الخط الساخن : 01118881009
السنة الثالثة – العدد الثالث (من أول يونيه إلى آخر سبتمبر سنة 1958) – صـ 1574
(165)
جلسة 12 من يوليه سنة 1958
برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني وعلي إبراهيم بغدادي والدكتور محمود سعد الدين الشريف والدكتور ضياء الدين صالح المستشارين.
القضية رقم 597 لسنة 3 القضائية
( أ ) حرية الصحافة – حرية عامة كفلتها الدساتير – عدم جواز تقييدها أو تنظيمها إلا عن طريق القانون.
(ب) حرية الصحافة – دستور سنة 1923 – إلغاء الصحف بالطريق الإداري – غير جائز بمقتضاه قبلما يصدر التشريع المنظم لهذا الإجراء – الاستثناء الوارد بالمادة 15 منه بشأن وقاية النظام الاجتماعي – خطاب من الدستور إلى المشرع لا إلى جهة الإدارة.
(ج) حكم – حجيته – الحكم بإلغاء قرار إداري لمخالفته للدستور والقانون – حيازة الحكم قوة الشيء المقضى به – لا محل عند النظر في دعوى التعويض لإعادة بحث مشروعية القرار أو أسبابه ومبرراته وظروف إصداره.
(د) مسئولية – الخطأ الموجب للمسئولية – واقعة مجردة لا يعتد فيها بالباعث – وقوع الإدارة في خطأ فني أو قانوني في تفسير القاعدة القانونية – غير مجد في إعفائها من المسئولية – الخطأ في فهم الواقع أو القانون ليس عذراً دافعاً للمسئولية.
1 – إن حرية الصحافة هي إحدى الحريات العامة التي كفلها الدستور؛ فقد نصت المادة 45 من دستور الجمهورية المصرية على أن “حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة وفقاً لمصالح الشعب وفي حدود القانون”. ولما كانت هذه الحرية لا يقتصر أثرها على الفرد الذي يتمتع بها، بل يرتد إلى غيره من الأفراد وإلى المجتمع ذاته؛ لذلك لم يطلق الدستور هذه الحرية، بل جعل جانب التنظيم فيها أمراً مباحاً، على أن يكون هذا التنظيم بقانون؛ لأن الحريات العامة لا يجوز تقييدها أو تنظيمها إلا عن طريق القانون.
2 – إن المادة 15 من دستور سنة 1923 كانت تنص على أن “الصحافة حرة في حدود القانون والرقابة على الصحف محظورة وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك، إلا إذا كان ذلك ضرورياً لوقاية النظام الاجتماعي”. وقد انعقد الرأي على أن هذه المادة ليست نافذة لذاتها، ولا تمنح الإدارة رأساً سلطة في مصادرة الصحف، وإنما اقتصرت على منح المشرع رخصة في إجازة المصادرة الإدارية للصحف مع تنظيم هذه المصادرة. وقد أفرد الدستور الملغى باباً خاصاً يقرر فيه حقوق المصريين العامة وواجباتهم، وقصد به أن يكون وضعاً قانونياً له حكم الدستور وعلوه على القوانين العادية، وحتى يكون قيداً على الشارع لا يتعداه فيما يسنه من الأحكام. والذي يستخلص من النصوص الواردة في هذا الباب أن هذه النصوص التي تقرر الحقوق العامة للمصريين – وقد ردد مضمونها دستور جمهورية مصر الصادر في 16 من يناير سنة 1956 في الباب الثالث المتعلق بالحقوق والواجبات العامة – إنما هي خطابات من الدستور للمشرع يقيد من حرية المشرع ذاته. وقد منح الدستور المشرع رخصة في تنظيم إنذار الصحف ووفقها وإلغائها بالطريق الإداري في حدود ما تقتضيه الضرورة لوقاية النظام الاجتماعي، وهي رخصة للمشرع أن يمارسها إذا قدر أن الضرورة تقضي عليه بممارستها فوراً، وله أن يستمهل الفرصة فيها، فلا يسبق الحوادث حتى تقوم في نظره الضرورة إلى ممارستها، فيعمد عندئذٍ إلى إصدار التشريع الذي ينظم هذا الطريق الإداري، فيبين ما هو المقصود بالنظام الاجتماعي، وما هي السلطة الإدارية المختصة بالإنذار أو الوقف أو الإلغاء، وما هي الإجراءات التي يجب على هذه السلطة المختصة اتباعها في ممارستها لاختصاصها، وما هي الضمانات القضائية التي تكفل للصحافة أن الإدارة لا تتعسف بها عند استعمال هذه السلطة؛ ومن ثم يكون إلغاء الصحف بالطريق الإداري لا يجوز دستورياً قبل أن يصدر التشريع الذي ينظم هذا الإجراء، وأن الاستثناء الوارد في آخر المادة 15 من الدستور الملغى، وهو عبارة “إلا إذا كان ذلك ضرورياً لوقاية النظام الاجتماعي”، هو خطاب من الدستور إلى المشرع لا إلى جهة الإدارة، وقد قصد به إلى تمكين المشرع من أن يصدر في الوقت المناسب التشريع المناسب لمناهضة الدعايات التي تهاجم أسس النظام الاجتماعي. والواقع من الأمر أن التشريعات المختلفة التي تعاقبت لتنظيم حرية الصحافة تتساند جميعاً للدلالة على هذا المعنى في تفسير المادة 15 من دستور سنة 1923.
3 – لا محل للعودة لبحث مشروعية القرار الإداري ولا لفحص أسبابه ومبرراته والظروف التي أحاطت بإصداره، بعد إذ قضى عليه حكم الإلغاء بأنه قرار مخالف تماماً لحكم الدستور والقانون. وقد حاز ذلك الحكم قوة الشيء المقضى به في ظل قانون مجلس الدولة رقم 9 لسنة 1949، وتحصنت جميع الآثار المترتبة عليه.
4 – لا يشفع في إعفاء الإدارة من المسئولية وقوعها في خطأ فني أو قانوني في تفسير مدلول المادة 15 من دستور سنة 1923؛ ذلك أن الخطأ هو واقعة مجردة قائمة بذاتها، متى تحققت أوجبت مسئولية مرتكبها عن تعويض الضرر الناشئ عنها، بقطع النظر عن الباعث على الوقوع في هذا الخطأ؛ إذ لا يتبدل تكييف الخطأ بحسب فهم مرتكبه للقاعدة القانونية وإدراكه فحواها، فالخطأ في فهم الواقع أو القانون ليس عذراً دافعاً للمسئولية.
