما تنحصر ولايتها فيما يعرض عليها من المسائل الدستورية لتقرير صحة النصوص المطعون عليها أو بطلانها. ومردود ثانياً: بأن محكمة الاستئناف كانت بصدد إعمال رقابتها على قضاء المحكمة الابتدائية المطعون فيه أمامه، وكان الدفع بعدم الدستورية متعلقاً بالنصوص القانونية التي اتخذها هذا القضاء سنداً له. ومردود ثالثاً: بأن الشرعية الدستورية التي تقوم المحكمة الدستورية العليا بمراقبة التقيد بها، غايتها ضمان أن تكون النصوص القانونية مطابقة لأحكام الدستور، وتتبوأ هذه الشرعية من البنيان القانوني في الدولة ذراه. وهي كذلك فرع من خضوعها للقانون، بما مؤداه امتناع قيام أي محكمة أو هيئة ذات اختصاص قضائي بتطبيق نص قانوني يكون لازماً للفصل في ولايتها، أو في موضوع النزاع المعروض عليها إذا بدا لها – من وجهة مبدئية – مصادماً للدستور، ذلك أن وجود هذه الشبهة لديها، يلزمها أن تستوثق من صحتها، من خلال عرضها على المحكمة الدستورية العليا التي عقد لها الدستور دون غيرها ولاية الفصل في المسائل الدستورية.
وحيث إن البين من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963 أنه عقد للتحكيم فصلاً مستقلاً، هو الفصل الرابع من الباب الثالث منه، متضمناً المادتين 57 و58 إذ تنص أولاهما على أنه: “إذا قام نزاع بين الجمارك وصاحب البضاعة حول نوعها أو منشئها أو قيمتها، أثبت هذا النزاع في محضر يحال إلى حكمين يعين الجمرك أحدهما ويعين الآخر صاحب البضاعة أو من يمثله، وإذا امتنع ذو الشأن عن تعيين الحكم الذي يختاره خلال ثمانية أيام من تاريخ المحضر اعتبر رأي الجمارك نهائياً. وفي حالة اتفاق الحكمين يكون قرارهما نهائياً. فإذا اختلفا رفع النزاع إلى لجنة مؤلفة من مفوض دائم يعينه وزير الخزانة ومن عضوين أحدهما يمثل الجمارك يختاره المدير العام للجمارك والآخر يمثل غرفة التجارة يختاره رئيس الغرفة، وتصدر اللجنة قرارها بعد أن تستمع إلى الحكمين ومن ترى الاستعانة به من الفنيين. ويكون القرار الصادر من اللجنة واجب التنفيذ ويشتمل على بيان بمن يتحمل نفقات التحكيم. ويحدد وزير الخزانة عدد اللجان ومراكزها ودوائر اختصاصها والإجراءات التي تتبع أمامها والمكافآت التي تصرف لأعضائها ونفقات التحكيم”. أما المادة 58 فقد نصت على أنه “لا يجوز التحكيم المشار إليه في المادة السابقة إلا بالنسبة إلى البضائع التي لا تزال تحت رقابة الجمارك” وإنفاذاً لحكم المادة 57 المشار إليها صدر قرار وزير المالية رقم 228 لسنة 1985 بشأن نظام التحكيم في المنازعات بين أصحاب البضائع ومصلحة الجمارك، ناصاً في مادته الخامسة على أن: “تنظر في المنازعات المشار إليها في هذا القرار لجان تحكيم تشكل في المجمعات والقطاعات الجمركية على النحو التالي:
أولاً: لجان تحكيم ابتدائية: وتشكل لجنة أو أكثر في كل مجمع جمركي بقرار من رئيس مصلحة الجمارك من حكمين: أحدهما يعينه رئيس مصلحة الجمارك على أن يكون غير موظف الجمرك الذي نشأ معه النزاع. والآخر يختاره صاحب البضاعة أو من يمثله قانوناً على أن يُخطَر مدير المجمع باسم هذا المحكم خلال ثمانية أيام من تاريخ المحضر المشار إليه في المادة الرابعة، وذلك بكتابة موصى عليه أو بإخطار كتابي يسلم بإيصال إلى الجمرك المختص، ويعتبر عدم تعيين المحكم خلال هذه المدة امتناعاً من صاحب البضاعة أو من يمثله قانوناً عن تعيينه ويعتبر رأي الجمارك نهائياً.
ثانياً: لجان تحكيم عالية: يرفع إليها المنازعات في حالة اختلاف الحكمين في المنازعات التي تنظرها لجان التحكيم الابتدائية، وتشكل لجنة أو أكثر في كل قطاع جمركي من وزير المالية على النحو التالي:
– مفوض دائم يعينه وزير المالية لمدة سنة قابلة للتجديد.
– عضو يمثل الجمارك ويختاره رئيس مصلحة الجمارك من بين العاملين بالقطاع الجمركي المختص على أن يكون غير موظف الجمرك الذي نشأ معه النزاع أو حكم في اللجنة الابتدائية.