إجراءات الطعن
في 24 من مارس سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتارية المحكمة عريضة طعن أمام هذه المحكمة قيد بجدولها تحت رقم 597 لسنة 3 القضائية في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الخامسة “ب”) بجلسة 27 من يناير سنة 1957 في الدعوى رقم 1016 لسنة 7 القضائية المقامة من الأستاذ أحمد حسين المحامي وصاحب جريدة مصر الفتاة ضد رئيس مجلس الوزراء، والذي يقضي “برفض الدفع بعدم قبول الدعوى، وبقبولها، وفي الموضوع برفضها، وإلزام المدعي بالمصروفات”. وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين، للأسباب التي استند إليها في صحيفة طعنه، “الحكم بقبول هذا الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، وإعادة القضية إلى محكمة القضاء الإداري لتقدير قيمة التعويض”. وقد أعلن هذا الطعن إلى الحكومة في 7 من إبريل سنة 1957، وإلى المطعون لصالحه في 10 منه، وعين لنظره أمام هذه المحكمة جلسة 8 من فبراير سنة 1958، وقد انقضت المواعيد القانونية دون أن يقدم أي من الطرفين مذكرة بملاحظاته. وفي 16 من ديسمبر سنة 1957 أعلن الطرفان بميعاد الجلسة، وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات ذوي الشأن على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقدم المطعون لصالحه مذكرة بملاحظاته لجلسة 21 من يونيه سنة 1958 انتهى فيها إلى طلب الحكم له بالتعويض المطلوب وقدره عشرة آلاف جنيه والمصاريف ومقابل الأتعاب، ثم قررت المحكمة إرجاء النطق بالحكم إلى جلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما يبين من أوراق الطعن، تتحصل في أن المطعون لصالحه أقام الدعوى رقم 1016 لسنة 7 القضائية بصحيفة أودعها سكرتيرية محكمة القضاء الإداري في 11 من إبريل سنة 1953 طالباً الحكم بإلزام السيد رئيس مجلس الوزراء بأن يدفع له مبلغ عشرة آلاف جنيه على سبيل التعويض مع المصاريف ومقابل الأتعاب والنفاذ. وقال – بياناً لدعواه – إنه في 28 من يناير سنة 1951 أصدر مجلس الوزراء قراراً بإلغاء جريدة “مصر الفتاة” بناءً على مذكرة تقدمت بها وزارة الداخلية وقالت فيها “دأبت جريدة مصر الفتاة وصاحب امتيازها الأستاذ أحمد حسين علي محاولة قلب النظام الاجتماعي في البلاد، بأن عمدت إلى الدعوى السافرة للثورة والتحريض على إثارة الفتن بين مختلف الطوائف، وأنها لم تترك وسيلة لبلوغ هدفها إلا سلكتها”.
وقد قدمت النيابة العامة رئيس تحرير الجريدة المذكورة إلى محكمة الجنايات في القضية رقم 9299 لسنة 1950 (السيدة زينب). ونظراًً إلى استمرار الحملة التي لا تستهدف الصالح العام وإنما ترمي إلى تحقيق أغراض رسمتها الجريدة لنفسها، ونظراً لأن الدستور في المادة 15 قد رخص في وقف وإلغاء الصحف بالطريق الإداري إذا كان ذلك ضرورياً لوقاية النظام الاجتماعي، فإن وزارة الداخلية تقترح على مجلس الوزراء إلغاء الجريدة المذكورة. وقد كان القرار الصادر من مجلس الوزراء في ذلك الوقت آية على التعسف وسوء استعمال السلطة وصورة لما وصل إليه العهد السابق من الطغيان والفساد والحرب على كل إصلاح؛ ولذلك فقد جاء هذا الإجراء باطلاً شكلاً وموضوعاً على النحو الذي جاء تفصيله في الدعوى رقم 587 لسنة 5 القضائية، والتي رفعها المدعي أمام محكمة القضاء الإداري طالباً فيها إلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر في 28 من يناير سنة 1951. وبجلسة 26 من يونيه سنة 1951 أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمها الذي قضى “برفض دفع الحكومة بعدم الاختصاص، وفي الموضوع بإلغاء القرار الصادر من مجلس الوزراء في 28 من يناير سنة 1951 بإلغاء جريدة مصر الفتاة، وألزمت الحكومة بالمصرفات وبمبلغ خمسمائة قرش مقابل أتعاب المحاماة”. وأقامت تلك المحكمة قضاءها على أن المادة 15 من الدستور لا تجيز للإدارة مصادرة الصحف قبل صدور تشريع ينظم هذه المصادرة الإدارية؛ ومن ثم يكون القرار المطعون فيه باطلاً لمخالفته لأحكام الدستور.
وقال المدعي بأن المحكمة اكتفت بقبول هذا الوجه الأول من أوجه البطلان عن أن تبحث الوجه الثاني والثالث والذي كان يتحدث عن بطلان هذا القرار الإداري من الناحية الموضوعية البحتة وما ينطوي عليه من إساءة استعمال السلطة والرغبة في الكيد للمدعي، وقد أيد القضاء العام في أحلك الظروف حكم مجلس الدولة عندما أصدرت محكمة جنايات القاهرة في 17 من مارس سنة 1952 – أي بعد حوادث حريق القاهرة واتهام المدعي بالتحريض على حرق عاصمة الديار المصرية – حكمها بالبراءة في القضية رقم 9299 لسنة 1950 (السيدة زينب). وقالت محكمة الجنايات في وصف تلك المقالات التي استندت إليها وزارة الداخلية ومجلس الوزراء لإلغاء الجريدة: إن مقال العدد رقم 240 من جريدة مصر الفتاة وعنوانه (الحكومة التي لا تحارب الفساد والرشوة) عبارة عن تنبيه للوزارة ونصح لها، وكذلك حذر المتهم الكبراء والوزراء والأغنياء في مقاله المنشور في العدد 247 من عواقب انصرافهم إلى اللهو والشهوات والميسر وتبذير الأموال على الفسق والفجور مما أصبح معلوماً للناس في كل مكان، وكذلك حذرهم المتهم في مقاله من خطورة هذه الحالة السيئة التي إن استمرت تؤدي بالبلاد إلى ثورة هؤلاء الساخطين، وهم السواد الأعظم من الشعب. ونبه المتهم قومه إلى ما وقع من أمثال ذلك في البلاد الأخرى مثل فرنسا وروسيا، ونصح الوزراء والكبراء والأغنياء بأن يتداركوا الأمر قبل فوات الفرصة فيطبقوا المبادئ الاشتراكية وإصلاح حال الفلاحين والعمال.
وقالت محكمة الجنايات إنها ترى أن عبارات النصح والإرشاد والتحذير مما تضمنته مقالات الجريدة لا جريمة فيها، ولا يمكن القول بأن المتهم (المدعي) قصد تحريض الناس على ارتكاب الجنايات؛ لأن التحريض هو حض الناس على أن يقوموا ويقتلوا ويحرقوا وينهبوا، وعلى عكس ذلك فإن المتهم لم يوجه قوله إلى الجماهير بل وجهه إلى الكبراء والأغنياء ناصحاً ومحذراً من عواقب الاسترسال في الفساد؛ ومن ثم تكون التهمة المسندة إلى المتهم (المدعي) على غير أساس. وبجلسة 17 من مارس سنة 1952 حكمت محكمة جنايات القاهرة “ببراءة كل من الأستاذ أحمد حسين وآخر مما أسند إليهما وأعفتهما من المصاريف”.