– عضو يمثل غرفة التجارة يختاره رئيس الغرفة التجارية من الشعبة المختصة الذي تقع في دائرتها اللجنة. وللجنة أن تستعين بمن تراه لازماً من الفنيين دون أن يكون لهم رأي معدود في إصدار القرار”.
وحيث إن الرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة في شأن دستورية النصوص القانونية المطعون فيها، لا تحول بينها ورد هذه النصوص إلى الأصول التي أنبتتها كلما آل إبطالها إلى زوال ما تفرغ عنها واتصل بها اتصال قرار؛ إذ كان ذلك، وكان النص المطعون فيه قد صدر تنفيذاً للمادة 57 من قانون الجمارك مستمداً قواعده وأحكامه منها، فإنه يغدو مرتبطاً عضوياً بهذه المادة، وبالتالي لا يجوز قصر نطاق الدعوى الدستورية الماثلة على النص المطعون عليه فيها وحده، بل يكون نطاقها مشتملاً بالضرورة على أصل القاعدة التي تفرع هذا النص عنها متمثلاً في المادة 57 المشار إليها.
وحيث إن المدعي ينعى على النصوص القانونية الطعينة – محددة نطاقاً على ما تقدم – أنها جعلت اللجوء إلى التحكيم إجبارياً، على خلاف الأصل فيه – وما استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا – من أن التحكيم مكنة اختيارية يمارسها ذوو الشأن باتفاقهم عليه بإرادتهم الحرة، فلا يفرض عليهم قسراً، وأنها إذ حالت دون خضوع القرارات الصادرة من لجان التحكيم لرقابة القضاء، فإنها تكون قد أخلت بحق التقاضي المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور.
وحيث إن البين من النصوص الطعينة – على ضوء التطور التشريعي الذي مرت به – أن المشرع قد أنشأ بها نظاماً للتحكيم الإجباري كوسيلة لإنهاء المنازعات التي تقوم بين أصحاب البضائع ومصلحة الجمارك حول نوع البضاعة أو منشئها أو قيمتها، وذلك بدلاً من اللجوء في شأنها إلى القضاء، مواصلاً بذلك سياسة تشريعية سبق أن اختطها وسار عليها زمناً طويلاً قبل إقراره لتلك النصوص، فقد كان المرسوم الصادر في الرابع عشر من فبراير سنة 1930 بوضع تعريفة جديدة للرسوم الجمركية – إنفاذاً لحكم المادة الأولى من القانون رقم 2 لسنة 1930 بتعديل التعريفة الجمركية – ينص في مادته السابعة على أنه “إذا قام نزاع بشأن نوع البضاعة أو صنفها أو مصدرها يحرر الجمرك محضراً يدون فيه تفصيلات الخلاف ويحال بعد ذلك لغرض المعاينة إلى خبيرين يعين أحدهما الجمرك والآخر المقرر عن البضاعة وإذا امتنع المقرر عن تعيين الخبير الذي ينوب عنه في خلال ثمانية أيام من تاريخ المحضر يعتبر رأي الجمرك نهائياً. فإذا اتفق الخبيران اعتبرت قراراتهما نهائية أما في حالة الخلاف فيرفع النزاع إلى قوميسير تعينه الحكومة. يصدر القوميسير قراره بعد سماع الخبيرين وبعد الاطلاع على الملاحظات الكتابية والمستندات التي تقدم له. وللقوميسير إذا رأى ضرورة لذلك أن يأمر بتحليل البضائع التي هي موضوع النزاع وأن يسترشد في حل الخلاف بآراء الفنيين الإخصائيين في ذلك من غير أن يرتبط بآرائهم. ولا تكون قرارات القوميسير قابلة لأي طعن. ولا يجوز للمحاكم بأية حال من الأحوال أن تنظر في المنازعات التي تحدث بين الجمرك وبين المقررين عن البضائع فيما يختص بنوع هذه البضاعة أو صنفها أو مصدرها الأصلي ولا في القرارات التي تصدر في هذا الشأن” وبعد ذلك صدر قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963 المشار إليه، ودلت مذكرته الإيضاحية على أن اللائحة الجمركية الصادرة في 12 إبريل 1884 والتشريعات المكملة لها كانت مصدراً تشريعياً للأحكام التي تضمنها قانون الجمارك؛ وأنه بعد أن كان الخلاف بين الجمارك وأصحاب البضائع حول قيمة البضاعة لا يتناوله النظام القانوني السابق أضحى وفقاً للمادة 57 من قانون الجمارك داخلاً في إطارها؛ وأن التحكيم عملاً بحكم المادة 57 المشار إليها قد استُبدل بالقوميسير، وبات يجري على درجتين.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة مطرد على أن الأصل في التحكيم هو عرض نزاع معين بين طرفين على مُحَكّم من الأغيار يُعيَّن باختيارهما أو بتفويض منهما أو على ضوء شروط يحددانها، ليفصل هذا المحكم في ذلك النزاع بقرار يكون نائياً عن شبهة الممالأة، مجرداً من التحامل، وقاطعاً لدابر الخصومة في جوانبها التي أحالها الطرفان إليه، بعد أن يدلي كل منهما بوجهة نظره تفصيلاً من خلال ضمانات التقاضي الرئيسية. ولا يجوز بحال أن يكون التحكيم إجباراً يُذعن إليه أحد الطرفين إنفاذاً لقاعدة قانونية آمرة لا يجوز الاتفاق على خلافها، وذلك سواء كان موضوع التحكيم نزاعاً قائماً أو محتملاً، ذلك أن التحكيم مصدره الاتفاق، إذ يحدد طرفاه – وفقاً لأحكامه – نطاق الحقوق المتنازع عليها بينهما، أو المسائل الخلافية التي يمكن أن تَعْرِض لهما، وإليه ترتد السلطة الكاملة التي يباشرها المحكمون عند البت فيها. ويلتزم المحتكمون بالنزول على القرار الصادر فيه، وتنفيذه تنفيذاً كاملاً وفقاً لفحواه. ليؤول التحكيم إلى وسيلة فنية لها طبيعة قضائية غايتها الفصل في نزاع مبناه علاقة محل اهتمام من أطرافها وركيزته اتفاق خاص يستمد المحكمون منه سلطاتهم، ولا يتولون مهامهم بالتالي بإسناد من الدولة.