وتستطرد صحيفة الدعوى قائلة: إنه وقد تبدلت الأوضاع وحل الحق محل الباطل، وأثبتت الأيام أن ما دعت إليه جريدة مصر الفتاة الملغاة هو ما تعمل مصر الظافرة الناهضة على تحقيقه، فإن من حق جريدة مصر الفتاة أن تنال بعض التعويض عما أصابها من خسائر مادية وأدبية في ذلك العهد المنصرم نتيجة ذلك القرار الجائز الذي قضى بإلغاء الجريدة المذكورة. فلقد استمرت الجريدة معطلة ستة أشهر كاملة ابتداءً من 28 من يناير سنة 1951، حتى عادت إلى الصدور في شهر يوليه سنة 1951، وقد ترتب على ذلك أن تحطمت مالية الجريدة، وأصبحت عاجزة عن الصدور في العهد الجديد بما يتناسب مع التطور والمكانة التي كان يجب أن تصل إليها لو لم يضر بها الإلغاء والاضطهاد. ولما كانت هذه الأضرار المادية والأدبية التي حلت بالمدعي قد نشأت عن هذه الإجراءات الباطلة، والتي ثبت بطلانها بحكم محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة وكذلك بحكم محكمة جنايات القاهرة، فإن مسئولية الحكومة عن تعويض هذا الضرر مسألة لا خلاف عليها ولا محل للجدل فيها. وقد قدرت محكمة استئناف مصر قيمة تعويض المدعي المادي والأدبي عن عددين صادرتهما جهة الإدارة في سنة 1946 بمبلغ ألف وخمسمائة جنيه وذلك في حكمها رقم 569 لسنة 67 القضائية الصادر في 22 من مارس سنة 1953، وقياساً على هذا الحكم كان يحق للمدعي أن يطلب مبلغ خمسين ألفاً من الجنيهات المصرية بمثابة تعويض عن إلغاء الجريدة كلية طوال ستة أشهر لو لا أنه يكتفي بتقدير هذا التعويض بمبلغ عشرة آلاف جنيه. وفي 24 من فبراير سنة 1955 قدم المدعي مذكرة شارحة لصحيفة دعواه، قال فيها إنه أمام حكم بات ونهائي صادر من محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في دعواه رقم 587 لسنة 5 القضائية وقد قضى بإلغاء قرار إداري صدر بالمخالفة للقانون، فأصبح حق التعويض عن الأضرار التي سببها هذا القرار الخاطئ حقاً مقرراً للمدعي.
ومع ذلك فإن الدفاع عن الحكومة طلب ضم ملف الضرائب الخاص بالجريدة الملغاة. وقد أمرت المحكمة بضمه فإذا به وثيقة شرف للجريدة لتدعيم حجتها فيما تطالب به من تعويض عن اضطهاد الحكومة لها. وفي تقرير الضرائب أن هذه الجريدة استنت لنفسها سياسة حزبية معينة مخالفة لسياسة الحكومات مما دعا إلى مصادرتها في أكثر فترات ظهورها وعدم تمتعها بهبات حكومية، فضلاً عن امتناعها عن نشر الإعلانات الخاصة ببعض الطوائف كاليهود مثلاً أو الإعلانات عن المنتجات الأجنبية والمحرمة كالخمور ونوادي القمار وبيوت الليل.
ويقول المدعي إن الفترة هناك ما يقطع بمدى ما كانت عليه جريدة الملغاة من الازدهار خلال تلك الفترة التي عاصرت التعطيل، وكيف أن إلغاءها لمدة ستة أشهر قد عاق نموها؛ ففي يونيه سنة 1950 لم يكن يزيد توزيع أعدادها على الألف نسخة تقريباً، فارتفع بعد ثلاثة أشهر أي في سبتمبر سنة 1950 إلى ما يقرب من 1750 نسخة، ثم تضاعف توزيعها بعد ذلك حتى بلغ ما يقرب من عشرة آلاف نسخة في أواخر عام 1951. وعندما عطلت في 25 من يناير سنة 1951، كان توزيعها قد وصل إلى 10564 نسخة. ولقد اشتمل كشف الحكومة على قائمة توزيع الجريدة بعد أن عادت إلى الصدور، وأرادت الحكومة بهذا الكشف أن تقول إن التعطيل لم يضر بالجريدة بل قد أفادها بدليل تضاعف أرقام التوزيع؛ ففي 15 من يوليه سنة 1951 بلغ مجموع ما بيع من الجريدة 26823 نسخة، وفي أول سبتمبر سنة 1951 بلغ 44530 نسخة. ثم ارتفع الرقم بعد أسابيع إلى 54744 نسخة. ويقرر المدعي في مذكرته الشارحة أن هذه الزيادة الملحوظة لم تكن ثمرة تعطيل الجريدة، وإنما نتيجة الاتجاه السياسي الذي اختارته لنفسها.
ثم انتقل المدعي يفصل في مذكرته الشارحة ما سبق أن أجمله في عريضة دعواه رقم 1016 لسنة 7 القضائية في شأن بطلان القرار الصادر بإلغاء الجريدة، فاقتبس من أسباب الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 587 لسنة 5 القضائية وكذلك من أسباب حكم محكمة الجنايات في القضية رقم 9299 لسنة 1950 ما يؤيد وجهة نظره في المطالبة بالتعويض عن قرار مجلس الوزراء بإلغاء جريدته لأنه صدر باطلاً من حيث الشكل ومن حيث الموضوع. وفي 28 من فبراير سنة 1955 أودعت الحكومة مذكرة بدفاعها قالت فيها: (1) بعدم قبول هذه الدعوى لرفعها من غير ذي صفة؛ ذلك لأن جريدة مصر الفتاة كانت جريدة حزبية، وكان يصدرها الحزب الاشتراكي، وأن رئيس تحريرها كان المرحوم الدكتور مصطفى الوكيل وكان نائباً لرئيس هذا الحزب ومن بعده تولى رياسة التحرير سكرتير عام الحزب المذكور. والدعوى تنظر في ظل القانون الصادر بإلغاء الأحزاب السياسية في مصر ومن بينها الحزب الاشتراكي؛ فيكون المدعي قد تجرد من صفته كرئيس للهيئة السياسية التي تتولى إصدار جريدة مصر الفتاة، ولا يكون له مصلحة في السير في دعواه؛ لأن كل ما يمكن أن يحكم له به من تعويض قل أو كثر – لو صحت الدعوى – فهو حق للحزب الاشتراكي المنحل مآله هو مآل أموال الحزب إلى المصادرة؛ ومن ثم تكون الدعوى على النحو المتقدم غير مقبولة لانتفاء الصفة والمصلحة معاً.