وحيث إن نظام التحكيم الإجباري الذي فرضته النصوص الطعينة – ومؤداه خضوع ذوي الشأن لأحكامه قهراً – فوّض أهم خصائص التحكيم ممثلة في اتفاق طرفي النزاع بإرادتهما الحرة في الأنزعة التي يحددانها وفق القواعد التي يرتضيانها، وليكون لأي منهما حق التمسك بانعدامه أو ببطلانه أو بسقوطه بحسب الأحوال وطبقاً للقانون، مما أدى إلى عزل المحاكم جميعها عن نظر المسائل التي يتناولها منتزعاً ولايتها مستبدلاً بها تحكيماً قسرياً لا خيار لذي الشأن في رفض الامتثال له، وإلا صار قرار الإدارة الجمركية نهائياً؛ فإذا نزل على إرادتها وعيّن محكمة يمثله في لجنة التحكيم الابتدائية، آل أمر الفصل في النزاع عند اختلاف الحكمين إلى لجنة التحكيم العالية لتصدر في غيبته قراراً نهائياً واجب التنفيذ.
وحيث إن الدستور قد كفل لكل مواطن – بنص مادته الثامنة والستين – حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي مخولاً إياه بذلك أن يسعى بدعواه إلى قاض يكون بالنظر إلى طبيعتها، وعلى ضوء مختلف العناصر التي لابستها، مهيئاً دون غيره للفصل فيها، كذلك فإن لحق التقاضي غاية نهائية يتوخاها تمثلها الترضية القضائية، التي يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التي أصابتهم من جراء العدوان على الحقوق التي يطلبونها، فإذا أرهقها المشرع بقيود تعسر الحصول عليها أو تحول دونها كان ذلك إخلالاً بالحماية التي كفلها الدستور لهذا الحق وإنكاراً لحقائق العدل في جوهر ملامحها.
وحيث إن النصوص الطعينة – بالتحديد السالف بيانه – قد فرضت التحكيم قسراً على أصحاب البضاعة، وخلعت قوة تنفيذية على القرارات التي تصدرها لجان التحكيم في حقهم عند وقوع الخلاف بينهم وبين مصلحة الجمارك حول نوع البضاعة أو منشئها أو قيمتها، وكان هذا النوع من التحكيم – على ما تقدم – منافياً للأصل فيه، باعتبار أن التحكيم لا يتولد إلا عن الإرادة الحرة ولا يجوز إجراؤه تسلطاً وكرهاً، بما مؤداه أن اختصاص جهات التحكيم التي أنشأتها النصوص الطعينة بنظر المنازعات التي أدخلتها جبراً في ولايتها يكون منتحلاً ومنعدماً وجوداً من زاوية دستورية، ومنطوياً بالضرورة على إخلال بحق التقاضي بحرمان المتداعين من اللجوء – في واقعة النزاع الموضوعي الماثل – إلى محاكم القانون العام بوصفها قاضيها الطبيعي بالمخالفة للمادة 68 من الدستور.
وحيث إنه لما كانت المادة 57 من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963 هي الأساس التشريعي الذي يقوم عليه قرار وزير المالية رقم 228 لسنة 1985 المشار إليه، وإذ كانت المادة 58 من قانون الجمارك ترتبط ارتباطاً لا يقبل التجزئة بالمادة 57 منه، فإن هذه النصوص جميعها تسقط لزوماً تبعاً للحكم بعدم دستورية المادة 57 المشار إليها، إذ لا يتصور بدونها وجود لتلك النصوص.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة:
أولاً: بعدم دستورية المادة 57 من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 66 لسنة 1963.
ثانياً: بسقوط المادة 58 من هذا القانون، وكذلك بسقوط قرار وزير المالية رقم 228 لسنة 1985 بشأن نظام التحكيم في المنازعات بين أصحاب البضائع ومصلحة الجمارك.
ثالثاً: بإلزام الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنية مقابل أتعاب المحاماة.
وسوم : حكم دستورية