أما عن موضوع الدعوى فقد طلبت الحكومة رفضها، وقالت في ذلك إن قرار مجلس الوزراء الصادر في 28 من يناير سنة 1951 بإلغاء جريدة مصر الفتاة قد صدر استناداً إلى المادة 15 من دستور سنة 1923، وجرى الجدل في القضية رقم 587 لسنة 5 القضائية حول ما إذا كانت هذه المادة تعطي السلطة التنفيذية الحق في تعطيل الصحف دون حاجة إلى إصدار تشريع ينظم طريقة هذا التعطيل أم أن صدور هذا التشريع أمر واجب لاتخاذ الإجراء الإداري، وبدونه لا تملك جهة الإدارة سلطة التعطيل.
ثم صدر حكم محكمة القضاء الإداري متضمناً تفسير المادة 15 من الدستور، وانتهى الحكم إلى خطأ الرأي الذي يجعل من هذه المادة سنداً للإدارة في تعطيل الصحف بغير إصدار تشريع يبين طرائف هذا التعطيل. وقالت الحكومة إن الحكم لم يتعرض، وما كان له أن يتعرض، وهو بصدد تفسير نص دستوري، لموضوع الدعوى، أي لدراسة الأسباب التي بني عليها قرار التعطيل من حيث صلاحيتها أو عدم صلاحيتها موضوعاً لتعطيل جريدة مصر الفتاة، ولا يمكن التكهن عند ذلك عما كان ينتهي إليه الحكم فيما لو صدر قرار التعطيل مستنداً إلى تشريع يصدر بالتطبيق لأحكام المادة 15 من دستور سنة 1923، كما لا يمكن الجزم بما كان ينتهي إليه الفصل في صحة تلك الأسباب. ولا عبرة بما أبداه المدعي من دفاع في مذكرته في هذه الدعوى من أن محكمة الجنايات قد انتهت إلى براءته في القضية رقم 9299 لسنة 1950 (جنايات السيدة) عما أسند إليه ويتفق والأسباب التي من أجلها عطلت الجريدة؛ إذ لا يعدو الحكم بالبراءة في تلك الدعوى الجنائية أن يكون حكماً بالبراءة بالنسبة لما قدم المدعي من أجله لمحكمة الجنايات في تلك القضية دون سواها. وبالتالي تكون المقالات التي نشرت في العدد الذي حوكم من أجله أمام محكمة الجنايات هي وحدها بمنجاة من المساءلة الجنائية، في حين تظل المسئولية قائمة بالنسبة لما عداها من مقالات نشرت في أعداد أخرى وقدم من أجلها متهماً إلى محكمة الجنايات وحكم عليه فيها بالإدانة.
وينبني على ذلك – في مذكرة دفاع الحكومة – أن الحكم بالبراءة في قضية صحفية لا ينجي الجريدة التي يصدرها حزبه من المسئولية الموجبة للعقاب في مقالات أخرى تكون قد نشرتها وصدر ضد المدعي بشأنها أحكام بالإدانة؛ ثم انتهت الحكومة من ذلك إلى أن إلغاء القرار الإداري لا يستتبع التعويض حتماً، واستشهدت على ذلك ببعض الأحكام، وقالت إنه لو صح حقاً ما جرت به دعوى المدعي من أنه كان يستهدف من كفاحه الطويل وجهاده المرير ضد العهود الماضية الوصول إلى النتيجة التي بلغتها البلاد في صبيحة يوم 23 من يوليه سنة 1952 لكانت هذه النتيجة كافية لأن تكون سبباً لاعتبار هذه الخصومة غير ذات موضوع؛ فقد قامت الثورة والمدعي يتوخى في جهاده قيام الثورة، فقامت وقوضت كل دعائم الفساد، فليس على المدعي إذن إلا أن يقر عيناً ويطمئن بالاً.
وإذا كانت الحكومة في هذا العهد مضطرة إلى جبر كل ضرر سياسي أصاب الناس في العهد الذي سلف، فسترصد كل أموالها لهذا التعويض، فإن كثيرين غير المدعي أوذوا وعذبوا وصودرت أموالهم وأرزاقهم وحتى حرياتهم، ومع ذلك فالثورة في حسابهم هي التعويض المجزى الذي لا قبل لمال أن يجزيه، فأما عن التعويض عن الضرر المادي للمدعي فإنه يبين من مطالعة البيان الخاص بعدد النسخ التي كانت توزع من الجريدة عن الستة الأشهر السابقة على قرار الإلغاء وعن الستة الأشهر اللاحقة لذلك القرار، أن توزيع الجريدة قد تضاعف بعد صدور حكم محكمة القضاء الإداري بإلغاء قرار مجلس الوزراء، مما ترتب عليه الحكومة القول بأن المدعي قد استفاد حقيقة من الإجراء الذي اتخذ معه حيث زعم أنه خسر مادياً. ولم يستبن من مستندات المدعي ما كان ينفقه على النسخة من جريدته من مصروفات وما كان يحصل عليه خلال توزيعها من ثمن وما يخلص له خلال عملية الإصدار من مغنم. وتقول الحكومة إن المدعي أجاب عن ذلك بنفسه، حيث يقول صراحة إن جريدته حزبية تناصر المبادئ ولا تستهدف الأرباح المادية؛ ومن ذلك يظهر أنه لا خسارة على المدعي من تعطيل صحيفته، خصوصاً وقد ثبت من ملف الضرائب أن المدعي قدم إقراراً بأن جريدته كانت له مصدر خسائر فادحة، وخلصت الحكومة من دفاعها في هذه الدعوى بطلب الحكم أصلياً: بعدم قبول الدعوى لرفعها من غير ذي صفة أو مصلحة، واحتياطياً: برفض الدعوى، مع إلزام المدعي في أي الحالتين بالمصاريف ومقابل الأتعاب. وفي 15 من نوفمبر سنة 1956 أودع المدعي مذكرة ختامية فند فيها ما جاء بمذكرة دفاع الحكومة من أن الاجتهاد في تفسير النص الدستوري لا يرتب تعويضاً، وأن إلغاء القرار الإداري لا يستتبع حتماً التعويض. وقال المدعي إن التعويض نتيجة حتمية لوقوع ما اقترفته الحكومة من خطأ متى تسبب عنه ضرر.
والضرر الناشئ عن إلغاء جريدته لا يحتاج إلى إثبات أكثر مما سبق أن فصله في مذكرته الشارحة المتقدمة. وقال إن الجريدة هي العمل الوحيد الذي كان يزاوله في تلك الحقبة من الزمن، وقد أغفل عمله في المحاماة تحت ضغط الظروف السياسية التي كانت تعيش فيها البلاد، وأنه كان يتقاضى من الجريدة مبالغ قد تصل إلى مائة جنيه في الشهر؛ فإلغاء الجريدة أضاع عليه هذا المورد. وأنه آثر اختيار العمل في الجريدة دفاعاً عن رأيه وتعبيراً عن عقيدته، وهو حق أصيل لكل إنسان تحميه وتقدسه القوانين والدساتير (المادتان 44 و45 من دستور الجمهورية المصرية)، وذكر أنه يهتم لذلك بالتعويض الأدبي فوق اهتمامه بإثبات عناصر التعويض المادي. ورد المدعي على قول الحكومة بأن صدور حكم محكمة القضاء الإداري بإلغاء القرار فيه تعويض كافٍ، فقال إن تدخل الإدارة بتعطيل الجريدة والحيلولة بينها وبين الاستمرار في الصدور ستة أشهر كاملة لا يمكن أن يمحو الأضرار المادية التي أصابته؛ فإلغاء الجريدة نوع من السجن والاعتقال للجريدة وصاحبها، وأن القضاء الإداري قد استقر في أحكامه على أن كل مساس بالحرية يستلزم حتماً التعويض متى كان ذلك المساس على خلاف القانون، ومن باب أولى فيه اعتداء على أحكام الدستور. وقال المدعي في الرد على ما دفعت به الحكومة من عدم قبول الدعوى لرفعها من غير ذي صفة ولا مصلحة لأن جريدة مصر الفتاة كانت مملوكة للحزب وليست للمدعي – قال إن الجريدة هي ملك خاص له، ثم تنازل عن امتيازها للأستاذ إسماعيل عامر سنة 1955، وأن الجريدة كانت لسان حال حزب مصر الفتاة أو الحزب الاشتراكي، ولكن الملكية له والضرر أصابه مباشرة من جراء تعطيلها. وصمم المدعي على طلب الحكم له بتعويض. وبجلسة 27 من يناير سنة 1957 قضت محكمة القضاء الإداري (الهيئة الخامسة “ب”) “برفض الدفع بعدم قبول الدعوى، وبقبولها، وفي الموضوع برفضها، وإلزام المدعي بالمصرفات”. وأقامت قضاءها على أنه فيما يتعلق بالدفع بعدم قبول الدعوى، فإن الذي يبين من الأوراق أن وزارة الداخلية صرحت في 25 من يناير سنة 1938 بإصدار جريدة مصر الفتاة وأن اسم صاحبها هو الأستاذ أحمد حسين المحامي (المدعي)،
واستمرت ملكية المدعي للجريدة إلى أن قرر قسم المطبوعات بمصلحة الاستعلامات بوزارة الإرشاد القومي في 23 من فبراير سنة 1955 قبول الإخطار المقدم من الأستاذ أحمد حسين صاحب جريدة مصر الفتاة بشأن تنازله عن امتياز جريدة مصر الفتاة إلى شخص آخر باعتباره المالك لها والمسئول عن إصدارها (دوسيه رقم 11/ 2/ 640 جزء أول وثانٍ من إدارة المطبوعات – وزارة الداخلية، وهو مقدم من الحكومة)؛ ومن ثم فإن المدعي كان بصفته الشخصية هو المالك لهذه الجريدة وقتما صدر قرار مجلس الوزراء في 28 من يناير سنة 1951 بالموافقة على ما اقترحته وزارة الداخلية من طلب إلغاء الجريدة المذكورة، ذلك القرار الذي قضت في شأنه محكمة القضاء الإداري بالإلغاء في الدعوى رقم 587 لسنة 5 القضائية بجلسة 26 من يونيه سنة 1951. ودعوى التعويض هذه إنما هي مؤسسة على تلك العناصر المتقدمة، وبالتالي لا يكون للحزب الاشتراكي صفة في ملكية جريدة مصر الفتاة الملغاة ولا تدخل ضمن أمواله، ولا شأن له بالقانون رقم 37 لسنة 1953 القاضي بحل الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها، فيتعين رفض الدفع بعدم قبول الدعوى لرفعها من غير ذي صفة أو لعدم وجود مصلحة للمدعي. أما فيما يتعلق بموضوع الدعوى فقد أقام الحكم المطعون فيه قضاءه على أن الثابت من أسباب ومنطوق حكم محكمة القضاء الإداري بالإلغاء في الدعوى رقم 587 لسنة 5 القضائية أنه قام على مجرد التفسير الفقهي للمادة 15 من دستور سنة 1923 واكتفى فيما قضى به من إلغاء قرار مجلس الوزراء بتعطيل جريدة مصر الفتاة بهذا التفسير (إن المادة 15 من الدستور لا تجيز للإدارة مصادرة الصحف قبل صدور تشريع ينظم هذه المصادرة الإدارية).
ولم تر تلك المحكمة حاجة بعد ذلك للتطرق إلى بحث أو دراسة الأسباب التي بني عليها قرار مجلس الوزراء بتعطيل الجريدة. وأنه يبين من ذلك أن ما وقعت فيه جهة الإدارة من خطأ عندما أصدرت قرار مجلس الوزراء المطعون فيه لا يعدو أن يكون خطأً قانونياً فنياً في تفسير مادة من مواد الدستور. وهل المادة 15 المذكورة تخول السلطة التنفيذية الحق في إلغاء الصحف ومصادرتها، دون حاجة إلى إصدار التشريع ينظم طريقة هذا الإلغاء، أم أن صدور هذا التشريع أمر واجب مقدماً وبدونه لا تملك الإدارة سلطة الإلغاء، بحيث إذا هي قررت تعطيل صحيفة بالاستناد إلى هذا الحق كان قرارها مشوباً بالبطلان خليقاً بالإلغاء، وهو ما قضت به المحكمة في الدعوى رقم 587 لسنة 5 القضائية. ثم قال الحكم المطعون فيه إن القضاء الإداري متجه، في نطاق قضاة التعويض، إلى عدم مساءلة جهة الإدارة في حالة الخطأ الفني اليسير في تفسير القاعدة القانونية؛ ذلك لأن جهة الإدارة لا تنكر القاعدة القانونية ولا تتجاهلها، وإنما قد تعطي القاعدة القانونية معنى آخر خلاف المقصود منها قانوناً؛ فيكون خطأ الإدارة في التفسير مغتفراً إذا كانت القاعدة القانونية غير واضحة وتكون محتملة التأويل. ثم استطردت أسباب الحكم المطعون فيه إلى القول بأنه يتعين في دعوى التعويض بحث ما لم تتناوله دعوى الإلغاء في القضية رقم 587 لسنة 5 القضائية من تمحيص الأسباب التي بني عليها قرار مجلس الوزراء المطعون فيه والظروف التي صدر في ظلها ذلك القرار على ضوء الوقائع السائدة في ذلك الوقت والقوانين التي كانت سارية في حينه، واتجهت حيثيات الحكم المطعون فيه إلى فحص أسباب قرار مجلس الوزراء، وانتهت المحكمة من مطالعة أرواق الدعويين: الحالية رقم 1016 لسنة 7 القضائية والسابقة رقم 587 لسنة 5 القضائية، وبخاصة ما أوردته الحكومة في مذكرة دفاعها في دعوى الإلغاء من مقتطفات نشرتها الجريدة المعطلة ومما نشر في عدد من النسخ المودعة منها ملف الدعوى – انتهت المحكمة إلى أن الأسباب الواردة في مذكرة وزارة الداخلية المقدمة إلى مجلس الوزراء في 28 من يناير سنة 1951 بطلب إلغاء الجريدة لها ما يبررها فيما كان ينشر في تلك الجريدة؛ ومن ثم يكون القرار الإداري الصادر بتعطيلها قد صدر مستنداً إلى أسباب قوية تقوم على استخلاص سائغ من وقائع صحيحة لها أصل ثابت في الأوراق؛ وفضلا عن ذلك فإن المدعي لم يقدم ما يثبت ما جاء في معرض دفاعه من أن القرار المطعون فيه قد صدر لمهاجمته بالذات وزير الداخلية الذي كان قائما في الحكم يومذاك، ويكون قرار مجلس الوزراء قد صدر مستهدفاً المصلحة العامة مبرءاً من عيب إساءة استعمال السلطة بعيدا عن الانحراف؛ ومن ثم فلا محل للمطالبة بالتعويض عن خطأ فقهي يسير وقعت فيه الإدارة عند تفسيرها لنص من أحكام الدستور.
ومن حيث إن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة طعن في هذا الحكم بعريضة أودعها سكرتيرية هذه المحكمة في 24 من مارس سنة 1957، واستند في أسباب طعنه إلى أن مسئولية الإدارة عن القرارات الإدارية تقوم وفقاً لنصوص التشريع المصري على أساس خطأ ملموس هو كون القرار الذي ترتب عليه الضرر غير مشروع. وتترتب على ذلك نتيجتان: (1) أنه إذا كان القرار سليماً مطابقاً للقانون فإن الإدارة لا تسأل مهما بلغت جسامة الضرر الذي ينال الأفراد من تنفيذه؛ لأن على الأفراد، وفقاًًً لنصوص التشريع المصري، أن يتحملوا نتائج نشاط الإدارة المطابق للقانون. (2) أنه إذا كان القرار معيباً بأي عيب من العيوب التي نص عليها القانون، وترتب عليه ضرر، وجب التعويض، دون إقامة تلك التفرقة التي جرى عليها مجلس الدولة الفرنسي من جعله بعض أوجه الإلغاء سبباً باستمرار للحكم بالمسئولية، والبعض الآخر ليس كذلك، ودون الأخذ بفكرة تدرج الخطأ وفقاً للظروف. ذلك أن تلك التفرقة وذلك التدريج لا يستقيمان مع نصوص التشريع المصري التي تتطلب مسئولية الإدارة في جميع الحالات كلما كان القرار معيباً وترتب عليه ضرر. فليس للإدارة أن تلحق بالأفراد أضراراً نتيجة لنشاط غير مشروع، والقانون إذ يفرض عليها أن تتبع قواعد معينة في الاختصاص أو الشكل فإن الإدارة يجب أن تلتزم هذه القواعد وتسأل عن مخالفتها كلما وقعت منها المخالفة، ذلك ليس فيما يتعلق بقضاء الإلغاء وحده وإنما بالنسبة أيضاً لقضاء التعويض بصفة مطلقة، وإذا كان في وسع الإدارة أن تعيد القرار المعيب في شكله الصحيح ووفقاً لقواعد الاختصاص أو إذا كان خطأ الإدارة يسيراً، فإن هذه الحقيقة تراعى عند تقدير التعويض، ولكنها لا تؤدي إلى نفي مبدأ مسئولية الإدارة.
ولما كان الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري في دعوى الإلغاء رقم 587 لسنة 5 القضائية بجلسة 26 من يونيه سنة 1951 قد أدان قرار مجلس الوزراء بتعطيل الجريدة بعدم المشروعية؛ على أساس أن المادة 15 من دستور سنة 1923 لا تجيز للإدارة مصادرة الصحف قبل صدور تشريع ينظم هذه المصادرة الإدارية، فإنه لا وجه لما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من نفي مسئولية الإدارة عن التعويض، على أساس أن القضاء الإداري في نطاق التعويض متجه إلى عدم مساءلة جهة الإدارة في حالة الخطأ الفني اليسير في تفسير القاعدة القانونية. وما دام قد ثبت أن قرار إلغاء الجريدة هو قرار غير مشروع وترتب عليه ضرر للمدعي وجبت مساءلة الإدارة عن التعويض، وتعين القضاء بإلغاء الحكم المطعون فيه. وبجلسة 21 من يونيه سنة 1958 أودع المدعي مذكرة بملاحظاته على تقرير الطعن، وطلب قبوله لما قام عليه من أسانيد تهدف إلى إلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء له بالتعويض عما أصابه من أضرار مادية وأدبية يقدرها بعشرة آلاف من الجنيهات. وجاء في مذكرته أن القول أن القول بأن القضاء الإداري متجه إلى عدم مساءلة الإدارة في نطاق قضاء التعويض في حالة الخطأ الفني اليسير في تفسير القاعدة القانونية، قول لا أصل له في الفقه ولا القضاء المصري، بل قضت أحكام المحكمة الإدارية العليا بما ينفى ذلك تماماً. وفي بيان ركن الضرر الذي أصاب المدعي من جراء تعطيل جريدته قال إن هذه الجريدة كانت له مورد رزقه الوحيد؛ فقد كانت تستغرق كل وقته، وكان يحصل منها على مائة جنيه في الشهر لينفق منها على معاشه هو وأسرته، أي أن ما خسره هو ستمائة جنيه خلال الأشهر الستة، يضاف إلى ذلك ضعف مثل هذا المبلغ ما بين إيجار المكان الذي كانت تشغله الجريدة المعطلة ومصاريف الإضاءة والموظفين الذين لا يمكن الاستغناء عنهم حتى في حالة تعطيل الصحيفة، فيكون مقدار المبالغ الثابتة التي خسرها المدعي هي 1800 جنيه يضاف إليها ربح لا يقل عن 1200 جنيه كان يمكن أن تدره عليه الجريدة، ومجموع هذا المبلغ هو ثلاثة آلاف جنيه، أما باقي مبلغ التعويض الذي طالب به في صحيفة دعوى الحكم المطعون فيه فذلك لتعويض الأضرار المادية غير المنظورة وهي فقدان الجريدة لعملائها من أصحاب الإعلانات من أصحاب الإعلانات الذين هجروها وأعرضوا عنها بعد تنفيذ قرار مجلس الوزراء بإلغائها. أما عن الأضرار الأدبية التي أصابته أيضاً فإن القانون المدني صريح في التعويض عنها، ولم تعقب الحكومة بشيء على تقرير طعن هيئة المفوضين بإلغاء الحكم المطعون فيه.
ومن حيث إن هذه المحكمة سبق أن قضت بأن مناط مسئولية الإدارة عن القرارات الإدارية التي تصدرها في تسييرها للمرافق العامة هو قيام خطأ من جانبها؛ بأن يكون القرار الإداري غير مشروع لعيب أو أكثر شابه من العيوب المنصوص عليها في المادة الثالثة من القانون رقم 9 لسنة 1949 الخاص بمجلس الدولة وفي المادة الثامنة من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن إعادة تنظيمه، وأن يلحق صاحب الشأن ضرر، وأن تقوم علاقة السببية بين الخطأ والضرر، وأن يترتب الضرر على القرار غير المشروع.
ومن حيث إنه فيما يتعلق بركني الخطأ فإن المادة 15 من دستور سنة 1923 – الذي صدر في ظله قرار مجلس الوزراء بإلغاء جريدة مصر الفتاة في 28 من يناير سنة 1951، والتي استند إليها ذلك القرار الإداري الذي كان المدعي قد طعن فيه بالإلغاء في الدعوى رقم 587 لسنة 5 القضائية – تنص على أن “الصحافة حرة في حدود القانون والرقابة على الصحف محظورة وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك إلا إذا كان ذلك ضرورياً لوقاية النظام الاجتماعي”. وقد انعقد الرأي على أن هذه المادة ليست نافذة لذاتها، ولا تمنح الإدارة رأساً سلطة في مصادرة الصحف وإنما اقتصرت على منح المشرع رخصة في إجازة المصادرة الإدارية للصحف مع تنظيم هذه المصادرة. وقد أفرد الدستور الملغى باباً خاصاً يقرر فيه حقوق المصريين العامة وواجباتهم، وقصد به أن يكون وضعاً قانونياً له حكم الدستور وعلوه على القوانين العادية، وحتى يكون قيداً للشارع لا يتعداه فيما يسنه من الأحكام. والذي يستخلص من النصوص الواردة في هذا الباب أن هذه النصوص التي تقرر الحقوق العامة للمصريين – وقد ردد مضمونها دستور جمهورية مصر الصادر في 16 من يناير سنة 1956 في الباب الثالث المتعلق بالحقوق والواجبات العامة – إنما هي خطاب من الدستور للمشرع يقيد فيه من حرية المشرع ذاته، وحرية الصحافة هي إحدى الحريات العامة التي كفلها الدستور. وكذلك نصت المادة 45 من دستور الجمهورية المصرية على أن “حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة وفقاً لمصالح الشعب وفي حدود القانون”.
ولما كانت هذه الحرية لا يقتصر أثرها على الفرد الذي يتمتع بها، بل يرتد إلى غيره من الأفراد وإلى المجتمع ذاته؛ لذلك لم يطلق الدستور هذه الحرية، بل جعل جانب التنظيم فيها أمراً مباحاً على أن يكون هذا التنظيم بقانون؛ لأن الحريات العامة لا يجوز تقييدها أو تنظيمها إلا عن طريق القانون. ثم إن الدستور منح المشرع رخصة في تنظيم إنذار الصحف ووقفها وإلغائها بالطريق الإداري في حدود ما تقتضيه الضرورة لوقاية النظام الاجتماعي، وهي رخصة للمشرع أن يمارسها إذا قدر أن الضرورة تقضي عليه بممارستها فوراً، وله أن يستمهل الفرصة فيها، فلا يسبق الحوادث حتى تقوم في نظره الضرورة إلى ممارستها، فيعمد عندئذٍ إلى إصدار التشريع الذي ينظم هذا الطريق الإداري، فيبين ما هو المقصود بالنظام الاجتماعي، وما هي السلطة الإدارية المختصة بالإنذار أو الوقف أو الإلغاء، وما هي الإجراءات التي يجب على هذه السلطة المختصة اتباعها في ممارستها لاختصاصها، وما هي الضمانات القضائية التي تكفل للصحافة أن الإدارة لا تتعسف بها عند استعمال هذه السلطة؛ ومن ثم يكون إلغاء الصحف بالطريق الإداري لا يجوز دستورياً قبل أن يصدر التشريع الذي ينظم هذا الإجراء، وأن الاستثناء الوارد في آخر المادة 15 من الدستور الملغى، وهو عبارة “إلا إذا كان ذلك ضرورياً لوقاية النظام الاجتماعي”، هو خطاب من الدستور إلى المشرع لا إلى جهة الإدارة، وقد قصد به إلى تمكين المشرع من أن يصدر في الوقت المناسب التشريع المناسب لمناهضة الدعايات التي تهاجم أسس النظام الاجتماعي. والواقع من الأمر أن التشريعات المختلفة التي تعاقبت لتنظيم حرية الصحافة تتساند جميعاً للدلالة على هذا المعنى في تفسير المادة 15 من دستور سنة 1923.
كما أنه لا يمكن القول بأن الحكومة قد استندت في تعطيل جريدة مصر الفتاة إلى نظرية الضرورة؛ إذ فضلاً عن عدم توافر أركانها هنا، فإن الحكومة نفسها لا تتمسك في دفاعها بهذه النظرية، بل تستند إلى العبارة الأخيرة من المادة 15 من الدستور. وقد ذكرت وزارة الداخلية ذلك صراحة في المذكرة التي رفعتها إلى مجلس الوزراء لاستصدار قرار تعطيل الجريدة. وجاء في المذكرة ما يأتي: “ونظراً إلى أن الدستور في المادة 15 قد رخص في وقف وإلغاء الصحف بالطريق الإداري إذا كان ذلك ضرورياً لوقاية النظام الاجتماعي؛ لذلك تتشرف وزارة الداخلية برفع الأمر إلى مجلس الوزراء للتفضل بالنظر في الموافقة على إلغاء جريدة مصر الفتاة”. وقد وافق مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 28 من يناير سنة 1951 على طلب وزارة الداخلية المبين في مذكرتها، فيكون المجلس قد أصدر قراره بإلغاء الجريدة لا تمسكاً من جانب الحكومة بحق الضرورة، لانعدام توافر أركانها في مثل هذه الحالة، بل استنادا إلى نص المادة 15 من الدستور القديم. وغني عن البيان، بعد الذي تقدم، أن المادة المذكورة لا تجيز للإدارة مصادرة الصحف قبل صدور تشريع ينظم هذه المصادرة الإدارية على النحو المتقدم؛ ومن ثم يكون القرار الإداري الصادر من مجلس الوزراء بإلغاء صحيفة المطعون لصالحه قد وقع باطلاً وجاء مخالفاً لأحكام الدستور الذي كان قائماً وقت صدور القرار.
ومن حيث إن محكمة القضاء الإداري قضت بحكمها الصادر في 26 من يونيه سنة 1951 في الدعوى رقم 587 لسنة 5 القضائية والتي أقامها المطعون لصالحه على وزارة الداخلية ورياسة مجلس الوزراء “برفض الدفع بعدم الاختصاص، وفي الموضع بإلغاء القرار الصادر من مجلس الوزراء في 28 من يناير سنة 1951 بإلغاء جريدة مصر الفتاة، وألزمت الحكومة بالمصرفات وبمبلغ خمسمائة قرش مقابل أتعاب المحاماة”. وأقامت قضاءها – حسبما يتضح من آخر حيثيات الحكم – على ما استخلصته من مخالفة قرار مجلس الوزراء بإلغاء جريدة مصر الفتاة لحكم المادة 15 من الدستور الملغى، وقالت إنها بالمبادئ التي قررتها تقيم حرية الصحافة على ركن من أركان الدستور؛ إذ حرية الصحافة هي السياج لحرية الرأي والفكر، وهي الدعامة التي تقوم عليها النظم الديمقراطية الحرة، إلا أن المحكمة يعنيها في الوقت ذاته، وقد انضمت نقابة الصحفيين إلى المدعي، أن تنبه إلى المسئوليات الخطيرة التي تلقيها هذه الحصانة على عاتق الصحافة وإلى وجوب الاضطلاع بهذه المسئوليات لوجه الوطن والمصلحة العامة وفي حدود القانون والنظام، فبقدر الحرية تكون المسئولية. وإذا كان الدستور الملغى – وكذلك القائم اليوم – قد كفل للصحافة حريتها وعصمها من تعسف الإدارة، فذلك لأنه افترضها صحافة رشيدة لا تميل مع الهوى، ولا تتجه إلا إلى مصلحة عامة. وقدرت المحكمة أن في مخالفة قرار مجلس الوزراء محل ذلك الطعن لأحكام الدستور ما يكفي وحده للقضاء بإلغائه دون أن ترى محلاً لأوجه الدفاع الأخرى من جانب المطعون لصالحه.
ومن حيث إنه يبين من ذلك أن الحكم المشار إليه، وهو حائز لقوة الشيء المقضى به قد أدان قرار مجلس الوزراء الصادر في 28 من يناير سنة 1951 بعدم المشروعية، لأنه خالف حكم الدستور الذي صدر القرار في وقته، وعلى هذا الأساس أقام قضاءه بإلغاء ذلك القرار، وهذا الأساس مرتبط بمنطوق الحكم ارتباط العلة بالمعلول؛ وبهذه المثابة يحوز السبب الذي قامت عليه نتيجة الحكم قوة الشيء المحكوم فيه كالمنطوق ذاته؛ فلا وجه، والحالة هذه، لما أثاره الحكم المطعون فيه بين أسبابه، من أن حكم إلغاء قرار مجلس الوزراء قد قام على تفسير فقهي للمادة 15 من دستور سنة 1923، واكتفى بما قضى به من إلغاء القرار الطعون فيه بهذا التفسير دون أن يتطرق لبحث أوجه الدفاع الأخرى. ولا محل للعودة لبحث مشروعية القرار الإداري ولا لفحص أسبابه ومبرراته والظروف التي أحاطت بإصداره، بعد إذ قضى عليه حكم الإلغاء بأنه قرار مخالف تماماً لحكم الدستور والقانون. وقد حاز ذلك الحكم قوة الشيء المقضى به في ظل قانون مجلس الدولة رقم 9 لسنة 1949، وتحصنت جميع الآثار المترتبة عليه. هذا فضلاً عما قضى به الحكم الصادر من محكمة جنايات مصر في القضية رقم 9299 لسنة 1950 (جنايات السيدة زينب 6 صحافة) بجلسة 18 من مارس سنة 1952، والذي حاز قوة الشيء المقضى به من “براءة كل من الأستاذ أحمد حسين والأستاذ عبد الخالق النكية مما أسند إليهما، وأعفتهما من المصروفات”؛ لأسبابه التي يخلص منها أن المقالات التي نشرت في جريدة مصر الفتاة والتي ألغيت الجريدة من أجلها لم تكن – كما زعم الأمر الإداري الصادر بإلغائها – محاولة لقلب النظام الاجتماعي في البلاد، ولم تكن دعوة سافرة إلى التحريض على إثارة الفتن والقلاقل بين مختلف الطوائف، وإنما كانت دعوة مبرأة من الشوائب تهدف إلى تقصي الإصلاح؛ فليس ثمة خطأ ما يمكن إسناده إلى المدعي في المقالات التي نشرت بالأعداد التي قدم للمحاكمة الجنائية من أجلها وإذا كان هذا الحكم لم يتنازل في قضائه كل ما نشره المدعي في أعداد جريدته على مدى الشهور والأيام، فإن فيما قضى به من براءة المذكور فيما عرض أمره عليه من الأعداد التي صادرتها الإدارة، وهي التي أمكن نسبة الخطأ إليه فيها، ما يرفع عنه التهمة التي نسبت إليه ويبرئه منها نهائياً لعدم الجناية، وبالتالي ينفى عنه ركن الخطأ الذي – لو صح وقوعه من جانبه – لأسقط مسئولية الإدارة، تلك المسئولية التي لا يشفع في إعفاء هذه الأخيرة منها وقوعها في خطأ فني أو قانوني في تفسير مدلول المادة 15 من دستور سنة 1923؛ ذلك أن الخطأ هو واقعة مجردة قائمة بذاتها، متى تحققت أوجبت مسئولية مرتكبها عن تعويض الضرر الناشئ عنها، بقطع النظر عن الباعث على الوقوع في هذا الخطأ؛ إذ لا يتبدل تكييف الخطأ بحسب فهم مرتكبه للقاعدة القانونية وإدراكه فحواها، فالخطأ في فهم الواقع أو القانون ليس عذراً دافعاً للمسئولية؛ وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب فإنه يكون قد أخطأ في تأويل القانون وتطبيقه، ويكون الطعن فيه قد قام على أساس سليم يتعين قبوله، والقضاء بإلغاء الحكم المطعون فيه، وتكون مساءلة الحكومة عن تعويض ما لحق المدعي من ضرر بسبب ذلك على أساس سليم من القانون، وتقدر المحكمة هذا التعويض في ضوء الظروف والملابسات التي اكتنفت إصدار القرار المذكور تعويضاًً شاملاًً بمبلغ ألف جنيه.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وبإلغاء الحكم المطعون فيه، وبإلزام الحكومة بأن تدفع للمدعي مبلغ ألف جنيه على سبيل التعويض والمصرفات المناسبة، ورفضت ما عدا ذلك من الطلبات.
وسوم : حرية الصحافة